الواجهةمجرد رأي

ياسر جرادي: الرجل الذي «صار قلبه قابلًا كلَّ صورةٍ»

أحمد نظيف موقع: حبر
المصدر: صفحة ياسر جرادي على فيسبوك.
«أن أفتح شبَّاكًا صغيرًا جديدًا، وأن أُلهِمَ طفلًا وأجعَله يحلم أو يفكّر؛ ذلك معنى وجودي».
ياسر جرادي
يأتي المرء إلى هذا العالم ليموت. ولكن على طول الطريق تحدث أشياء كثيرة. لم تكن طريق ياسر جرادي (1970-2024) طويلةً كما نشتهي، لكن الأشياء التي حدثت في مساربها الوعرة كانت كثيرةً وبهيةً. لم يكن ياسر مجرد فنانٍ أو خطاطٍ أو رحالةٍ. يظلمه كل من يحصره في واحدةٍ من هذه الفنون والصفات. كانت تلك المهارات مجرد أدواتٍ يعبّر بها عن سعيه الملحّ لتجاوز ذاته وخدمة أشياء أكبر من فردانيته الصغيرة في سبيل تحقيق معنىً للحياة. كان مدركًا أن الغياب هو ما يعطينا سببًا للوجود، وأن الأشياء المفقودة والغائبة وحدها من يشكل أملًا، واعيًا باللعنة الجدلية التي سقطنا في فخها، ولذلك لم يكن مستميتًا لا في السعي نحو التملك ولا في الهرب من المصير.
لكن مروره الخاطف بهذه الحياة كان خفيفًا كالنسيم، مضيئًا كالقمر.
تقاطعت دروبي مع ياسر أول مرةٍ في رحلة القطار الواصل بين مدينة «قابس» جنوب البلاد وتونس العاصمة قبل الثورة. الصدفة وحدها جمعتنا. و«أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الانتظار» والترقب. كنتُ مهمومًا حينذاك بأمر أخشى وقوعه وشعرت بأن ذلك الهمّ يأسرني كعبد. قبل أن أنزل في محطة تونس قال لي: «الحرية حيث تضع قدميك الآن وهنا». وقعت كلماته القليلة في قلبي كالخلاص. أدركت أن الماضي وهم، والمستقبل وهم، وليس بين يديّ سوى حقيقة الحاضر التي هي منتهى حريتي. قال كلماته بالعامية البسيطة، ومضى ملوّحًا بيمناه بعيدًا. أحسست وأنا أعبر ساحة المحطة الفسيحة فجر ذلك اليوم نحو وجهةٍ لا أعلمها أنني حرّ، أملك لحظة الحاضر وحدي. بدا لي كأنه ملاك مرسل ليقول لي تلك الكلمات وينسحب نحو الحياة. تبادلنا أرقام الهواتف ولم نتحدث سوى كلام عابر في دروبٍ كانت تتقاطع بنا بلا ترتيب. وحين وردني خبر وفاته المفجع، عادت تلك الكلمات البسيطة دفعةً واحدةً في أذني بلثغته العذبة.
ظل ياسر جرادي نسيجًا لوحده في مشهد تونسي يعجّ بمحترفي الغناء، التجاري منه والملتزم. لم يكن يحب فكرة الفنان المحترف. ربما كان نفوره من الرأسمالية ومعجمها المزدحم بالاحتراف والتجارة والبيع والشراء دافعه في ذلك، وربما كان أسلوب حياته الهيبي والبسيط منفرًا له من كافة أشكال تحول المتعة إلى مهنة. ولم يكن أيضًا يهوى فكرة الفنان الملتزم، سجين الإيديولوجيا وزواريب الحزبية الضيقة. لكنه بلا شكّ كان يفعل كل تلك الأشياء الكثيرة، غناءً ورسمًا ونحتًا وشعرًا، بحب وشغفٍ، لا تخالطه فيه ذرة اغتراب واحدة. يقتفي أثر الجمال في كل تفصيلٍ من تفاصيل الحياة المعقدة. متجاوزًا ذاته الضئيلة نحو ذاتٍ أكثر كونيةً تجمعه إلى أشتات الناس وأطفال الأرياف البعيدة، والفلاحين في حقولهم، والطبيعة والحيوانات التي قاسمها الحبّ والعناية واللطف، لكن «الحب مثل الموت وعد لا يرد ولا يزول».
