صِناعةُ الظّل بقلم ذ. نورالدين حنيف أبوشامة.
بقلم : ذ. نور الدين حنيف
***
لا يتحدد مفهوم الظل إلا في مرجعية ضوئية، أي في وجود مصدر للضوء، تبعا لشرطٍ هندسي يقبِضُ على المنطقة المعتمة، ثمّ يصفُها ويُقدِّم في حدودها الفيزيقية مفهوماً للظل، بحيث يتعذّر على الناظر أن يُفلتَ من بصرِهِ وجود الشجرة في غياب ظلها مثلا، أو العكس، طالَما أن الضوء في زاوية المرجع. هذا الظل الفيزيائي لا يختبئ ولا يتوارى في وجود مرجعيته، بخلاف الإنسان، الذي قد يختبئ وراء ظله أو قد يتماهى معه أو قد يذهب إلى أقصى من ذلك، فيكون هو الظلَّ نفسَه، أو يكون بلا ظل، مجازا يمكر بحقيقة التصوير.
تكونُ الموجوداتُ في علاقتها بعضها ببعض حالاتٍ مختلفةً من تبادل أدوار الظل. فمرة، وغالباً واطّرادا، نكون نحن الضوء، لا في مفهومه الإشعاعي المسلِّط قوته الفاضحة للظل، ولكن في مفهومه المرجعي، بحيث يكون وجودنا سببا في وجود الظل، وغيابنا عاملا في غيابه… من ثمّة يتحول الموجود الآخر إلى كينونة قادرة على إلغاء فعل الضوءِ وإثباته تبعا لحجم قوّتنا في الظهور والخفاء. ومعنى ذلك أننا نحن من يصنع ثقافة الظل في مفهومها السلبي المدمّر لنسغ العلاقات الإنسانية الموسومة بالعمار الحضاري. إننا بخوفنا وتأويلنا لسلطة الآخر تأويلا يوهيمرياً*، نصنع الهالة المُضخّمة لجسد الآخر أو لظلّه، وندفعه – مستسلمينَ لخوفنا اللامفسّر – إلى أن يكبر ويتعملق حتى يعانق ظلّه في ميلاد ثقافة مُفارِقة تُهرِّبُ المسؤولية إلى هناك حيث الظلّ قادر على امتصاص كلّ أشكال التهمَة لِيخرج من دوائر الإدانة بريئا مثل الذئب والقميص ويوسف… مُخرِجا معه بريئا أيضا ذلكم الجسد القمين بكلّ الإدانات.
نحن الضوء إذن، لكن في خفوتٍ غير مبرّر وغير مقنِع، ومع ذلك نحن الضوء القادر على أن يصنع مفهوم الظل في لبوسه الماسخ، والذي يحوّل الجسد المرئي إلى خفاءٍ لا يُلغي وجود الجسد ولا يُلغي قدرته على الممارسة والتأويل والتحكم، بقدر ما يُحجّم من تغوّل هذه الممارسة والتأويل والتحكم. وبالمقابل، نكون قد صنعنا من ضوئنا ظلالاً أخرى خائفة بالفطرة ومنقادة، وفرحة بهذا الخوف وبهذا الانقياد، في تجلٍّ غريب لما يسمّى بالهوى في شقّيْهِ المتباعدين اشتقاقاً والقريبيْنِ دلالاتٍ، وأقصد الهوى من هوى أي سقط، والهوى من هوى أي عشق.
إنها نظريةٌ للظلّ إن أمكن التعبير، تنسج خيوطها العنكبوتية بمهلٍ وتؤدةٍ شديدين، على مرأى من العيون وفي تغييبٍ كلّي لها. لكنّها نظرية لا تفعل في الدرس الأكاديمي فعلها التنويري والمعرفي كي تأخذ مقعدها المناسب في مدرجات البحث العلمي الجدير بالبناء. إنها نظرية بمفهوم آخر، تقترب من النزعة المُغْرِضة القابلة للترويج بغير اسم كأنها اللقيطة المفعمة بالإثارة والجاذبية في غير مسؤولية، تستثمر كيديا ثقافةَ الحق المشاع الذي يبدو لغير ذي بصر رأياً عارياً من الإدانة فيما هو تهريبٌ خفيّ لثقافة مرفوضة عن طريق التمييع قصد شرعنتها رغم أنف البداهة الرافضة لها.
إنها نظرية للظل، يمجّها العقل السليم ويهواها المنطق الخفيّ الدافع إلى تركيم أرباح الظل على حساب الضوءِ \ المرجع، وعلى حسابنا نحن الموجودات الجسدانية الخائفة. ونهواها نحن أيضاً من حيث إنها ظلالٌ تبشّر وتحمل في أوراقها الغد المعسول الماثل أمامنا بديلاً لقهرنا الاجتماعي اليومي الغشوم. وهو القهر الذي علّمنا أن نُواريَ سوءاتِ من يحبّون العيش خلف الأضواء وخلف أعين الناس حتّى لا يطالهم ما يطالُ القاطنين في الواجهات. لهذا تجدهم يخافون من أبسط أضوائنا أن تتكشّف عوراتهم وخاصّة إذا كان السياق قانوناً جريئاً يُصَادِر كل أوراق التوت خارج المشهد.
