بقلم الدكتور نورالدين قربال
قد يمارس الإنسان السياسة بالمعرفة أو بالتجربة الواقعية أو بهما معا. لكن تم الاعتماد على الكفاءة من أجل دينامية الحقل السياسي من حيث الممارسة وتحديد الأفق. فإلى أي حد نعول على الكفاءة في حلحلة الحياة السياسية؟ ما طبيعة الكفاءات المستهدفة من هذا الخطاب؟ هل كل من يحمل شهادة عليا يمكن تصنيفه ضمن الكفاءات أم أن هناك معايير خاصة بها ؟
اعتمدت التجارب على مستوى الحكم وتدبير الدولة على مفهوم الكفاءة المؤهلة لهذه المهمة السامية. لذلك تم ربط وجود أعلى سلطة في البلاد بتوفر المعرفة .
للسياق التاريخي دور مهم في تحديد طبيعة هذا الاختيار العلمي الواجب توفره في قائد السلطة السياسية، حيث طغت المخرجات المذهبية في رسم معالم المعرفة العالمة في هذا المقام . بذلك اعتبرأي تنظيم بنيوي للدولة يلازمه اختيار الكفاءة الملائمة شكلا وجوهرا . لكن قد تتعقد الحياة السياسية عندما تصبح هذه المعايير عرقلة للاختيار الديمقراطي نفسه خاصة عندما ترتبط بمفهوم القبيلة المعرفية التي لا يزيغ عنها إلا هالك في تقدير المدبرين .
إن مفهوم الكفاءة اتخذ تأويلات متعددة حسب نقطة الانطلاق وغاية المآلات .
الطامة الكبرى عندما يختلط التدبير بالأنا المتعالية على هموم الجماهير . فيقع البون الشاسع بين الفئتين. مما ينتج عنه خلخلة على مستوى الدال السياسي وتشويش على مستوى المدلول الاجتماعي. كل هذا يصاحب بثقل نفسي إذا لم يعقلن في إطار مؤسساتي. أنذاك نكون أمام التيه والفوضى والانزياح السلوكي. إذن هل مظاهر التصرف وليدة انحراف فكري أم خروج الكفاءة من العقلانية إلى اللامعقول السياسي؟ كل هذا يحيلنا إلى معركة تستهدف الاستبداد السياسي التي تشكل مدخلا للحضور التنموي. فينتقل الاهتمام من عمارة الأرض إلى محاربة أو التقليص من الفساد خاصة السياسي .
إن الوضع المشار إليه أعلاه يؤسس لانزياح السلطة عن الممارسة الديمقراطية إلى الديكتاتورية والبيروقراطية، وأزمات سيكولوجية أثناء الممارسة في ظل الحراك الاجتماعي الذي يطالب بالحد من الفساد والاستبداد. لأنه وقع تغيير جوهري في المفهوم العادل للسلطة إلى بسط تمظهرات التسلط. التي تدخل في متاهات سلوكية بدل السوسيولوجية العادلة . كما للتنشئة والتكوين والتأهيل دور استراتيجي في صناعة المشاهد السلبية أو الإيجابية. حيث يصبح المواطن البسيط آخر ما يفكر فيه في اهتمامات السلطة الحاكمة. فكيف نؤسس لمشهد تكون فيه الكفاءات قوة ديمقراطية حقيقية تساهم في بسط الاختيارات العادلة للقيم الديمقراطية ؟
إن أهم قيم الإصلاح السياسي هو تأهيل كفاءات قادرة على تحمل المسؤولية السياسية على جميع المستويات، كل حسب اختصاصه ووظيفته. إننا في حاجة إلى كفاءات الطموح والوضوح. تعرف مالها وماعليها في إطار التلازم بين الحقوق والواجبات خدمة لدولة المواطنة . تسعى إلى تبني هيكل إداري مستوعب للفعالية الاقتصادية، والتحول الاجتماعي . لن يتم هذا إلا باحترام النظريات الديمقراطية المؤسسة للدولة. للإشارة فالكفاءات السياسية تنتج التنمية السياسية . من تم نؤسس للدول والمجتمعات التي تحترم الثقافة السياسية .
