المسرح الاحتفالي بين الحكي والمحاكاة
— بقلم: عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في البدء كانت الكلمة، والكلمة الصادقة والحية بكل تاكيد، والكلمة المؤسسة للوجود والموجودات، وبالنسبة للاحتفالي، المفكر والمبدع والصانع،وفإن اصدق فعل، في نظام هذه الاحتفالية، الفكري والجمالي والأخلاقي، هو فعل التاسيس، وماذا يمكن ان يكون فعل هذا التاسيس سوى انه فعل جديد ومجدد ومتجدد بشكل دائم ولا نهائي؟ ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي فيها يقول ما يلي:
( واذا كانت كلمة( كن) هي مؤسسة الكون، فإن كلمة الاحتفال هي مؤسسة الحس الجمالي والوجداني الشعبي والراي العام)
هما اذن كلمتان اثنتان اذن، وليستا كلمة واحدة، وفي البدء كانت كلمة (كن) هي المؤسسة للكون، ومعها جاءت كلمة اخرى هي كلمة احتفل ويحتفل، والتي يمكن ان تصبح جملة كاملة ومكتملة، وان تصبح بالصيغ المتعددة التالية:
— (احتفل ايها الكائن الإنساني، وعبر بهذا الاحتفال الحي عن حياتك وعن حيوتك، وعن إنسانيتك وعن حضورك الآن هنا)
— (وعبر ايضا، ومن خلال هذا الاحتفال، الموجود والكائن، عن وجودك وعن كينونتك)
— ( وعبر بهذا الاحتفال العيدي، المختلف والمخالف شكلا ومضمونا، عن هويتك المختلفة والمخالفة)
— (وعبر بهذا الاحتفال الجديد والمتجدد، عن افكارك واحلامك واواهمك المتجددة، وكن مقنعا، وكن مقتنعا ايضا، بانك حقا كائن انساني ومدني وتاريخي واجتماعي جديد ومجدد ومتجدد، وذلك عبر كل هذه الأيام والأعوام المتجددة في التاريخ
ويمكن ان تعبر عن كل هذا، وبشكل اكثر واقعية واكثر صدقا واكثر مصداقية واكثر جمالية، من خلال فن وعلم وفكر وفقه المسرح،
ونحن في هذه الاحتفاليةنقول ونكتب دائما بان هذا المسرح، في صورته الصادقة، هو فن وعلم وفكر الاختزال، وكل جغرافية الإنسان، وكل تاريخ الانسانية، يمكن اختزالهما في مكان واحد، هو هنا، وفي زمان واحد، هو الان، وفي جماعة بشرية واحدة محدودة، نسميها (نحن) وهي تجمع كل من يقيم فعل الاحتفال المسرحي، وكل من يحضره، وكل من يؤثثه؛ بجسده وبروحه وبافكاره وبخياله وباحساسه وباسىلته وبمسائله وقضاياه الحقيقية
عندما يحكي الحكواتي ويحاكي المحاكي:
وتتفق الاحتفالية مع ارسطو بان الاصل في الفن المسرحي هو انه محاكاة. ولكنها تختلف معه في مفهوم هذا الاحتفال، وفي معناه ومبناه، وذلك لأن المسرح الاحتفالي لا يحاكي ما هو موجود في الوجود، ولكنه يحاكي ما يمكن وما ينبغي ان يكون له وجود في الوجود، وهو مسرح يبدا من درجة الكائن الحاضر، بحثا عن درجة الممكن الغائب او المغيب، والتي قد تقترب في كثير من الإبداعات الاحتفالية من درجه المحال
والأصل في المسرح الاحتفالي انه يحاكي مبدا الخلق في الوجود وفي الطبيعة وفي التاربخ، والمسرحيات الاحتفالية تقرا الواقع بعين التحدي وبروح النقد الضدي، وانها لا تقرا التاريخ لستظهره او تستعرضه، ولكن من اجل ان تعيد كتابته كتابة احتفالية، فيها فكر وعلم، وفيها جماليات رمزية وحسية، وفيها سفر وترحال، وفيها حس وحدس، وفيها تصور وخيال