تذهبُ نظرية الظلّ والظلال إلى أبعد من هذا وذاك، إذ لا تَني تُعلّم أبناءها البررة تعاليم الخفاء والتجلّي عبر تبنّي عقيدة الظلام. وحيثُ إن الظلامَ نفيٌ للضوءِ وإلغاءٌ له، فإنّ المرتعَ الحقيقي والمناسب لهذه النزعة الهيولانية هو الظلامُ عينُه الذي يتبدّى مقولةً بوجهين: وجه الإعتام الخائف من أبسط شررٍ من الضوء. ووجه الإعتام الطافحِ والكاسح بظلامه الممتد والمميَّز بالقدرة الخارقة على التكتم والتبييضِ والتمويه والمراوغَة.
هكذا، نصبح – نحن الضوءَ – موضوع إشكالٍ لهذه الكائنات المشتغلة بليل، والمخططة بليل. ونصبح مصدر إزعاج لدعتها ومصدرَ تهديد لأمنها. ونتحوّل بفعل إيغالها في الظلامية إلى منهج مضادّ يقضّ مضاجعها ويُربك برامجها في حالٍ واحدة: هي حال إدراكنا مصدر قوّة ضوئنا. خارج هذا الشرط، تبقى الهيمنة للظلام الممنهج، ولأصحابه المُقدَّمينَ إلى الرأي العام باعتبارهم صوراً نموذجية للقيم الإيجابية.
إن الحديث عن القيم في لعبة التبنّي المشروط والتبنّي اللامشروط، يجرّنا إلى الحديث عن أدوار الظل في خلخلة المفاهيم داخل حقل القيم. ولفهم ذلك نتساءل عن طبيعة الوجود الإنساني داخل نظرية الظل…يمارس الإنسان في علاقته بالظل وجوديْنِ، وجودٌ فيزيقي يحدده الإطار الهندسي في علاقة الجسم بالضوء. ووجودٌ سياسي يمتد فيه الجسد بسيطاً يحلم بالاعتلاء ليصير مُرَكّباً يُسْلِم الزّمام للظل كي يكبر على الجسد لا في قطيعة ولكن في التحام من نوع آخر، يبدو فيه التخلي وجها للعلاقة فيما العلاقة مبنية أساساً على الحماية. يتحول الظل إلى وجودٍ موازٍ ومحصّن يحمي الجسد من الموجودات الأخرى .
ويتبدّى هذا الأمر واضحا في مثال السياسي الذي يدخل باب السياسة من أجل قشور السياسة لا من أجل السياسة ذاتِها. والقشور هنا لا ترتبط بالفضْلات المتلاشية عن فاكهة الزمان، وإنما هي الفضُلاتُ المفضّلاتُ التي يجود بها الزمان، وقلّ أن يجود بها، وهي القمينة بتحويل الرعاع إلى أعيان، والأعيان إلى كائنات فضائية. وهنا وتحديداً هنا، يكون الاعتلاء للمواقع أمراً محسوم الإسناد للظل. فهو وحده القادر على تحويل الموازين المادية، من الفقر إلى الغني ومن الغنى إلى الغنى الفاحش… وهو القادر أيضاً على تحويل القناعات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن التديّن الشديد إلى الانفتاح الأشدّ.
من يعقِلُ الظلّ إذن؟ ومن يفكّر فيه بشكل مُراود أكثر من هذه الكائنات الرمادية التي تحبّ أن ترتع بين البياض والسواد. وهي في ديدنها هذا، تُروّج للثقافة النكوصية القاضية بالخوف دائما ممّا خلف الظل من موجوداتٍ تشبه العفاريت، لا في حضورها الخرافي المرتبط بطفولتنا المرتعبة من الظلام، ولكن في حضورها السياسي القائل بقدرة هذه العفاريت على الممارسة واحتكار الممارسة والتخطيط لها بشكل يمنع الضوء من الخروج والتجلّي حتّى لا يعيق أي قبس مهما صغُر، مشروعها الظِّلالي والضَّلالي القابع في زوايا إراداتنا المشلولة بفعل تغوّل مثل هذه الثقافة.
تُطيل هذه الثقافة من أعمار الظل وأصحابه، وتُعطّل مشروع النقيض الذي قد يولد في أيّ لحظة يقرر بعض الضوء أن يعقِلَ الضوءَ في ثقافة جديدةٍ، تدرِكُ أنّ الشمس لها تاريخ ولها استشراف، كما تُدرك أن كلّاً من التاريخ والمستقبل مقولاتٌ مفعمةٌ بالنور.
***
*يوهيميروس: تفترض اليوهيمرية أن الروايات التاريخية تصبح أساطير عندما يبالغ في إعادة سردها