«إسرائيل» من الداخل: خلافات لا توقف الحرب.
موقع: حبر
منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى توالت التغيّرات في «إسرائيل» على عدة مستويات؛ حكوميًا انضمّ طيف معارض لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومقرّب من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى التشكيلة الحكومية الموسعة ومجلس الحرب فيها. وإن ساهم هذا التوسع في تقوية الحكومة، إلا أن خلافات شابتها حول أهداف الحرب وأولوياتها. جماهيريًا، تبدّل الرأي العام الإسرائيلي تجاه التيارات السياسية المختلفة مع الحفاظ على موقف عامٍ يؤيد الحرب حتى لو طالت. أما الولايات المتحدة التي هرعت منذ اليوم الأول لنجدة «إسرائيل»، وأيدت بشكل مطلق أهدافها المعلنة من الحرب على قطاع غزة، كما قدمت لها كل عونٍ عسكري وسياسي وإعلامي ممكن، بدا أنها بعد 100 يوم على الحرب تدفع باتجاه مرحلة عسكرية أقل حدةً مع البحث عن مسارات سياسية تلبي مصالح «إسرائيل».
نحاور في هذه المقابلة الباحث السياسي المتخصص في الشأن الإسرائيلي، أليف صبّاغ، حول المشهد السياسي الداخلي والرأي العام الإسرائيلي، وما يعنيه فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة في «القضاء على حماس» واستعادة الأسرى أحياء، بالإضافة إلى تغيّر المقاربة الأمريكية تجاه الحرب وتأثير ذلك في مسار الحرب.
حبر: بعد 100 يوم على الحرب، كيف يبدو المشهد السياسي الداخلي في «إسرائيل» اليوم؟ وكيف تتعمق التصدعات في الإجماع الإسرائيلي على أهداف الحرب وخيارات وقف إطلاق النار؟
أليف صبّاغ: يمكن الحديث عن الخلافات في المشهد السياسي الداخلي على مستوييْن، الأول هو المستوى الحكومي، بمعنى الحكومة المصغّرة والحكومة الموسعة التي تشكلت بعد الحرب بانضمام أعضاء تحالف أحزاب بيني غانتس وجدعون ساعر، ما جعل الحكومة الجديدة أثبت وأقوى، لكنها تتضمن خلافات كانت موجودة في الأساس قبل الحرب، تحديدًا حول مسألة التعديلات القضائية، وهو ما ينعكس على الحكومة الموسعة. ولكن تبقى الحكومة الضيقة هي الطرف الأقوى والأقدر على الاستمرار بغض النظر عن بقاء غانتس فيها أو تركها.
بالإضافة إلى ذلك، قبل الهدنة كان هناك خلاف في الحكومة الموسعة على أولويات أهداف الحرب. فكان غانتس، وهو يمثل صوت أهالي الأسرى، ينادي بعقد صفقة تبادل وتحرير الأسرى الإسرائيليين ثم الاستمرار في الحرب، بينما كان نتنياهو يرى أن استمرار الحرب و«القضاء على حماس» يأتي أولًا، وأن تحرير الأسرى سيكون تحصيلًا لهذا الانتصار الذي يدّعيه. واليوم يعود هذا الخلاف، بمعنى أيهما يسبق الآخر، إنهاء الحرب أم عقد صفقة تبادل الأسرى؟ ما يزال نتنياهو مصرًّا على استمرار الحرب، ويؤيده في ذلك أهالي الأسرى ممن قُتلوا في غزة؛ ثأرًا لأبنائهم وإن كانوا قُتلوا بغارات إسرائيلية. أما غانتس ومعه أهالي الأسرى الأحياء فيريدون عقد صفقة لتبادل الأسرى.
طالما أن الحرب قائمة فستبقى الرواية المسيطرة داخل «إسرائيل» هي التهديد الوجودي، وعليهم أن يتحدوا بغضّ النظر إن كان أي منهم يمينيًا أو يساريًا أو وسطيًا أو متدينًا أو علمانيًا.
