مفكير يقدم المجموعة القصصية: “يا أبنائي هذه ثوابتنا الدينية”
زبيدة هرماس روائية تزرع الأمل في النفوس، وتمتح من عبق الغرب الإسلامي، وعمقه الحضاري، تكتب للوطن ولأبنائه، لاسيما اليافعين، والشباب، أجمل الحكايات بلغة سلسة ومبسطة، رسمت لنفسها مسارا أدبيا غايته عشق الوطن، وتقريب قيمه ومميزاته لهم، مجموعتها القصصية “يا أبنائي هذه ثوابتنا الدينية” تأتي ضمن سلسة القصص التربوي، وتقع في 140 صفحة من الحجم الصغير، تتوخى زبيدة الإسهام في تحقيق مهمة العلماء النبيلة، التي تتجلى في التعريف بالثوابت الدينية.
المجموعة صيغت بأسلوب سلس تتخلله المغامرة والمتعة والإيجابية والهمة والشجاعة والطموح… تنتقل فصولها بين عتبات الزمان والمكان ابتغاء الولوج إلى الحياة الطيبة.
صورة الغلاف لشباب، وشابات يحملون حقائب العلم والمعرفة، يحدوهم الأمل في اكتشاف التاريخ المجيد لبلدهم، ويرسمون معالم مستقبل زاهر وحياة سعيدة، في وحدة أمة وتماسك أخوي.
زبيدة هرماس.. سحر الكتابة وعشق وطن
زبيدة هرماس عاشقة القلم، هامة وشامة، وصاحبة الكلمة المؤثرة والمعبرة عن خوالج النفس الفطرية الطاهرة، قامة من قامات الرواية المغربية، كتابتها عن ما تعشقه وتحس به، من “عشاق الصحراء” وبعد مجموعتين قصصيتين الأولى؛ “كنز في تارودانت” والثانية؛ “لم أرحل إلى الضفة الأخرى” وروايتين “فراشات مكة… دعوها تحلق” و”حب على رصيف القرويين” و”أحلام فلوريدا” و”ثورة وردية” و”حين كنا أطفالا ” و”لا تحرقوا هذا الوطن” و”لا تفتح هذه الرسالة”، تأخذنا كعادتها في رحلة شيقة مزجت فيها بين المعرفة الدقيقة بتاريخ المغرب، والحبكة الدرامية، وتشدك إليها شدا، وأنت تتابع تفاصيل الأحداث كأنك تراها رأي العين. امرأة ارتبطت بالتراث المغربي الحضاري تنقش شخوصها في فسيفساء جميلة، وترسم معالمهم بدقة، وتكشف عن كنه ما يختلج في نفوسهم من أحاسيس وعواطف.
في زمن هيمن فيه جنس السرد على جنس الشعر في الإنتاج الأدبي العربي نظرا للتحولات الحضارية الكبرى التي عرفها العالم العربي والإسلامي بداية القرن العشرين في احتكاكه بالحضارة الغربية، ولحاجة الإنسان للسرد الذي يتوق إليه بفطرته، وبعشقه للحكي والقصص لما فيها من سحر وجاذبية. تأتي المجموعة القصصية “يا أبنائي هذه ثوابتنا الدينية” التي نسجت خيوطها الروائية والقاصة زبيدة هرماس واختارت لها فئة من المجتمع، الشباب اليافع، أمل المستقبل، عشقت الكلمة وأحبت الوطن، فجاء العمل استجابة لرغبة داخلية للقاصة، وحرص على ترسيخ قيم المواطنة في نفوس الناشئة من جيل لم يعش أحداثا نقشها عظماء بمداد الفخر، تضمنت قيم سمة العظماء الذين يحرصون على تربية جيل الغد، إنها رحلة العاشقين.
عبر عتبات أربع: يوم البيعة، البحث عن الإمام الأشعري، الإمام مالك في زماننا، ليلة الإمام الجنيد، تسافر بنا القاصة عبر الزمن، وتتوالى الأحداث لتفك ألغاز وطن صمد أمام الأمواج العاتية ورفض الخضوع، وواجه الغاصبين والمحتلين، بلد الإباء والحرية والتعايش والانتصار للدين وقيم الإسلام السمحة.