ومهمة الاحتفالي المبدع هي ان يحيا الحياة، تماما كما لو انه هو من من ابدع هذه الحياة، وهذا هو ما أكده عليه الاحتفالي في كتاب (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي) حيث اظهر ان المحاكاة الاحتفالية هي محاكاة عاقلة ومبتكرة ومبدعة وجديدة ومجددة، وانها لا تكرر الموجود كما هو موجود، وهي اساسا ( محاكاة لمبدأ الخلق في الطبيعة، وليس تكرارا لما تخلقه الطبيعة من مظاهر متغيرة)
وفي الإبداع المسرحي الاحتفالي يحضر الحكي والحكواتي دائما، سواء من خلال فن الحلقة الشعبية او من خلال صندوق الدنيا ان من خلال خيال الظل او من خلال المقامة او من خلال الملحمة الشعبية، او من خلال الموال الغنائي او من خلال التغريبة، وفي احتفالية ( عنترة في المايا المكسرة) والتي كتبتها سنة 1970 يحضر لحلايقي، والذي يروي في الأسواق وفي الساحات العامة قصة عنترة المحاصر بين حد الحياة وحد الموت، وبين حد القوة وحد الضعف، وبين حد الصحة والعافية وحد الداء والأعداء، وحكاية (ابن الرومي في مدن الصفيح) يحكيها ابن دنيال وابنته دنيازاد من خلال خيال الظل، وحياة سيدي عبد الرحمن المجذوب يرويها عليها الطيب الصديقي من خلال حلايقي شعبي في ساحة جامع الفنا، ويمكن ان نلاحظ ان المسرح المغربي الإذاعي، بقيادة الكبير عبد الله شقرون، كان مسرحا ناجحا، وان المسرح الارتجالي الشعبي، في الساحات الشعبية المغربية، قد كان دائما ناجحا، وكان قريبا من الناس ومن طبيعة الاحتفال لديهم، واسخلص من كل هذا، ان المغربي يسمع اكثر مما يرى، وأنه يحكي اكثر مما يحاكي، وأنه يتخيل في ما يسمعه من وصف، اكثر مما يراه مسجدا امام عينيه، وفي كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) يقول الكاتب الاحتفالي، في حديثه عن المتلقي المسرحي العربي ما يلي:
إنه (يفضل ان يسمع عن الشخصيات، بدل ان يراها، وهو نفسه الذي اطلق المثل السائر (تسمع بالمعيدي خير من ان تراه) وبهذا فقد كان الحكي اهم وأخطر لديه من المحاكاة، الشيء الذي قد يحعله، بناء على ذلك، يفضل ان يسمع عن هملت وعن عطيل وعن الملك لير، وعن كل الشخصيات القصصية والروائبة والملحمية والمسرحية، احسن من ان يراها مجسدة ومشخصنة ومحددة، وان تكون في هذه الرؤية تامة ومغلقة، ومصادرة للخيال)
بهذه القناعة ابدع الطيب الصديقي كل مسرحياته، وبها ايضا كتب الرائد احمد الطيب العلج كل مسرحياته القريبة من الحكي الشعبي، وبهذا الحكي الشعبي استطاع عبد الله شقرون ومحمد حسن الجندي ومحمد احمد البصري، ان ينقلوا جمهور الحلقة إلى الراديو،
ولأن هذا الجمهور المغربي ( يريد ان يسمع عن الشخصية، وذلك حتى تكون حريته في تمثلها اوسع واكبر، فقد فضل دائمًا ان يستمع الى الراوي الشعبي، وان ينصت إلى الحكواتي، وايضا، إلى هذا الممثل الجديد والذي اصبح اليوم يستعيد شيئاً من قدرته الخارقة على إثارة الخيال) وهذا الممثل الشعبي الجديد يمثله فنان المونودراما، والذي يحكي ويحاكي، اكثر مما يجسد واكثر ما
يشخص وأكثر ما يتقمص..