جون لينون على «شط السلام»
كانت منطقة «شط السلام» وظلت دائمًا فردوس ياسر جرادي الضائع. ولد فيها وعرف بحرها النقي وطحالبه الغضة وواحتها الفريدة الغنية بالنخيل والرمان والحناء. وكان شاهدًا على دمارها بسبب المركب الصناعي الكيميائي، الذي شيدته دولة الاستقلال، وحولت به حياة سكان البلدة إلى سلسلة لا تتوقف من الأمراض والكوارث والمآسي. في شط السلام خسر ياسر والده ووالدته بسبب المرض الخبيث الذي تسببت فيه أبخرة الفوسفات السامة. لذلك كان يصف نفسه دائمًا، منذ مغادرته لشط السلام قبل عقود، باللاجئ البيئي. ولذلك أيضًا ستظل قضايا البيئة والطبيعة أساسية وملحةً في أغانيه وأعماله الفنية وفي طريقة عيشه. وفي شط السلام عاش صدمته الروحية الأولى، عندما كان تلميذًا في صفّ البكالوريا، حين أسمعتهم أستاذة مادة الإنجليزية، هو وزملاءه أغنية «جون لينون» تخيّل (Imagine). قلبت الأغنية كيان المراهق الذي كان غارقًا في لعب كرة القدم ذاهلًا عن عوالم الجمال، ولم يكتشف حتى ذلك الوقت أي ميل لديه نحو الفن أو الثقافة.
دفعت تخيلات جون لينون مركب ياسر جرادي نحو وجهةٍ جديدةٍ. كان يسعى إلى الوصول نحو نفسه الجامحة، سالكًا طرقًا غير واضحة. فألقى بنفسه في معهد الفنون الجميلة بتونس، حيث أعاد بناء كل كيانه من الصفر، حسًا ومعنىً. وحيث تقاطعت دربه مع اليسار الطلابي، من خلال «نوادي سينما الهواة»، والتي كانت ملاذًا ومجالًا للنقاش والسجال الثقافي في عقد التسعينيات الثقيل بالسلطوية وقمع الدولة البوليسية، فكان أحد الشخصيات الأساسية في المقاومة الثقافية لنظام زين العابدين بن عليّ. وفي الساحة العامة لمعهد الفنون شاهد لأول مرةٍ، منتصف التسعينيات، شابًا يعزف على القيثارة، ففُتن بها حتى تعلمها، مضيفًا الغناء إلى الرسم والنحت في جراب مهاراته المتعددة. وفي تلك الردهة الأخيرة من القرن وقع في غرام «موسيقى الكانتري»، فأراد أن يجعل منها نمطًا موافقًا للهجة التونسية.
ومع تطور حركة الرفض لنظام الرئيس بن علي مطلع الألفية، انخرط ياسر بقوة في المقاومة السياسية والثقافية للنظام. تزامن ذلك مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية والحرب على العراق، حيث شارك من موقعه كفنانٍ ومثقفٍ في مبادرات مضادة كمجلة «قوس الكرامة»، ثم في مجموعة «بدائل اشتراكية» الثورية. وشكل رافد مهمًا للحركة الطلابية والنقابية، كفنان لا يردّ طلبًا للغناء في أغلب التظاهرات التي ينبذها فنانو الخط السائد. وقد ظهر هذا الانحياز جليًا حتى بعد الثورة، فقد كان أكثر المتحمسين لتجربة «الجبهة الشعبية»، التي لم تعمر طويلًا ولكنها شكلت على مدى سنواتٍ قليلةٍ أملًا لأجيالٍ من شباب اليسار وشيوخه. وظهر بشكل أكثر وضوحًا في كلمات أغانيه، التي تحكي عن العمال والفلاحين وسكان الهوامش ومن هم تحت. وظهر على نحو أكثر صدقًا في أسلوب حياته الفريد والبسيط. فهو المكتفي بالقليل من كل شيء. لكنه لا يكتفي بنفسه عن العالم والناس، فكل ما أراد فعله حقًا هو الترحال والغناء للأطفال.