مضامين من المجموعة
ميلاد حسن المسيرة:
لم يكن ميلاد حسن عابرا أو بدون ذاكرة، جاء في مرحلة فاصلة من تاريخ المغرب، بداية الطريق نحو استكمال طريق التحرير والحرية، واسترجاع الأراضي المغتصبة، تحت نغمات “صوت الحسن ينادي” يردد والد الحسن مع المطرب كلمات الأغنية طامعا في أن تخفف ألم وجع والدته، وكان اسمه إيذانا بالبهاء والحسن، وطمعا في أن يتوافق اسمه مع خلقه. نشأ يتيما بعد ميلاد أخته حنان وحرصت أمه على تربيته على قيم الرحمة والسكينة. خلف فقدان والده أثرا عميقا في نفسه، لم يكن بالأمر الهين أن تفقد والدك… من سيناديه بحسون بعد اليوم.
منذ تلك اللحظة عاش حسن يتيما، تذكر يتامى زلزال تارودانت، وأنت تحلق مع “فراشات مكة” تتذكر “كنز بتارودانت” المفقود، ومعاناة أهلها مع زلزال عمق من جراحهم، كيف يستغني حسن على حذائه الجميل الحبيب إلى قلبه، فقدان الحذاء والوالد في يوم واحد… خسارة ما بعدها خسارة.
استحضر حسن اللباس الأبيض الذي تدثرت به أمه، ورائحة المسك التي تفوح عطرا… حرص أن يخبر والده بامتلاكه النظارة التي ظل يبحث عنها ثلاث أيام متتالية… وبخ نفسه ولامها على فعلتها لأنها سمع أن أشعة الشمس كانت سببا في الحادث الطارئ… ماذا لو علم الناس أنه تسبب في مقتل والده. “السرعة هي من قتلته”، نزلت بردا وسلاما على حسن… قدمت والدته دعوى قضائية ضد صاحب السيارة. نزلت دموع الرحمة من أعين محبي والد حسن، أقيمت صلاة الجنازة… نعاه المعزون وأسرعوا بجثمانه للمقبرة. حاول حسن أن يظهر كباقي الرجال… تأخر المعزون، وما شغل بال حسن أن يخبر أمه بوجود النظارة. حتى ملابس والده ستغادر البيت للفقراء والمساكين، في منامه أخبر والده بأنه وجد النظارة… قررت أمه الرحيل إلى ورزازات بعد ثلاث سنوات، وكان حسن يرغب في الذهاب إلى الداخلة… أحس بأنه أصبح قويا بعد بلوغه أربعة عشر سنة، وقرر أن ينخرط في رياضة حمل الأثقال… وأن يلعب كرة السلة ليصبح قويا وطويلا.
قيم وطنية:
في مدرسة حسن العمومية حرص على تعلم القيم واحترام الآخرين والانضباط… وفي ساحة المدينة الكبيرة تابع مشاهد لفيلم عن المولى إدريس الأكبر سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم… من هنا تبدأ رحلة التعرف على العظام من الملوك الذين أسسوا دولة الشرفاء بالمغرب، وشاهد امرأة بلباس أمازيغي تقول “نحميك بما نحمي به أنفسنا”… حسن يعشق الممثلين الذين يؤدون أدوار العلماء والأعيان، وهم يؤدون البيعة، من الأدارسة إلى العلويين.
تقف زبيدة عند مفهوم البيعة وتبسطه لأبنائها، ومدى ارتباط المغاربة بثوابتهم وقيمهم وبإمارة المؤمنين. “المسلمون الأولون وضعوا اللبنات الأولى لمؤسسة الحكم القائم على البيعة… على حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل… هذه بيعة تفتح أوراش البناء والنهضة الروحية والمادية” .