من الحكواتي الأخير إلى الحكواتي الجديد
واخر الحكواتيبن، حكى حكيه الأخير ومضى إلى حيث لا احد بدري، ولقد كان ذلك في احتفالية مسرحية بعنوان ( الحكواتي الأخبر،) والتي اخرجها للمسرح الوطني الجزائري، بإدارة المدير امحمد بن قطاف، في زمن جميل كان، واخرجنا المخرج التونسي المنجي الكببر بن براهيم، واليوم، وبعد ان اقتنع كل الناس بان هذا الحكواتي قد ابتلعه التاريخ، واصبح نسيت منسيا، فإننا نجده وهو يعود الينا وإلي الحياة بروح جديد وبزي جديد وهو ف دور وجودي جديد، ولقد كان ذلك من خلال كتاب نقدي بعنوان ( اعترافات الحكواتي الجديد) والذي صدر عن منشورات ديهيا بمدينة ابركان، ولعل اهم ما يميز هذا الحكواتي الجديد، في هذا الزمن الجديد، هو انه لا يبدا حكيه بلازمة ( كان ياما كان) لأن ما يهمه اساسا هو الآتي، ولقد ادرك بحسه وحيده بان كل من لا يأتي من المستقبل ابتلعه رمال الماضي المتحركة، ولهذا فقد اختار هذا الحكواتي الاحتفالي ان يبدا حكيه من نقطة بعيدة وعالية في المستقبل الآتي، وان يتم ذلك بلازمة اخرى جديدة هي:
( يكون ويكون، وسوف يكون غدا، ويمكن ان يكون في يوم من الأيام وفي عام من الأعوام..)
وذلك الحكواتي الذي ودع كل الناس في احتفالية وداع، وذلك في مسرحية ( الحكواتي الأخير) هو الذي قال:
(انا الحكواتي، واجمل كل الأيام حكاية، وابلغ كل الحكايا أكثرها امتلاء بالخيال والجمال، حكاية لها بطل واحداث، ولها حالات وتحولات، ولها بدء وختام، وبها صور بكل الألوان، ولها كلام يتبع الكلام؛ كلام يمكن ان يكون بكل اللغات، وان يقرا بكل القراءات، وأغرب كل هذه الأيام الغريبة حكاية، واتعسها كلها حكاية)
ويقول الاحتفالي الكاتب، وهو يبحث عن عمر جديد، وعن يوم جدبد، وعن لحظات جديدة في زمن احتفالي وعيدي جديد، بان التاريخ الحقيقي موجود في الآتي من الأزمان، سياتي مع المهدي المنتظر ومع غودو ومع بدنا قدر، وفي كتابه ( اعترافات الحكواتي الجديد) يقول هذا الاحتفالي الكاتب ما يلي:
( كل ما اعرفه اليوم، هو ان هذه الحياة في حاجة لأن تسترد حيوپتها، وان هذا الإنسان في حاجة لأن يستعيد إنسانيته، وان هذه المدن في حاجة لان تسترد مدنيتها، وان هذا الواقع في حاجة لإن يسترد حقيقته، وان هذه الطبيعة في حاجة لأن تسترد جمالها،. وان تستعيد صفاءها وشفافيتها)
وقد يكون هذا المطلب حلما، وفعلا هو حلم، وماذا يمكن ان تكون هذه الحياة سوى انها حلم حالمين؟
ويمكن ان نضيف، ايضا، بان هذه الأيام المتشابهة في حاجة لأن تسترد احتفاليتها وعيديتها، وان تكون اياما شفافة ومدهشة وساحرة ومبهرة
كما ان هذا الإنسان البوم، في حاجة لان يعيد اكتشاف كل شيء في الوجود، ابتداء من إعادة اكتشاف ذاته، وإعادة اكتشاف محيطه وإعادة اكتشاف لغاته، وإعادة اكتشاف علومه وفنوته، وان يعمل على ان بعيد للكلمات والأسماء حياتها وحيوبتها وعذرىيتها، وان نكون كلنا عبد البصير ( الأعمى) في احتفالية ( يا ليل يا عين) ذلك الرجل الذي ( اتهموه) بانه اعمى، رغم ان اسمه عبد البصير، والذي فرض علبه ان لا يرى من كل الألوان المتعددة في الطبيعة إلا لونا واحدا هو اللون الأسود، ولكن، وفي لحظة صحو منفلتة، يقرر هذا ( الأعمى) ان ( يتمرد على عماه، وأن يفتح عينبه، وان يرى العالم كما هو) وان يقول:
