التّعليم بوّابة الدّولة الاجتماعيّة
بقلم: محمد بلعيش
المغرب مغربان: مغرب أخضر يستنزف الفرشاة المائيّة لحدائقه ومسابحه وأرصدته البنكيّة، ومغرب قاحل يقطع عشرات الكيلومترات لشربة ماء…الأسرة المغربيّة أسرتان: أسرة تستورد لكلابها وقطتها الكروكيت، وأسرة تبحث لأطفالها عن بقايا خضروات في الأسواق…التّلميذ المغربي تلميذان: تلميذ بدأ الدّراسة في سبتمبر، وسينهيها في يوليوز وتلميذ قد يبدأ في أكتوبر، ولكنّه حتما سيختمها في ماي…الطّفل المغربي طفلان: طفل يذهب للبحر نهارا للاستجمام، وطفل يقصده في عتمة اللّيل لعلّه يفرّ من الوطن إلى المحتلّ…
لست خبيرا اقتصاديّا، ولكن من واقع التّجربة، أأكّد لكم أنّ مغرب الأمس، كان أكثر عدالة من مغرب اليوم. وأزعم أنّ مغرب اليوم سيكون أعدل من مغرب الغد. لست سوداويّا، ولكن ما أراه يجعلني أقلق على مستقبل هذا الوطن. فالدّولة الّتي لا يتساوى أبناءها في التّعليم، لن تتمكّن من المساواة بينهم في أيّ مجال آخر.
بالأمس القريب كان أبناء الأغنيّاء والفقراء يرتادون نفس المدارس. يجلسون فوق نفس المقاعد. ينصتون إلى نفس الأساتذة. يتعلّمون نفس المقرّرات الدّراسيّة. يلعبون نفس الألعاب في ساحة المدرسة. وقد يقعون في حبّ بعضهم البعض. الجميع كان يحتكم للكفاءة فقط ليثبت ذاته. وبالتّالي لم يكن غريبا أن يخرج الكثيرون من المدن الهامشيّة، وأفقر الأحياء، إلى أرقى المناصب في الدّولة. أمّا اليوم فللفقراء مدارسهم الّتي يتحلّق الآباء والأمّهات حول بابها خوفا من ذئب بشري، وللمقتدرين مدارسهم الّتي تأتي إلى بابهم. للمعوزين إعداديّاتهم وثانويّاتهم الّتي يتسلّل التّحرّش وجميع الموبقات إلى محيطها، وللمرفّهين إعداديّاتهم وثانويّاتهم الآمنة المطمئنّة. للبؤساء أصدقائهم من البؤساء. وللمحظوظين أصدقائهم من المحظوظين. للمهمّشين توقيت مدرسيّ يجهّزهم لأن يكونوا عبيدا في المستقبل، وللمركزيّين توقيت مستمرّ يسمح بالهوايات…للتّعساء جهل الآباء أمام الواجبات المدرسيّة، وللسّعداء أساتذة خصوصيّون. يكفي أن يولد المرء لعائلة فقيرة، أو في مدينة هامشيّة، أو فيافي الجبال ليكون مطالبا ب “الريمونتادا” لينقذ مستقبله من الضّياّع. فالفقر مثل الغنى صار يورّث توريثا، بينما يزعم كبير الحمامة بأنّنا صرنا الدّولة الاجتماعيّة الأولى…
ليعلم كبير الحمامة أنّ الدّولة الاجتماعيّة، لا تعني التّواطؤ مع القطاع الخاص من جهة، ثمّ التعامل بمنطق الاحسان مع نتائج ذاك التّواطؤ من جهة أخرى. لأنّ منطق الدّولة الاجتماعية يقول بوجوب مساواة الجميع في المدخلات (تعليم، صحة بدنيّة ونفسيّة، بيئة سليمة إلخ)، ومن ثمّ معالجة اختلالات المخرجات إن وجدت فيما بعد. أمّا أن تصبح الطّبقة المتوسّطة في حدّ ذاتها تصارع من أجل الخبز والسّكن والتّعليم، فهذا يعني أنّ مغرب الغد سيحتاج بأسره دعما مباشرا.