ساهم العمل الفني في التعريف بتاريخنا المجيد، وبهويتنا الحضارية واعتزاز الأمة بقيمها ولغتها وأمازيغيتها وعربيتها، حسن شاب ارتبط تاريخ ولادته بمسيرة خالدة خضراء حررت أراضينا الصحراوية من الغاشم الإسباني، وسجل هذا الحدث سينمائيا ليبصم على مرحلة مجيدة من تاريخ المغرب. حصل حسن على الباكالوريا، وتحمل مسؤولية أسرته مبكرا.
إبهاج.. نافذة على ثوابت أمة:
هاجس السرقة بالبيت بعثر أوراقهم… أحكمت الأقفال لمواجهة اللصوص، وكل متسلل، كانت أم إبهاج ترى اللصوص، وتتخيل السارق في كل مكان من البيت، كابوس الخوف جعل إبهاج تفكر في الذهاب لبيت جدها، بدأت تعلمه الإنجليزية وبعض مبادئ الفيزياء، وكان يراجع معها التاريخ والفلسفة والتربية الإسلامية، لأنه خريج جامعة القرويين بفاس، كان يحدثها عن هذه المعلمة التاريخية كثيرا ويقول أنها أقدم جامعة في العالم الإسلامي، وأنها خرجت العلماء، والقضاة، والأطباء وعلماء الفلك والمناطقة، إلى جانب الخطباء والقضاة والأئمة وحتى السلاطين، بل والمقاومين ضد الاحتلال الفرنسي في عصرنا، وتعرفت على فاطمة الفهرية، وعلى قرميد وسواقي القرويين، ويغني لمؤسستها فاطمة الفهرية كلما ارتاحت نفسه “هاني جيت يا فاطمة /هاني جيت /من باب لباب”.
على لسان إبهاج ترحل بنا زبيدة هرماس للتعرف على المذهب الأشعري، ولماذا رضي الناس ما رضيه العلماء من الاجتماع على اختيار أبي الحسن الأشعري في العقيدة والإمام مالك في الفقه والأحكام واختيار الجنيد في التصوف والسلوك.
تعلمت من جدها فتح الأبواب العلمية، وتقليب الكتب، وأخذ الملاحظات والاطلاع على التعليقات والهوامش، تعلمت منه كيف تسافر عبر الأزمنة والعصور من خلال الكتب، وتلتقي بشخصيات عاشت في الواقع، واستقرت بين ثنايا الكتب وصفحاتها، قال لها ذات يوم بصوت متقطع: “إبهاج يا بنيتي، إذا ..أ.. إذا أنا توفيت… فهذه المكتبة من نصيبك… حافظي عليها لتكون منارتك في حياتك”.
تعرفت على علماء من أمثال الإمام الحاكم، و القاضي عياض، وابن الصلاح ، والمنذري والنووي والعز بن عبد السلام وابن حجر … وابن بطال والمزي والبيهقي والخطيب البغدادي وابن عطية وابن عساكر والخطابي….
المتعبة زوجة جده أصيبت بالزهايمر… كثيرة النسيان، هي من أخذت حقيبة الذهب الخاصة بأمها ولم يكن هناك سارق للمنزل، تضع الملح مكان السكر، هنا انتهت معاناة أسرة مع شبح لص لم يكن سوى زوجة جدها.