أما المستوى الثاني، فيتمثل في خلافاتٍ بين الحكومة والجيش، خصوصًا مع تشكيل رئيس الأركان في الجيش لجنة تحقيقٍ لبحث أسباب الإخفاق في السابع من تشرين الأول. وهو ما أثار الشكوك لدى نتنياهو ووزراء حكومته المصغرة بأن رئيس الأركان يقيم هذه اللجنة استعدادًا للتحقيق الرسمي الذي سيقام بعد انتهاء الحرب، وإنني على قناعة تامة بأن شكوكهم في محلها. يقول رئيس الأركان إنه يريد أخذ العبر مما حصل في السابع من تشرين الأول تفاديًا لتكراره، ويردّون عليه بأن الجيش طالما استخلص العبر بعد انتهاء الحدث مباشرة، وأن ما يريده هو الاستعداد لما بعد الحرب قبل انتهائها. في الحقيقة، كل منهم يفكر في الانتخابات القادمة وما بعد الحرب: أي لجنة تحقيق ستتشكل؟ من ستتّهم؟ أي روايةٍ ستقبل وأيها سترفض؟ من سيكون مذنبًا؟ ومن سيدفع الثمن؟
هذه خلفية الصراعات الحالية، وقد تنتج كل يوم نقاط خلاف جديدة، لكن في فترة الحرب -وهو من مصلحة نتنياهو- يغلب الصمت، ويجري التغلب على بعض هذه الصراعات أو تأجيلها لما بعد الحرب، حيث قد تعود حينها أوسع مما هي عليه اليوم. لذا، فإن هذه التصدعات ليست حاليًا ذات تأثير كبير على مسار الحرب، خصوصًا أن نتنياهو منذ اليوم الأول قدّم الحرب على أنها حرب وجودية، رابطًا بين هجوم السابع من تشرين الأول والنازية وداعش، وكذبَ إلى مستويات لا تصدق عندما تحدث عن تقطيع الرؤوس وحرق الناس والاغتصاب، محاولًا تجنيد الرأي العام الإسرائيلي، وكذلك الغربي الرسمي، لمصلحة روايته الكاذبة في سبيل الدفاع عن «إسرائيل». لكن المجتمع الإسرائيلي اليوم، إلى جانب الأمريكيين والأوروبيين، لا يرون أن «إسرائيل» في خطر وجودي. إن الحركة الصهيونية باتت مفضوحة اليوم، خصوصًا مع تراجع مصداقيتها لدى الرأي العام الأوروبي وفقدان الرواية الإسرائيلية لشرعيّتها، وهذا هام جدًا. لكن طالما أن الحرب قائمة فستبقى الرواية الرسمية المسيطرة داخل «إسرائيل» هي التهديد الوجودي، وعليهم أن يتحدوا بغضّ النظر إن كان أي منهم يمينيًا أو يساريًا أو وسطيًا أو متدينًا أو علمانيًا.
كان هناك الكثير من التعويل على الجبهة الداخلية الإسرائيلية لوقف الحرب على غزة لأسباب مرتبطة بالوضع الاقتصادي أو قضية الأسرى، ولطالما افترضنا أن المجتمع الإسرائيلي لا يحتمل حربًا طويلة. بعد مرور 100 يوم، ما زالت الغالبية العظمى من المجتمع مؤيدة للحرب. كيف تفسر هذا؟
بصراحة، إن الكثير من التحليلات حول قدرة «إسرائيل» على الاستمرار لفترة طويلة في الحرب مبنيّ على تصورات قديمة لم تنظر إلى ما هو جديد في هذه الحرب، ومن ذلك حالة العجز العربي، والدعم الأوروبي والأمريكي الرسمي المطلق، بالإضافة إلى قدرة نتنياهو على تجنيد المجتمع الإسرائيلي باعتبار هذه الحرب حربًا وجودية كما أسلفنا، وهو ما لم يُطرح في أية حروب سابقة على قطاع غزة، ولا في حرب تموز 2006 على لبنان. في الماضي كنتَ تجد معارضةً إسرائيلية للحرب، أما الآن فلا توجد أية معارضة لها، وكل من يخرج ضد الحرب ولو كان شخصًا واحدًا يحمل لافتة فإنه يُعتقل، حتى أن مديرة مدرسة في تل أبيب، حيث يسيطر التيار الليبرالي، لا الصهيوني الديني كما في القدس مثلًا، نشرت على فيسبوك مقالًا من صحيفة هآرتس يقول إن «إسرائيل» فشلت في تحقيق أهداف الحرب، ضُربت بعدها من الطلبة والأهالي، واستدعيت إلى البلدية وأقيلت من وظيفتها. لهذه الدرجة الشمولية يتجنّد المجتمع الإسرائيلي مع الحرب. وقد كان العرب الفلسطينيون في الداخل يخرجون في مظاهرات في الأيام الأولى من أي حرب، أما في هذه الحرب فهناك اوامر عسكرية لمنعهم من ذلك، حتى أن المحكمة العليا أصدرت قرارًا يؤيد منع الشرطة للمظاهرات.