( وانا عندما كنت اعمى، لم يعطوني إلا لونا وحدا، وقالوا ليس في الحياة وليس في الوجود، وليس في المدن والقرى، وليس في الدنيا غير هذا اللون وحده، والليلة اكتشف الألوان والظلال و الأشكال، واعرف انهم كانوا كاذبين)
نحن والكتابة
عبقرية الإبداعات او عبقرية السباقات
يقول الاحتفالي الكتاب، بان الكتابة الميتة لا تعنيه، وبان الكتابة المحنطة لا تقول له شيئا، وان الكتابة بلغة الخشب لا ينطقها ولا يكتبها ولا يفهمها، ولا تعني له اي شئ، والكتابة الحية وحدها، بلغتها الفردوسية المتعالية والشفافة، هي مطلبه الوحيد، وهي غايته البعيدة التي يرحل اليها بعقله وفكره وخياله
ولعل اهم وأخطر ما يميز هذه الكتابة الاحتفالبة الحيوية، هو انها كتابة تنكتب، ولا تكتب، وهي بهذا بنت تجربتها وبنت لحظتها وبنت سياقها وبنت مناخها وبنت طقسها وبنت حالاتها، وهي كتابة ( تقرا نفسها بنفسها، وتعيش الحلم في صوره الكائنة والممكنة، وتقرا مشاهده واحداث العالم، في صوره الكائنة وعلاماته، وفي التواصل مع الحقيقة والناس، وتعادي الفكر الأحادي، وتخاصم النمطية في الكتابة، والمدرسية في النقد والبحث)
وما لا يعرفه كثير من المسرحيين، المغاربة والعرب معا، هو ان الأصل في الاحتفالية هو انها ( مناخ مسرحي قبل كل شيء، وهي مناخ لا يمكن ان يهرب منه او يبتعد عنه إلا الموتى، وبهذا امكن أن نقول إن الاحتفالية مظاهر مختلفة ومتعددة، وهي تتجلى في كثير من الكتابات والإبداعات المسرحية، كما يمكن أن نجد لها وجودا لدى كثير من المسرحيين العرب، وهذا المناخ الاحتفالي من اين اتى، ومن اوجده؟
بالتاكيد ليس نحن، ومن نكون نحن سوى اننا مجرد اجساد وعقول وارواح ونفوس حية في التاريخ الحي؟
وبالتاكيد فإن الذي اوجد هذا المناخ، بكل ما فيه من حرية واستقلالبة ومن نبوغ وعبقرية، هو هذا الوطن الذي نسمه ويسكننا، وهو عبقرية وتاريخ المغرب، وهو جغرافيا المغرب، وهو حضارة المغرب، وهو روح المغرب، وهو وجدان المغرب، وهو المخيال الجماعي للمغرب
ولعل اسوا شيء في الإبداع الفكري والعلمي والأدبي هو ان تسخر هذا الإبداع لجهة من الجهات، وماذا يمكن ان يستفيد النقد العلمي من ناقد يسخر نقده في مدح هذا او ذاك،ةوفي مدح هذا المهرجان او ذاك، وفي مدح هذه الجهة او تلك، وفي مدح هذه الإدارة أو تلك؟
والشيء الوحيد الذي ينبغي ان نمدحه هو الجمال وهو الحق وهو الكمال وهو الإنسان وهو الحياة وهو الفرح وهو العبقرية وهو الفضيلة، وفي زمن من الأزمان، كانت عبارة الفن للفن تهمة وسبة، مع ان الفن للفن احسن مليون مرة من الفن للحزب او الفن للقبيلة، او الفن للمذهب او الفن للزعيم الملهم، او الفن في خدمة الإشهار وفي خدمة الساعة
وعندما يراهن الفنان على الفن الجميل فهو بالتاكيد يراهن على كل القيم الإنسانية الجميلة والنبيلة التي يتضمنها الفن، وعلى مر التاريخ كان الله وحده يعيد بالفن، وفي كل المعابد والكنائس والمساجد تتجلى العبقرية الإبداعية الإنسانية