أقول وأكرّر: إذا لم يتساوى أبناء المغرب في التّعليم، فإنّهم لن يتساووا في أيّ شيء. ويبدو أنّنا “خارجين مايلين” لورش الدّولة الاجتماعيّة، والأكيد أنّنا سنسقط كما سقطنا مرارا وتكرارا في مجالات أخرى. والأيّام بيننا لتثبت العكس.
المغرب العادل لا يمكن بلوغه بمدرسة خصوصيّة تستورد مقرّرات دراسيّة لا تحمل لا ثقافتنا ولا أسماءنا ولا قيّمنا. وأخرى عموميّة كتبها باهتة اللّون والقيمة المعرفيّة. مغرب الدّولة الاجتماعيّة لن نصل إليه بتجّار تعليم يجنون أرباحا خيّاليّة، فيما يرمون لمستخدميهم فتات لا يسمح لهم بالعيش كبشر. مغرب كلّ المغاربة لا يدرك بمدرسة خصوصيّة توظّف أساتذة دون تكوين بيداغوجي، وأخرى عموميّة لا تحفظ للمدرّسين كرامتهم وهيبتهم ولا للمتمدرسين الأمن والأمان في محيطها. لدرجة صار فيها المدرّس مرادفا للشّحاذ، والمتمدرس مشروعا لمهاجر سرّي. المغرب العادل يجب أن يكون عادلا في القيّم، واللّغات، والتكنولوجيا، والأفق، وظروف التّدريس والتّمدرس، والاستقرار النّفسي، والكرامة الانسانيّة، والانضباط إلخ.
سنظلّ الوجهة بتعليم يسير برأسين متنافرين. لأنّ مغرب الغد، تحدّده السّيّاسة التّعليميّة اليوم. وتعليم اليوم هشّ وطبقيّ بامتيّاز، فكيف سنصل إلى الدّولة الاجتماعيّة إذا كانت الآلة معطوبة! أخبروا كبير الحمامة أنّ الدّولة الاجتماعية تعني سنّ قوانين عادلة تجعل من القطاع الخاص شريكا في إنتاج الثّروة، لا آلة لتفريخ مزيد من الفئات الهشّة.
كثيرا ما أتساءل: لماذا لا تفرض كوطا للتّعليم الخصوصي في مباريات الأساتذة؟ ما المانع من إلزام لوبي التّعليم الخاص بدفع أجور شبيه بسلّم أجور التّعليم العمومي على الأقل؟ لماذا لا يمنع عمل أستاذ المدرسة العموميّة في التّعليم الخصوصي بشكل كلّي، ليفسح المجال أمام الخرّيجين للتّوظيف؟ لماذا لا تصمّم مقرّرات لغويّة تشبه المغاربة في ثقافتهم، وأسلوب حياتهم، وتحدّيّاتهم، ونظرتهم للمستقبل؟ من صاحب المصلحة في أن يصبح المغاربة مِللا ونِحلا؟
الأطفال المغاربة الّذين وقفوا على باب سبتة ظلمهم التّعليم بالدّرجة الأولى. ولو كان عادلا معهم، لما توسّموا خيرا في المحتل. منذ عقد تقريبا لا ينفكّ المجتمع يعطي إشارات قويّة على أنّ الأمور لا تبشّر بخير. الريف، جرادة، فكيك، العطش، البطالة، التّنسيقيّات، نسبة المشاركة في الانتخابات إلخ. ومع ذلك يصرّ كبير الحمامة على أنّنا دولة اجتماعيّة. لذا أقول للعقلاء والمثقّفين في هذا الوطن لا تتركوا السّاحة فارغة. وليحذر أصحاب المكاتب المكيّفة، ونقاش الصّالونات، ومهندسو المشهد السّّياسي، من تسويق صورة كاذبة. لأنّ الحقيقة المفزعة هي أنّ هناك مغربا منسيّا يغلي. وباب سبتة كانت إحدى بوّابات تصريف الضّغط. فساووا بين أبناء المغاربة في التّعليم اليوم، حتّى لا تنفجر الفوارق الطّبقيّة في وجهنا غدا. التّاريخ يقول بأنّ الانسان المغربي قانع، لكنّه حتما ليس خانع. والمتمرّد المثقّف يتمرّد في حدود الممكن، أمّا المتمرّد الجاهل، فيحرق الأخضر واليابس. التّعليم، التّعليم يا قوم.