أما بخصوص الاقتصاد الإسرائيلي فهو كبير وقوي جدًا، وطالما أنها لم تخسر الاستثمارات الأجنبية الكبيرة المقدرة بعشرات المليارات؛ الأمريكية والأوروبية -وتلك العربية عن طريق الصناديق الأمريكية- فإن «إسرائيل» ترى أنها بحالة اقتصادية جيدة، ويمكنها استعادة الخسائر في الاقتصاد دون مشاكل. حتى إعادة الإعمار في غزة إن حصل فإن أمواله ستدخل إلى البنك المركزي الإسرائيلي. وبشكل واضح وصريح أقول إن الإسرائيليين يعتقدون بإمكانية تحويل العرب إلى مصدر لدفع تكاليف الحرب، قبل أيام نُشر خبر مفاده أن نتنياهو طلب من الإمارات دفع رواتب البطالة لفلسطينيي الضفة الغربية الممنوعين من دخول «إسرائيل»، وهو طلب فاجأ رئيس الإمارات محمد بن زايد. تريد «إسرائيل» أن يدفع العرب ثمن ما سببته هي من خسائر في قطاع غزة.
وفي ما يتعلق بقضية الأسرى، فقد استطاع نتنياهو شقّ صفوف أهالي الأسرى إلى قسمٍ يطالب بعقد صفقة سريعة مهما كلّف الثمن، وقسم آخر يشجع استمرار الحرب، أي أهالي الأسرى القتلى بفعل الغارات الإسرائيلية، وهؤلاء هم من يلتقي بهم نتنياهو ويعتمد عليهم.
عمومًا، ما هي اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي اليوم؟ وما البدائل المطروحة أو التيارات السياسية الصاعدة لحكم «إسرائيل» بعد الحرب؟ وهل ستغير الحرب على غزة شكل السياسة داخل «إسرائيل» في اليوم التالي من توقفها؟
دعني أقول إن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي لحظيّة؛ تتغير بتغير الأحداث، لذا لا يمكن الاعتماد عليها بشكل دائم، أي أنها قد تكون بعد الحرب مختلفة عما هي عليه خلالها. عمومًا، وخلال الحرب، يمكننا أن نرى تراجعًا واضحًا في شعبية نتنياهو، وتقدمًا لشعبيّة غانتس. لقد ترك غانتس موقع المعارضة وانضمّ بعد الحرب للائتلاف الحكومي انطلاقًا من المسؤولية الصهيونية، أو المسؤولية القومية، وبصفته عسكريًا غير مسؤول عن الفشل في السابع من تشرين الأول، لذا انجذبت إليه شريحة من الجمهور.
تشير مجمل استطلاعات الرأي في الأيام الأخيرة إلى أن حصول انتخابات جديدة سيفرز تقدّمًا في تحالف غانتس-ساعر من 12 مقعدًا في الكنيست إلى ما معدله 33 مقعدًا، فيما سيتراجع الليكود بزعامة نتنياهو من 32 إلى 20 مقعدًا. وتشير الاستطلاعات كذلك إلى تراجع حزب العمل، وحزب «هناك مستقبل» بزعامة يائير لابيد، وتقدّم لحزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغادور ليبرمان، فيما تحافظ الصهيونية الدينية على المقاعد نفسها.
لكن السؤال المثير للاهتمام هو ماذا لو تشكّلت أحزاب جديدة بعد انتهاء الحرب؟ ثمة توقعات بإنشاء أحزاب جديدة، أحدها قد يتشكل برئاسة يوسي كوهين رئيس الموساد السابق، في هذه الحالة سيحصل على مقاعد من حصة الليكود وغانتس ولابيد. رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت دعم حكومة نتنياهو وذهب شخصيًا بسلاحه إلى الحرب ما زاد من شعبيته، ولو أنه شكّل حزبًا -مبتعدًا عن لابيد- فإنه سيحصل على مقاعد في الكنيست على حساب الليكود ولابيد وسموتريتش وبن غفير. إن أي حزب جديد سيحصد مقاعده على حساب الأحزاب الكبيرة.