في حضرة الإمام مالك:
عشق الفتى رياضة الملاكمة، وحفظ أسماء الممارسين والأبطال ودولهم، وبات يحلم بأن يصبح مثلهم قوة وأداء. الفتى المهووس حد الجنون برياضة غير ناعمة، لا يتحملها من بقلب ضعف، رياضة كانت قبل ميلاد المسيح عليه السلام. رسمت في ذاكرته صورة بطله العالمي المفضل في الملاكمة، وتمنى لقاءه، وحرص أشد الحرص على ذلك ليجد نفسه بالمطار وسط شباب يرتدي ملابس بيضاء، ضمن مجموعة تنتظر شخصية تفد من الشرق، ويستقبلها عشاقها بالتمر والحليب، مما أثار استغرابه، تفقد بطله فأخبروه أنه غادر قبل أربع ساعات، فضوله دفعه للتعرف على الوافد الجديد، إنه علم من أعلام الأمة الإسلامية… يجهل الإمام مالك بن أنس، يا لحيرته، هذا إمام دار الهجرة، عالم المدينة جار رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد سنة 93 هجرية، وتوفي عام 173هجرية، هو صاحب المذهب الذي اختاره المغاربة لينير لهم الطريق، ويوحدهم، طلب الفتى منه توقيعا، وذلك الذي كان قال الإمام “تعلم دينك يا بني.. إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينك….” ضاع القميص… عانق قميصه… تاه بين التائهين… أيقظته أمه من سباته… سبح في حلمه الغريب والجميل.
يونس.. الباحث عن الحكمة لصناعة الحياة الطيبة:
يونس فتى يعين والده وفخور بذلك، كانت أمه تخشى أن يتعاطى المخدرات، لكنه كان مسكونا بمستقبله، ومشغولا بتحصيل مصروفه ومصاريف البيت المتواضعة، يتقن الريفية، والإسبانية لغة للتواصل مع السياح والأجانب، آلمه ما أحدثه شباب متهور بحرق الغابة وأثر ذلك على البيئة. رحل لتفقد بيتهم الذي اكتراه سياح أجانب، لم يعرف ما الذي أزعجهم؟ ولما وصل علم أنهم فقدوا كلبهم، عمل ما في وسعه لجلبه إليهم وهو الذي كان، ففرحوا به فرحا كبيرا، زوجة جده هي سبب خروج الكلب، منحته بعض الحرية، ليعيش طليقا، وليس حبيس مالكيه، اكتشف أن السائح الاسباني مسلم يعشق المغرب، ويحب الحياة الطيبة، أثناء بحثه تحدث عن الكرم المغربي. وجد يونس لذة في خدمة الآخر والتفاني في العمل، تحمل مسؤولية النيابة عن أبيه وإدخال السعادة لقلوب ضيوفه، إنه الكرم المغربي، وحسن الاستضافة.
التقى يونس بأحمد من فاس صحبة خوسي الاسباني… تلاقح حضارتين، بل حضارة واحدة ممتدة عبر الزمن في الضفة الأخرى كان أجدادنا يصنعون تاريخا مجيدا ثمانية قرون ببلاد الأندلس، بصمت على مرحلة مضيئة في تاريخ المسلمين، وخلفت علوما وبنت حضارة. أحمد يقول ليونس “عمرك يا يونس هو بدر حياتك، فاجعله مضيئا على ما حولك، انظر إلى هذا الضياء الذي ينتشر في كل مكان”… وما أدهش يونس أن خوصي يبحث عن مسار عالم اسمه الجنيد… وطريقته في التصوف، والساكن بحب الله والذكر والصلاة على رسول الله، “الناس بحاجة إلى تخلية نفوسهم من الرذائل، وتحليتها بالفضائل”.
خاتمة
بين روايات زبيدة وقصصها خيط ناظم يؤكد عمق الرؤية وحب الوطن، عملت القاصة جاهدة لتصاحبنا في رحلة عالم القيم من أجل ترسيخها في الذاكرة المغربية وتلقينها للأجيال، وتتمنى أن تصبح مسلسلا ينطق عبقرية ووطنية لشامخين ما زالت أعمالهم شاهدة عليهم، وبما سطروه من ملاحم وبطولات، فأصبحوا نبراسا منيرا، وبلسما تطيب به قلوب العاشقين. إنه ليس من السهل أن نستوعب اختيارات المغاربة المذهبية، ولا ثوابته الدينية والحضارية، فهرماس دللت الطريق وعملت على توصيف القيم الأصيلة التي تميز ت بها الحضارة المغربية. وركزت على قيمة القدوة من خلال الحكي عن أعلام مروا من الغرب الإسلامي، كان لهم الفضل الكبير على هذا الوطن.