الشباب وأدب الرواية :أسرار التعلق
محمد_شهبون
مكنتني زيارة المعرض الدولي للكتاب بالرباط دورة 2024 من تأكيد قناعتي بهيمنة المقروء الروائي اليوم عند غالبية الشباب القارئ.. فقد كانت الأجنحة الأكثر نشاطا وامتلاء يوم زيارتي هي أجنحة الرواية بامتياز.. خاصة الروايات الشبابية التي تنحو منحى الاشتغال على أدب الخيال العلمي والجريمة وقصص الرعب والفانطازيا..
في هذه الأجنحة تُصادف عشرات الشباب ذكورا وإناثا وهم وقوف ينتقون عناوينهم المفضلة، ويتحلقون حول كاتب يريدون توقيعه على نسخهم.. كل أحاديثهم عن شخصيات الحكايات، أومناقشة أحداثها، أو اقتراح نهايات لها، أو استعجال الأجزاء الموالية..
سمعتُ شابة تقول لصديقتها: “إن الدولة الفلانية لا تملك شيئا تُحمد عليه إلا انتماء الكاتب الفلاني إليها..”
أرى على ملامحهم سرورا متدفقا كلما حازوا نسخهم وضموها إلى صدورهم مطمئنين مبتهجين.. كأنها جرعات أكسجين تعيد الحياة لمختنق يكاد يفارق الحياة.
هذا الإقبال تتبعته من قبل- عبر شبكات التواصل- في معارض عربية أخرى كمعرض القاهرة والدوحة وعمان والرياض.. والصور الملتقطة هناك تُظهر الزخم الشبابي نفسه، والمقروء الروائي عينه..
إذن نحن أمام ظاهرة تهم شباب الوطن العربي في جملتهم..
إنهم يسعون وراء روايات أسامة المسلم(سعودي، مواليد 1977/ دراسة: لغة إنجليزية)، ومصطفى خالد توفيق (مصري، مواليد 1984 تخصص صيدلة)، وعمرو عبد الحميد(مصري، مواليد 1987/ دراسة الطب)، وأحمد مراد(مصري، مواليد 1978/ دراسة السينما)، وحنان لاشين( مصرية،مواليد 1971/ دراسة طب بيطري)، وأيمن العتوم(أردني، مواليد 1972/ دراسة الهندسة)، وأحمد خيري العمري( عراقي، مواليد 1970 / طب أسنان)، وخولة حمدي( تونسية مواليد 1984/ دراسة الرياضيات التطبيقية)
ولا يقر لهم قرار حتى يحصلوا على آخر إنتاجاتهم دون ملل ولا عياء.
ههنا إذن لابد من البحث في الظاهرة ومحاولة استكناه مضمراتها، وتجلية عناصر تركيبها..قصد استثمار هذا الإقبال الشبابي على هذا المقروء، لوضع خطط إقرائية تطور هذه الحالة الإيجابية.
في محاولة فهم الأسباب الثاوية وراء الظاهرة يمكن رص العناصر الآتية:
️المتعة أولا:
الفئة العمرية الشبابية من أكثر الفئات انجذابا إلى وسائل المتعة والترفيه.. ولا يتحقق عندها التحول الكامل نحو استهلاك المنتوج العقلي المجرد والجاد بسرعة وسهولة إلا ما كان مرتبطا حتما باستحقاقات الكسب الدراسي في الثانوية أو في الجامعة.. وهذا أحد تفسيرات الإقبال الكبير لهذه الفئة على منتجات الترفيه والمتعة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
من هنا فإن الرواية- بما تمثله المتعة في أجزاء كبيرة من هويتها- مهوى أفئدة الشباب، لما تحققه لديهم من نسبة كبيرة في تلبية هذه الحاجة.
على أن أنواع الكتابة الروائية تختلف درجاتها في هذا السياق، فروايات الفكرة والشعور، والتجريد الفلسفي، والتعبئة الايديولجية لا ترقى إلى مستوى ما تحققه الروايات البوليسية والرعب والخيال العلمي والفانتازيا من المتعة المتولدة عن حبكات الإلغاز والتشويق في صيغ مشهدية قريبة من الصياغة السينمائية.. ولذلك تحتل هذه الأنواع أعلى سلم مبيعات الكتب في المكتبات والمعارض من قبل الشباب..
️الإسقاطات النفسية:
قديما قال ابن الأثير مفسرا إقبال الناس على شعر المتنبي: “كان ينطق عن خواطر الناس”.