باختصار، ليس لدي شكّ أن حصول انتخابات جديدة بعد الحرب سيشهد حضور أحزاب جديدة، وفي كل الأحزاب -القديمة والجديدة- ستحضر القيادات العسكرية، ليست تلك التي فشلت في السابع من تشرين الأول، وإنما التي أثبتت أنها تطوعت وقاتلت، سينضم هؤلاء إلى أحزاب سياسية لأن الاستنتاج في «إسرائيل» اليوم هو أن الكنيست بحاجة إلى قيادات عسكرية، وأن وضع الثقة فيها أهم من وضعها في القيادات السياسية. سيشهد الكنيست تقدمًا للقيادات العسكرية حتى يستعيد الجيش، بلباسٍ مدني، قوته وهيبته وقراره في أي حكومة قادمة. ومع التوقعات بغياب كل من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، فمن المرجح أن يكون هناك حكومة صهيونية ليبرالية، ليست أقل تطرفًا ودموية من الحكومة الحالية، لكن بدون دوافع دينية بقدر ما لديها من دوافع سياسية؛ صهيونية وأمريكية.
بالحديث عن سعي الجيش الإسرائيلي لاستعادة هيبته وترميم صورته التي اهتزت يوم السابع من تشرين أول الماضي. اليوم، مع صعوبة تحقيق أهداف الحرب المتمثلة في القضاء على حماس واستعادة الأسرى أحياء، ما الذي يعنيه هذا الفشل؟ وهل ما يزال المجتمع الإسرائيلي يثق بجيشه؟
لنرجع إلى ما قبل الحرب بقليل، حينها اختلفت مع بعض الأصدقاء حول ما يحدث للجيش الإسرائيلي، كان طرح بعضهم أن الجيش الإسرائيلي منهار، وأن سلاح الطيران منقسم على ذاته. وكنت أقول إنه إذا ما نشبت حرب، وهو ما كان يريده نتنياهو، فسيعود الطيارون من خارج البلاد، وسيعتلون طائراتهم ويحاربون ويقتُلون دون حساب، فهذه هي الصهيونية الليبرالية المعارضة الموجودة خارج البلاد، وهو ما حصل بالفعل، بعد الحرب عاد آلاف الجنود، ومن بينهم طيارون كانوا أول من ارتكب المجازر في غزة.
لقد فقد الجيش الإسرائيلي هيبته أمام الجمهور الإسرائيلي، والعالم كله، وكان لابد من استعادتها من خلال المجازر لإثبات أن الطيران الإسرائيلي لم يتراجع، إنما ما يزال يحافظ على قدرته في تدمير مدنٍ بأكملها، وأنه ما يزال يحافظ على قدراته العسكرية والتكنولوجية، وعلى دعم الولايات المتحدة الأمريكية مهما بلغ الخلاف بين نتنياهو وبايدن.
في نظر الإسرائيليين، أي على المستوى الشعبي، أثبت لهم الجيش والطيران أنه ما يزال محافظًا على قوة الردع الإسرائيلية. فشل الجيش في المعركة الميدانية في غزة، لكنه لم يفشل في عملية التدمير من الجو، وهو ما يلبّي طموحات الحكومة والجيش الإسرائيلي، كما يلبّي مشاعر الجمهور الإسرائيلي، هذا ما يريده الإٍسرائيلي، فلا يشفي غليله إلا هذا الدمار. تصوّر أن صحافيًا إسرائيليًا قال إنه لا يستطيع النوم إلا بعد رؤية الدمار في غزة، وآخر قال إنه كان يريد أن يرى مقتل 100 ألف فلسطيني في اليوم الأول من الحرب. هذا جنون، وهكذا هو الجمهور الإسرائيلي، إنهم يعبّرون عما يدور في ذهن كل مواطن صهيوني.
فشل الجيش في المعركة الميدانية في غزة، لكنه لم يفشل في عملية التدمير من الجو، وهو ما يلبّي طموحات الحكومة والجيش الإسرائيلي، كما يلبّي مشاعر الجمهور الإسرائيلي.