«بالنسبة لي الالتزام هو التزام الفنان تجاه نفسه: أن يُنتجَ فنًا يكون مقتنعًا به، لا تحت طلب شركة إنتاج أو جمهور. تكمن قوة الفنان في تحويل اليومي والمُملّ والبشع إلى جمالية (فيلم، أغنية، قصيدة…) كي يُهوّن بطريقة ما على البشر ويَهبنا فسحة الأمل حتى في المواضع الأكثر قتامة».
الطريقة والطريق
شكلتّ فلسطين، دائمًا وأبدًا، علامةً أساسيةً في مسيرة ياسر ومساره. قبل انتفاضة الأقصى كان ياسر يعيد غناء أغاني الآخرين، لكن بعدها أصبح يكتب أغانيه بنفسه. فقد دفعه مشهد محمد الدرة وهو يموت مقوسًا تحت والده ليكتب أولى أغانيه «سكاتْ». ولم يتوقف ذلك الغناء وتلك المحبة حتى أيام قليلة قبل رحيله، عندما نشر صورةً قيثارته وقد نقش على ظهرها كلمة «المقاومة» وزيّنها بالمثلث الأحمر. وبينهما كتب أغنيته «نشيد الحجر»، التي أهداها لروح الشهيد فارس عودة، الطفل الفلسطيني الذي واجه بالحجر دبابة إسرائيلية في غزة قبل عقود: «بعنا أرضه، أهديناه أماني، أهديناه شعرًا، أهديناه أغاني، أهديناه وطنًا تخنقه الجدران، وزرَع وطنه في كلّ البلدان».
«أنا لي حكاية خاصة مع فلسطين. أسمَاني أبي على اسم ياسر عرفات، لأنّه شارك في حرب 1948. فقد ذهب مع 14 من رفاقه في قابس، حين فزع للقتال في فلسطين 12 ألف تونسي. غضب جدّي وأرسل عمي للحاق بهم، فتركوه نائمًا على الحدود مع ليبيا، وأكملوا طريقهم الذي لم يكن سهلا؛ على الأقدام، ومنهم من مات في الصحراء. بقيَ أبي عامًا كاملا هناك، وأنا الوحيد بين إخوتي من سماّه باسم زعيم فلسطيني ولا أدري لماذا».