هذه الإلماعة النفسية النفيسة هي جزء من عناصر تفسير الإقبال الشبابي على الرواية، لما ما توفره للقارئ/ الشاب من إمكانيات واسعة لرؤية ذاته تتماهى إلى حد التطابق مع شخصياتها.. فيستشعر بذلك ارتباطا روحيا وتعلقا نفسيا بالرواية لأنها تعبير عن الذات القارئة بشكل من الأشكال..
وكثيرا ما صرح القراء المحترفون بالأثر النفسي الكبير الذي تركته قراءة الروايات عليهم.
(أنظر مثلا ما كتبه الباحث سعيد بنكراد في سيرته).
وتقدم الرواية أيضا فرصا كبيرة للقارئ (والكاتب) لتحقيق ما يعرف نفسيا بالتعويض كآلية تشتغل بها الذات بصورة واعية أو لاواعية لترميم أشكال القهر والعجز والحرمان التي عاشتها في ماضيها.. فتتحول القراءة إلى وسيلة لتحقيق الإشباع والتفوق والتقدير الذاتي عبر أحداث المحكي أو شخوصه.
هذه الاستراتيجية النفسية متعارف عليها لدى جمهور المبدعين والنقاد في مجالات شتى.. بل هي أداة إنسانية عامة..
في كتاب: دراسة الدونية العضوية وتعويضها النفسي (Study of Organ Inferiority and Its Physical Compensation) الصادر عام 1907 يقول ألفرد أدلر واصفا التعويض وعلاقته بمشاعر الحرمان والقهر: ( عندما يشعر الشخص بأنه ضعيف، فإنه يميل لتعويض هذا الإحساس في مكان آخر.)
بطبيعة التحليل ليست التفسيرات النفسية وحدها ما يفسر ولع الشباب بقراءة هذه النوعية من الأعمال الروائية، لكنها بداهة عنصر مهم في أدوات الفهم.
️ سهولة الاستهلاك:
معظم الكُتاب الروائيين الشباب ( أنظر تواريخ ميلاد اللائحة أعلاه) يستعملون أدوات كتابة قريبة المأخذ سهلة الهضم..فاللغة بسيطة لا يجد القارئ عنتا في فهم مدلولاتها، تمتح من معجم تداولي يدمج كثيرا من الألفاظ العامية.. وأحيانا تسقط اللغة المستعملة في الابتذال والركاكة.. لكن الشباب القارئ لا يعترض كثيرا على مثيل هذه الهنات..فهم يجدون في الرواية من القيم والمضامين ما يشفع لها.. إنها تحقق استهلاكا سريعا ومتجددا يتمدد في كل الاتجاهات بسهولة وسرعة.fast reading
وعلى عكس هذا الوزان تبدو الكتب العلمية والفكرية العميقة بعيدة المنال من حيث الفهم والاستيعاب.. لذلك لا يستطيع الشاب إطالة مدة التركيز في قراءتها إنْ عزم على ذلك ابتداء.. ويوما بعد يوم يزداد منسوب الجفاء نحو هذه النوعية من الكتب..
وليس هذا العنصر بغريب عن مجالات أخرى من الحياة.. فإنسان اليوم تمت صياغة حياته على هذا الوزان: لهاث وراء الاستهلاك السهل دون توقف..نرى ذلك في الوجبات السريعة، والمنتجات الإلكترونية وغيرها، مما يقود في النهاية إلى بناء قيم وميول تتصل بالنشاط الإنساني برمته.
ولذلك فإن أحد وجوه التفسير الذي نحن بصدد البحث عن ملامحه هو هذا السياق العالمي المتجه نحو نفي المجهود، وتيسير سبل الرفاه، وصناعة الإنسان الذي لا يغادر دائرة الاستهلاك السهل مطلقا.
️الانجذاب نحو شخصية الروائي:
تعمل دور النشر على ترميز نجومها مثلها في ذلك مثل بقية مؤسسات صناعة الفرجة والاستهلاك، إيمانا منها أن هذا أحد حوافز الانجذاب الذي نتحدث عنه.. وأحد مغذيات الطبع والنشر والربح.
صرنا إذن أمام روائيين نجوم.. تنظم لهم الحفلات والجولات.. ويحظون بتغطية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتم تقاسم مقتطفات من رواياتهم، والطَرق اليومي على تثبيت سيرهم، ونشر أخبارهم، وتلميع كثير من فعالهم..
وفي المعارض الكبرى يتداعى الشباب لحضور حفلات التوقيع، بما تعنيه من حميمية القرب، والتقاط الصور، والظفر بمحادثة الكاتب مباشرة، ونيل توقيعه تثبيتا للحظة فرح مبهج.