أحد الأهداف الإسرائيلية المعلنة للحرب هو أن لا تشكّل غزة خطرًا على «إسرائيل»، هذا هدف غامض وتضليليّ، ما الذي يعنيه هذا الهدف؟ إما أن تغرق غزة في البحر، أو أن يُهجّر سكانها، أو أن يُقضى على المقاومة والشعب الذي ينتج هذه المقاومة. إن القتل والتدمير أهداف غير معلنة، وقد حققها الإسرائيليون بشكل غير مسبوق. أما أهدافهم المعلنة في القضاء على حماس وتحرير الأسرى أحياء فهذا لم يحصل ولن يحصل.
رغم ذلك، ما يزال الجمهور الإسرائيلي يثق في جيشه، يثق تحديدًا في سلاح الطيران وقدرته التدميرية. مثلًا، تظهر بعض استطلاعات الرأي العام أن أغلبية المجتمع تؤيد اليوم توجيه سلاح الطيران ضربة استباقية إلى حزب الله في لبنان، حتى لو كان تكلفتها ردّ من الحزب، إنهم يريدون إظهار قدرتهم التدميرية ليصيب لبنان ما أصاب غزة، في رسالة للجميع مفادها أن سلاح الطيران قادر على الوصول إلى أي مكان وتنفيذ كل عملية ممكنة. يضاف إلى ذلك أن ما فعله الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال ثلاثة أشهر؛ حيث وصل عدد شهداء المقاومة اللبنانية إلى 160، من بينهم قيادات في الحزب، بالإضافة إلى اغتيال صالح العاروري، هي إنجازات تُقدم للجمهور الإسرائيلي وتزيد من ثقته في جيشه.
مع بداية الحرب، هرعت الولايات المتحدة لدعم «إسرائيل» وأيدت بشكل مطلق خيارات الاحتلال تجاه الحرب في غزة. لكن مع عجز «إسرائيل» حتى الآن عن تحقيق أهدافها المعلنة، بدا أن الولايات المتحدة تضغط على الكيان من أجل الدخول في ما يسمى «المرحلة الثالثة» من العملية البرية؛ أي مستويات قتالية أقل حدة. مع اعتبار أطراف في الإدارة الأمريكية أنه «لم يعد في الإمكان مواصلة القتال بوتيرته الحالية»، وأنه يتوجب «إعادة النظر في الهدف الكبير صعب التحقق».
كيف تغيرت المقاربة الأمريكية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة خلال 100 يوم من الحرب؟ وهل لهذا التغيّر أن يؤثر في مسار الحرب؟
منذ اليوم الأول فزعت أمريكا من أجل إنقاذ «إسرائيل» من أعدائها، وكانت تخشى وقوع هجومٍ من لبنان في اليوم التالي لطوفان الأقصى، لهذا أرسلت بوارجها إلى شرق المتوسط حتى تهدد لبنان وتمنع حزب الله من القيام بأية أعمال عسكرية مشابهة لطوفان الأقصى. لكن، مع مرور الأيام الأولى من الحرب، ظهر خلاف بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، تحديدًا عندما طلب بايدن من نتنياهو تصورًا لما بعد الحرب. صحيح أن أمريكا و«إسرائيل» متفقتان على أهداف الحرب وأبعادها الإقليمية والدولية، ولكن هناك اختلاف على دوافعها، حيث لدى «إسرائيل»، إلى جانب أهدافها الإقليمية والدولية، دوافع دينية، وقد وصفها نتنياهو بأنها حرب «يشوع بن نون»، التي جاء في التوراة عنها: «وَحَرَّمُوا (أي قتلوا) كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ»، أي أنها حرب إبادة بكل معنى الكلمة، لذا يستخدم نتنياهو وصف «إبادة حماس»، دون التفريق بين حماس وأي فلسطيني في قطاع غزة.