لكل الاعتبارات المذكورة خصصت القوانين الدستورية والعلوم السياسية أهمية للأحزاب السياسية نظرا لدورها الفعال في تنشيط الحياة السياسية . كيف ولماذا ؟
يجب على كل الأحزاب السياسية أن تتذكر ميلادها، ونشأتها والأهداف والقيم والمبادئ التي من اجلها وجدت حتى لا تضل وتنحرف عن المقصود وتسقط في المحظور، لأنها هي المزود الديمقراطي للمؤسسة التشريعية وللسلطة التنفيذية وللهيئات الترابية وللغرف المهنية عن طريق الانتخابات. لذلك يجب أن تضع مسلسلا ثقافيا وفكريا من أجل تأهيل المنتمين والرفع من قدراتهم. لهذا كله برزت نظريات متعددة من أجل التفسير والتأويل للهيئات السياسية ودورها السياسي والاجتماعي والثقافي والبيئي. كل هذا من أجل المساهمة في التنمية السياسية المفتاح الاستراتيجي لبناء الدول والأمم. إن الحزب السياسي فكرة ومبدأ وبنية تنظيمية ومشتل لتأهيل الكفاءات وتأطير المجتمعات في إطار الشراكات والتعاقدات . كل هذا يخلق الانضباط التكاملي مع كل المساهمين في البناء الحضاري للأمم .
يشكل الاختيار الأيديولوجي ورشا مفتوحا للأحزاب السياسية، لكن يجب ألا يكون سببا في الاضطرابات الداخلية أو الخارجية ، لأن الحرية مكفولة والتعددية منصفة والتدافع سنة سياسية والبقاء للأجود . لذلك من الواجب إتقان وحسن تدبير الاختلاف بدون ضرر ولا ضرار . المهم هو التداول على السلطة بطرق ديمقراطية حيث تغيب الشوكة والغلبة والاستبداد والديكتاتورية. لأن لكل فن مذاهبه ولكل وظيفة مقامها السلوكي، ولكل مقام مقال .
بالتالي تنطلق التنافسية على مستوى البرامج والمخططات والسياسات العامة والعمومية، بغية الاندماج الفعلي في المجتمع .
ليسا عيبا أن تتعدد الأحزاب وتتدافع وتخطيء ولكن العيب أن تتمادى في الأخطاء وتؤصل للصراع الداخلي والخارجي، أنذاك تبرهن في مخيلة المجتمع الفشل للذات الحزبية التي تكون بالتبع غير مؤهلة للمنافسات الانتخابية والتنموية. نخلص مما سبق أن نجاح الحزب السياسي مرتبط بالتوافق مع الجميع دون المس بالجوهر، لأن الصراع قد يكسبه بعض الأصوات في مرحلة معينة ولكن يبدو عاجزا على خوض المنافسة بالحكمة والاعتدال . مع الرجوع دوما إلى المقتضيات التشريعية وعلى رأسها الدستور والقوانين التنظيمية. مع تبني التكوين السياسي بناء على منظومة فكرية متناغمة مع السياق العام السائد تجنبا للعزلة والغربة، واستحضار البعدين السيكولوجي والسيكولوجي والتركيز على الهوية السائدة، لأن السياسة فن وتربية وعلم وصنعة وثقافة بانية التي تؤسس لعملية التقويم والتقييم بدون ضجيج، وقبول النقد، والاستفادة من الأخطاء، وتطوير منهج العمل وصناعة التفاؤل الإيجابي والتجاوب العقلاني . إنها الثقافة السياسية التي ترفض الدينونة وتسمو بالقيم وتومن بالمشاركة الفاعلة وتؤسس للديمقراطية وتعتمد المعرفة. وبهذا نتحرر من كل الضغوطات إلى فضاءات الحرية والعدل والحق والخير .