كل ذلك يحول الكاتب إلى رمز/ نجم تنجذب إليه جماهير القراء المتعطشين إلى قدوة/ نموذج يلهمهم في حياتهم.
الرهانات العالقة:
البسط التفسيري أعلاه يواجه ثلاثة رهانات كبرى تؤرق المهتمين والفاعلين في الساحة التربوية:
️أولها: ارتفاع معدلات العزوف العام عن القراءة..كما تواتر في مجمل الدراسات والبحوث والتقييمات الوطنية الرسمية والدولية.. مما يجعل الهبة الشبابية نحو المقروء الروائي لا تحجب الصورة الكبرى للقراءة في المجتمع قاطبة..مما يدفع إلى التفكير في أدوات ناجعة تستلهم هذا النموذج الشبابي لدفع الفعل القرائي إلى كل الزوايا المعتمة بالعزوف..أملا في تحويل المجتمع إلى بنية تستهلك الكتاب كغيره من أشياء الحياة المختلفة.
️ثانيها: ضعف مقروئية المتعلمين في المدرسة:
لا يراودني شك كبير أن حالة الإقبال الشبابي على الرواية ليس وليد اشتغال مدرسي البتة..لا لشيء إلا لأن المدرسة متخمة بالبرامج والمقررات والامتحانات التي لا تدع لمرتفقيها أساتذة ومتعلمين فرصة لاجتراح فعل قرائي نوعي..
فحظ المتعلم إن أخذه، لا يعدو قراءة عليلة للنصوص والمؤلفات المقررة، وكلاهما يكرس بُغض القراءة والعزوف عنها، بسبب الاختيارات البيداغوجية والمقاربات الديداكتيكية المؤطرة لها.
وهذه حقيقة متواترة يعيشها ويرويها بالسند العالي كل باحث تناول في بحثه موضوع القراءة والإقراء في المدرسة، بصيغتيهما المؤطَرة والحرة.
ولم تتحرك المياه الراكدة إلا في السنوات الأخيرة مع استنبات مسابقة تحدي القراءة العربي في عدد من المؤسسات التعليمية، وبذل الأطر التربوية والإدارية لمجهودات جبارة لمواكبة أندية القراءة في هذا المشروع.
إن ما شهدناه من إقبال الشباب على قراءة السرد الطويل يمكن أن ينعش أدوات التفكير والتخطيط التربويين لتحويل المدرسة إلى مشتل حقيقي وخصب لغرس الميول القرائية الإيجابية لدى كافة المتعلمين، عبر مراجعة المناهج والمقررات، وبناء المكتبات المدرسية، وتغذيتها بما يناسب المشاريع القرائية المدرسية عوض إغراقها بالكتب المدرسية وكتب التمارين العلمية، وتأطير القيمين عليها للقيام بأدوار حيوية في هذا السياق.
️ثالثها: هو كيفية الانتقال بهذه الموجة القرائية الإيجابية إلى مقروءات ذات عمق فكري وثقافي يؤثر نوعيا في بناء ملامح الشخصية السوية والفاعلة، المؤمنة بالقضايا الإنسانية الكبرى، المتمتعة بمنسوب عال من الوعي والمبادرة، المقتنعة بانتمائها الغني، المشاركة في بناء المشروع الحضاري لوطنها وأمتها..
ههنا يصبح الرهان متنوع الاتجاهات بين مسؤولية الكُتاب أنفسهم للإفادة من هذا الزخم عبر مراجعة اختياراتهم وأساليب اشتغالهم، ومسؤولية المؤسسات الوطنية الموكول إليها أمر تدبير الفعل الثقافي في المجتمع، وأدوار الشباب أيضا في توسيع دائرة مقروءاتهم لتشمل منتجات نوعية تضيف إلى شخصياتهم مزيدا من العمق والوعي، لتهذيب التراكم المتحصل من قراءة الرواية.
✍وبعد، هل يمكن للفاعلين الثقافيين -إبداعا ونقدا وتربية- أن يستثمروا هذه الانعطافة الإيجابية من الشباب نحو القراءة، لبلورة مشاريع قرائية مجتمعية تعيد الحياة لطقس القراءة في بلداننا أملا في كسب جولة مهمة من معركة بناء الوعي الحضاري المنشود.
إن القراءة هي المفتاح الأول والأهم لولوج كل مجالات الحياة، وتقديم الإضافة النوعية فيها..
أليست الرسالة الأولى التي تلقيناها هي: (إقرأ)؟؟
#قراءة_الروايات
#معرض_الكتاب
#محمد_شهبون