بالمقابل، دوافع أمريكا سياسية لهذه الحرب سياسية، أي أنها تستخدم العسكر من أجل الحصول على أهداف سياسية على المستوى المحلي والفلسطيني والإقليمي والدولي. لهذا، عندما تختلف الدوافع تختلف الرؤية؛ رؤية ما بعد الحرب وما يجري خلالها، لذا فإن أمريكا تتساءل عن المستقبل: ماذا يريد الإسرائيليون بعد القضاء على حماس؟ ومن سيحكم غزة وكيف سيحكمها بعد كل هذا الدمار؟ لكن نتنياهو لا يفصح عن اليوم التالي للحرب، إنما يمارس الدمار الشامل والقتل المكثف، وهو ما يروق له لأنه بذلك يوحّد حكومته ويسير بها مع بن غفير وسموتريتش إلى حرب إبادة استعدوا وأعدّوا الرأي العام لها، لكن هذا لا يروق للأمريكيين في ما يتعلق بنظرتهم السياسية لماهية الحرب من أجل الوصول إلى أهداف سياسية. وهنا نذكر ما قاله وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن للإسرائيليين بعد مضيّ شهر على الحرب بأنكم ربما تحقّقون إنجازات عسكرية تكتيكية هامة جدًا، لكنكم إن واصلتم هذا المشروع فسوف تخسرون خسارة استراتيجية، وسنخسرُ معكم. إن ما تعنيه الخسارة الاستراتيجية هنا هو الخسارة السياسية.
مع غياب الأهداف السياسية الصهيونية لما بعد الحرب، تحوّلت أمريكا من إنقاذ «إسرائيل» من أعدائها إلى إنقاذها من نفسها، من جنون العظمة الذي أصاب الإسرائيليين جمهورًا وعسكرًا وحكومة، فقالت أمريكا: لا، نريد أن نفهم إلى أين أنتم ذاهبون. وبدأت تبحث في الخيارات السياسية، مجندةً حلفاءها العرب للسير في مسارها السياسي؛ أي إنهاء حماس، ومنح «إسرائيل» سيطرة أمنية على قطاع غزة، مع إدارة مدنية فلسطينية وعربية، ومراقبة دولية، وهو ما يصبّ في مصلحة «إسرائيل».
بالإضافة إلى غياب الأهداف السياسية إسرائيليًا، كان الميدان العسكري مؤثرًا في المقاربة الأمريكية وتوجهها نحو مراحل قتالية أقل حدّة، حيث أن صمود المقاومة الفلسطينية لم تتوقعه أمريكا و«إسرائيل»، ولا أيّ من الدول العربية، هذا صمود أسطوري. ولكن الصمود الأسطوريّ الأكبر هو الصمود الشعبي، أراد نتنياهو تهجير الأهالي خارج قطاع غزة، ويتحدث الإسرائيليون مؤخرًا عن السيطرة على محور فيلادلفيا (الشريط الحدودي بين غزة ومصر) لدفع الفلسطينيين إلى ما يسمى الهجرة الطوعية، التي توافق عليها أمريكا ضمنيًا، لكن هذا التهجير لم يحصل حتى الآن، ليس لأن «إسرائيل» وأمريكا لا تريدانه، إنما بسبب صمود الشعب الفلسطيني الذي يصر على ألا يهجر بلاده مرة أخرى.
ومن العوامل التي ساهمت في تغيير المقاربة الأمريكية هو التحوّل لدى الشعوب الغربية، بما فيها اليهود الأمريكيين، ضدّ الأنظمة الموالية لـ«إسرائيل» والداعمة لها. بايدن يخسر في استطلاعات الرأي العام بسبب دعمه لـ«إسرائيل» والمجازر التي ترتكبها، لذا يصرّح بمعارضته للمجازر، ويريد أن تدخل «إسرائيل» مرحلة تاليةً من الحرب تكون أقل حدة، لكن استمرار الدعم الأمريكي، العسكري والسياسي والإعلامي، لـ«إسرائيل» يضع على تصريحات بايدن كلها علامة استفهام. وينسحب الوضع نفسه على أوروبا.
لكن، هذا التغير في المقاربة الأمريكية للحرب لن يؤدي إلى وقف إطلاق النار ما لم يتغيّر الموقف العربي، فإذا شعرت أمريكا أنها ستخسر مصر مثلًا فسوف ينقلب موقفها آنذاك. تستطيع الدول العربية أن ترفض التوجه الأمريكي، وأن ترفض مساعداتها المالية والعسكرية، وتمنع طيرانها من نقل الذخيرة من مخازنها الموجودة في بلادنا إلى «إسرائيل»، يكفي هذا الموقف، وهو لا يكلّفهم شيئًا. لا يريد الشعب الفلسطيني مساعدة الجيوش العربية، إنما يريد مواقف وإرادةً عربية، وهو ما لا تملكه الدول العربية.