لكن ياسر المنخرط بقوة في السياسة والسجال قبل الثورة، بات أقل اندافعًا بعدها. صار أكثر رصانةً وأعمق نزوعًا نحو التصوف. محافظًا على تلك الروح الساعية نحو خدمة شيء أكثر عظمةً من مجرد رغبات النفس الأنانية. صار يغني أكثر للأطفال في أقاصي البلاد. يذرع الخارطة طولًا وعرضًا بحثًا عنهم في القرى البعيدة والأرياف المهملة. يغني على الرمال وبين الواحات، في الشواطئ وفي المدارس. في كل مكان ضيقٍ يستطيع في مربعه الصغير أن يرى عيون جمهوره. لم يحب الغناء في المسارح العالية والفسيحة التي كانت بعيدةً جدًا عن متناول العين والروح. وصار أيضًا مدركًا بعمق شديدٍ، عبر عنه بلطفٍ لا يملّ، أن الفنّ لا ينجح إلا عندما نتوقف عن استخدامه كسلاح دعايةٍ، بل كومضةٍ تضيء دواخل متلقيه. بدا لي أنه قد صار متجردًا، نقيًا ومتجاوزًا لأناه. مودعًا كل شيء لم يعد ضروريًا تمامًا بالنسبة له. هو المكتفي بروحه وبالآخرين. فمن خلال تشويش أنفسنا بأشياء غير ضرورية ينتهي بنا الأمر إلى فقدان الأساسيات، وقد فهم ياسر ذلك. كان أساس فلسفته في العيش، تجاوز نفسه وتوزيعها بقدر أنفس الخلائق، حتى يجد جدواه من الوجود. وقد أفلحَ حين صدّق. ففي أَعماقه موسيقى خفيّة، كان يخشى عليها من العزف المنفرد. لم يكن يومًا مشغول البال بالوصول، بقدر ما كان شاغله الطريقة والطريق. لذلك كانت الرحلة، بكل معانيها، حاضرةً بقوة في حياته. الرحلة الروحية من الفرد إلى الجمع، والرحلة الاجتماعية من الفردانية إلى الجماعة، والرحلة الذاتية من ضجيج العالم إلى سكون النفس، والرحلة الواقعية ضاربًا في العالم والبلاد مقتفيًا آثار الطبيعة والناس.
وكانت نزعته الصوفية البسيطة مدركةً إلى أن كل شيء يحدث داخل زمنية الوجود؛ وجودنا في تجليه الجسدي، والخيبات والانتصارات، والطموحات، والأماني والمشاريع وما نريده وما لا نريده، كلها أشياء يخالطها دنس حظوظ النفس. الرغبة في القوة والسلطة والمال والنفوذ والحياة الوديعة.
وبين خسارة ما نريده وخسارة الوجود، يختار أغلبنا وجوده المجبول على حفظه بغريزة البقاء. لكن بعضنا، والقلة القليلة منا، يطغى إيمانها بأشياء أكثر رفعةً على مساحة هذا الوجود. بتجردٍ شديد من حظوظ النفس، لا تخشى القفز خلف وجودها الزمني من أجل قضيةٍ ما. ياسر واحد من هؤلاء. لم يسعَ إلى الموت، لكنه لم يكن يخشاه. يجابه كل تلك الخسارة واثقًا.
قرأت مرةً في مذكرات الشاعر موريس جينيفوا عن الحرب العالمية الأولى، «الموت عن قرب»، كيف يشعر المرء على الجبهة بأن الوجود يعيد تشكيل نفسه بكل بشاعة وهمجية كل لحظة من لحظات القتال، لكن المقاتل لا يفر من الموت. وعندما ضرب الموت قلب الجبهة تغير كل شيء. هذا هو الفرق الهائل بين رؤية شخص ميت وبين رؤيته لنفسه ميتًا. إنه لا يستطيع رؤية نفسه بعين وجوده الجسدي. وبينما كان الأحياء يبكون حول ميتٍ مسجّىً، في لحظة العبور الأخيرة تلك، كان الراحل هو الأكثر هدوءًا. فالموت ليس بتلك القسوة للعابر من حالٍ إلى حال. لكنه قاسٍ على الأحياء. إن لعنة زمنية وجودنا هي من تصنع حزننا وبؤسنا وخوفنا، كما أدرك وعاش ياسر طويلًا، ولكنه كان دائمًا يحسن الحياة ويدرك جدواها. «يمشي خفيفًا لئلّا يكسر هشاشة العالم. ويمشي ثقيلًا لئلّا يطير». لكنه يمشي. ويغني بالصوت العالي لشكري بلعيد «نسمع فيه يغني». وقد «صار قلبه قابلًا كلَّ صورةٍ، يدينُ بدينِ الحب، فالحبُّ دينه وإيمانه».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى