الواجهةثقافة وفنون ومؤلفات

رواية “ساعة الصفر 00:00” لمؤلفها : عبد المجيد سباطة صدرت عام 2017

    أودُّ بداية، أن أحيل كلَّ راغب في قراءة هذه المراجعة إلى مراجعتي للرواية السابقة والأولى للكاتب “خلف جدار العشق”، والتي تجدون رابطها في أول تعليق. وسبب هذه الإحالة أن كل ما سأقوله في مراجعتي هذه مبني، بشكل أو بآخر، على المراجعة السابقة، تماماً كما بُنيت الرواية الثانية للكاتب (ساعة الصفر) على نفس الأسس التي بُنيت عليها روايته الأولى (خلف جدار العشق) .

    تعدُّ (ساعة الصفر) تجربة ممتدة لـ (خلف جدار العشق)، أكثر منها اتساعاً وعمقاً، وأكبر حجماً، وأشدَّ ثراءً بالتفاصيل، وأحسن أسلوباً، وأقلَّ حفولاً بالأخطاء، وقد أبان فيها الكاتب عن نضج ملموس وتطور واضح في استخدام أدواته الروائية، كلُّ ذلك في الإطار نفسه الذي اختاره لقلمه، والنمط الروائي عينه الذي اختار السير عليه .

    ولستُ أنوي في هذه المراجعة عقد مقارنة بين العملين، وإن كنتُ لم أستطع التخلص من فكرة المقارنة والإسقاط أثناء القراءة، لكني أودُّ فقط الإشارة إلى مقادير (الخلطة الروائية) التي تشابهت في الروايتين، وإن كانت (جودة الطبخ) في الرواية الثانية أفضل بمراحل منها في الرواية الأولى .

    تتكون (الخلطة) عموماً مما يلي: الحرب – السياسة – التحقيق – المغامرات – اللغة التقريرية – المعلومات التاريخية – التنقل بين الأعوام والبلدان .

    انتقلنا هذه المرة من سوريا إلى البوسنة، ومن الماضي القريب (بداية هذه العشرية) إلى ماض أبعد بقليل (بداية التسعينيات) ، كما تجاوز الكاتب بشكل واضح ما انتُقد في روايته الأولى من كثرة المصادفات، وإن كان ظلَّ أميناً لخطه السردي المتمثل في الزجِّ بأبطاله في أتون حروب حدثت في التاريخ، وابتكار مغامرات مشوقة تجمع بين البحث التاريخي والخيال الروائي. الأمر هنا يشبه أن يكون رحلة (ثلاثية الأبعاد) يأخذنا فيها الكاتب إلى زمان ومكان آخرين، فنطَّلع على ما حدث بعيون أبطاله، ننظر إلى الأشياء بعينين إنسانيتين ترى ما أمامهما، وذلك على عكس ما تفعله كتب التاريخ والتوثيقات الحربية التي ترينا الأشياء من الأعلى، من زاوية (عين العصفور) .

    نعم، كثيراً ما تخيلت أثناء القراءة أني أضع على عينيَّ نظارات ثلاثية الأبعاد من تلك التي تباع في القاعات السينمائية، وأني أعاين تلك الأحداث البعيدة في زمانها ومكانها كما لو كانت تحدث أمام عيني .

    لكن، ورغم التشابه العام في القالب الروائي بين (خلف جدار العشق) و(ساعة الصفر)، إلا أن ثمة اختلافاً جوهرياً بينهما، ويتمثل ذلك الاختلاف في حضور ذات الكاتب داخل الرواية. لقد كان واضحاً في (خلف جدار العشق) أن (عثمان سليم) ما هو إلا (عبد المجيد سباطة) نفسه، إذ لم يكن من الصعب استنتاج التطابق بين الشخصيتين في الصفحات الأولى من الرواية، لكن الكاتب في (ساعة الصفر) عمد إلى إخفاء ذاته تماماً، مبتعداً بشكل كلي عن روايته، متوارياً عن صفحاتها كمن يريد الهروب منها، بل وحتى شخصية (الراوي) التي اعتاد القارئ أن يربطها بالكاتب مهما كان محايداً في سرده، فقد تملَّص منها أيضاً، وجعل (الراوي المجهول) شخصيةً متخيَّلةً أخرى تختلف كلياً عن الكاتب. ولم يكتف المؤلف بإعلان ذلك (الهروب) في بداية الرواية، بل ظلَّ يذكِّرنا به باستمرار على امتداد صفحاته مخافة أن ننساه، وذلك عبر الهوامش التي لم تكن تهدف إلى إتحافنا بالمعلومات التاريخية إلا بقدر ما كانت تريد تذكيرنا، مستعملةً ضمير المتكلم، بأن الراوي شخص آخر يختلف تماماً عن مؤلف الرواية .

    ولعل لهذا الأمر تفسيراً نفسياً أكثر منه أدبياً، لكني أرجئ الحديث عنه إلى موضعه الملائم، وفي انتظار ذلك أضع بين أيديكم الانطباعات التالية حول هذه الرواية :

– تجمع رواية (ساعة الصفر) في نبرة أسلوبها بين نوعين فنيين؛ البرنامج الوثائقي والفيلم السينمائي. وكان (البرنامج الوثائقي) أول ما استشعرتُه فور بدئي بالقراءة، إذ ما إن شرعتُ في الكلمات الأولى للرواية (ص 7): “لوتا… قرية صغيرة هادئة، أعلم أنك لم تسمع عنها من قبل، تابعة لمحافظة كونيتس، في الجنوب الغربي من العاصمة سراييفو”، حتى تخيلتُها متلوَّةً بصوت المعلق في برنامج (أمودو) الشهير. وأما (الفيلم السينمائي) فقد أحسستُ به تحديداً في الصفحة 27، حين لفظت شخصية الأم أنفاسها الأخيرة بعد أن ألقت على مسامع ابنها كلمات مبهمة، تفتح بغموضها باب البحث والتحقيق والمغامرة. مشهد كهذا هو مشهد سينمائي خالص، ويمكن أن يكون منتقَداً بسبب نمطيته وتكراره وعدم واقعيته، لكنه –في نهاية المطاف- يؤدي دوره المنوط به، في إدخال القارئ إلى أجواء سينمائية تجعله يتخيل المشاهد كما لو كانت معروضة على الشاشة، بل ربما يجد نفسه وقد ركَّب لها، لا شعورياً، موسيقى تصويرية من خياله.

– لقد أبدع الكاتب في ابتكار أحداث متخيَّلة تكاد تكون ملحمية، وتصلح في رأيي لتكون مشروع فيلم سينمائي متميز، ومما يضاعف قيمة الأحداث في هذه الرواية أنها، إضافة إلى ثرائها وتنوعها وتشابكها، خرجت من تحت قلم كاتب شاب لم يعاصر تلك المرحلة التاريخية، وإنما أضنى نفسه في البحث والتنقيب والدراسة، مدفوعاً في ذلك بشغف شديد وحب للميدان، ما يجبرني على الإشادة بكل هذه المجهودات الجبارة رغم اختلافي مع هذه التوجه، تماماً كما أشرتُ إلى ذلك في مراجعتي لـ (خلف جدار العشق).

– كونها تجربة موسعة عن التجربة الأولى، تضخَّمت فيها حسناتها وتعمَّقت، فإن بعض الانتقادات أيضاً قد تضخَّمت بنفس الأبعاد تقريباً، وأعني هنا بشكل خاص مسألة الحوارات بين الشخصيات، وتحميل بعض الجمل الحوارية أكثر مما تحتمل من المعلومات المقدمة بأسلوب تقريري ينتمي فقط للمقالات المكتوبة، ويستحيل تصوُّره على اللسان البشري. وقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى في موضعين من الرواية؛ الأول في الصفحة 89، حين استرسل (برانكو) في كلام طويل جداً ملأ في مجموعه ما يقارب الصفحتين أو ربما يفوقهما، والثاني في الصفحة 288، حين اندلق (الفقيه عبد السلام) في نشرة تقريرية مطوَّلة لا يُعقل تصوُّرها على لسان بشري، فضلاً عن شخصية فقيه في قرية. ولعل الكاتب قد استشعر أنه (بالغ قليلاً) في هذا الأمر، فأورد –واعياً أو غير واعٍ- على لسان الشخصيتين ما يشبه التبرير لهذا الاسترسال غير المعقول: “أعترف بأني أطلتُ قليلاً في الكلام”، “أعلم أنك تنظر إلي بعين الاستغراب، فتسريحة شعري العابثة وملابسي الغريبة وأقراط أذني تتعارض بشكل تام مع هذا الإلمام بتفاصيل ما يجري من حولي” (ص 90 – 91). “لم تتوقع أن أكون ملماً بما يجري حولي من أحداث، وأن إمامة الناس في مسجد قرية منسية في جبال الأطلس ستمنعني من مواكبة العصر الذي أعيش فيه، أليس كذلك؟” (ص 290).

– هذه المسألة السالف ذكرها؛ مسألة الاسترسال، هي متفرعة عن مسألة أخرى أكثر جوهرية، وأعني النزعة نحو إغراق الرواية بالمعلومات الثقافية. لقد صار هذا توجهاً روائياً عاماً في السنوات الأخيرة، كأنما استقر في ذهن الروائيين أن الرواية تستمد قيمتها من كثرة المعلومات التي تتضمنها، وحبذا لو كانت معلومات مثيرة أو نادرة. لقد كان الكاتب تحت تأثير هذه الظاهرة أثناء كتابته، لذلك جاءت روايته مترعة بالمعلومات إلى حد التخمة، وقد وُزِّعت المعلومات المفصلة على صفحات الرواية بلا حساب، في السرد والوصف والحوار والهوامش، كأنما يريد الكاتب التوكيد بإلحاح شديد على جهوده المضنية المبذولة في البحث والتدقيق، والإلمام بأدق التفاصيل الجغرافية والتاريخية والسياسية والعسكرية في الفترة التي تجري فيها الأحداث. نعم إن جهود الكاتب البحثية واضحة جداً، ومشكورة غير منكورة، لكن ما يجب الانتباه إليه أن (الترهُّل المعلوماتي) ليس من الصفات المحببة في فن الرواية، لا سيما إن كانت معلومات لا تهمُّ إلا فئة ضئيلة معينة من المجتمع. معظم القراء يبحثون في الرواية عن التسلية والعبرة، وعن الإثارة والتشويق، وعن التجربة الإنسانية العميقة، وما دامت الرواية في هذه الحالة موجهة عموماً لجمهور الشباب، فإن معظم الشباب –بمن فيهم الكاتب نفسه- كانوا صغار السن جداً في زمن الأحداث، أو ربما لم يكونوا قد وُلدوا بعد، لذلك لن يهمَّهم من المعلومات إلا خطوط عريضة تضعهم في الإطار وتساعدهم على الفهم، أما التفاصيل الدقيقة، وبالشكل الذي وردت فيه في هذه الرواية، فلعلها لن تهمَّ إلا فئة من المتخصصين، أو من الذين ينتمون إلى البلدان التي جرت فيها الأحداث (وهي بلدان غير عربية)، وأما غيرهم –وهم أكثرية القراء- فلن يبالوا بها، وربما يتجاوزونها، وحتى لو أراد أحد التعمق فسيلجأ إلى ويكيبيديا أو إلى المراجع المختصة، ما يطرح هنا مخاوف جدية من أن الجهود البحثية في الرواية، حين تتجاوز حداً معيناً، تصير جهوداً مهدورة، وذات نتائج عكسية، ومن شأن الرواية أن تكون أكثر إمتاعاً ورشاقة بدونها، تماماً كما يصير الإنسان أكثر رشاقة بعد عملية (شفط الدهون).

– الرواية عموماً تنتمي إلى نمط روائي (غربي حديث) إن صحَّ التعبير، وهو نمط صار الروائيون العرب مقبلين عليه بشدة، وإلى حد كاد يصير معه بديهية روائية رغم أنه ليس كذلك. لهذا النمط مميزاته وعيوبه، ومهما ذكرتُ من هذه المميزات والعيوب فهي تنطبق على رواية (ساعة الصفر) كما تنطبق على النمط الذي تنتمي إليه. تتجلى المميزات في إمتاع القارئ بأحداث ثرية متدفقة تحبس الأنفاس في الصدور، وبمعلومات طريفة ومثيرة، وبأخذه في رحلة شائقة متنوعة في الأزمنة والأمكنة. وأما العيوب فأبرزها تواري دور (الشخصية) في العمل الروائي، إذ لم يعد عنصر الشخصية ذا أهمية قصوى في الرواية، لذلك صار يندر أن نصادف رواية حديثة تضم شخصية ترسخ في الذهن وتتخذ لنفسها مكاناً في التاريخ، على خلاف الأدب الكلاسيكي والرومانسي الذين كان يُعنى عناية قصوى بالشخصية، ويكسوها بقدر هائل من الظلال والتفاصيل، ويخوض بنا في أعمق أعماق نفسها، حتى إن الشخصية الروائية الخيالية لتصير ذات (سيرة ذاتية) كاملة تتفوق بها حتى على بعض الشخصيات الحقيقية. في الأشكال الأدبية الحديثة تكون الأولوية للأحداث أو للأفكار، وأما الشخصيات فمجرد عناصر مساعدة لا أكثر، لذلك تظل في الغالب سطحية لا أعماق لها، لا يعبأ الكاتب بوصفها إلا قليلاً.
هي روايات تمتد أفقياً فقط، لكن ليس عمودياً. ومن الجدير بالذكر أن روايات الحروب تمثل بطبيعتها هذه التوجه، لأنها تعتمد على (الجماعات البشرية) أكثر من اعتمادها على الإنسان المفرد. الشرير هنا هو (الجيش)، والضحية هو (الشعب). جيشان يتحاربان، مجموعة تقاتل مجموعة، وفي زخم (المجموعات) هذا تختفي خصوصية الإنسان وفُرادته، ما يؤثر حتى على الموقف العاطفي للقارئ تجاه الأحداث، تماماً كما قد نتأثر بمصاب خفيف يلمُّ بإنسان قريب نعرفه، بأكثر مما نتأثر بخبر مجزرة جماعية بشعة في بلد بعيد، راح ضحيتها مئاتٌ من البشر.

– على مستوى اللغة، وإضافة إلى ما ذكرتُ من لغة الكاتب التقريرية، الخالية تماماً من الشاعرية والمحسنات البلاغية، فإنها في الواقع نتيجة طبيعية لانتماء الكاتب الأدبي، وميوله الواضحة والمصرَّح بها إلى الأدب الغربي الحديث. اللغة في هذا النوع من الأدب لها جمالياتها الخاصة التي لا تُنكَر، كما أنها تتميز بالعقلانية التامة، والدقة في انتقاء الألفاظ التي تعبر عن الشيء كما هو بلا زيادة ولا نقصان، ما يجعل العبارات تتميز بالصدق الوصفي التام، والتجرد في المقابل من العاطفة، وهو ما يعبر بوضوح عن العقلية العلمية الغربية بماديتها وبرودتها، والمخالفة تماماً للروح العربية التي تميزت، وتميز أدبها، بالمبالغة والتهويل، والعناية بلواعج النفس، والعواطف الدفاقة، والدماء الفائرة، وكثرة استخدام المجازات والاستعارات. وما دام الأدب الغربي قد وصل إلينا عن طريق الترجمة، فقد كان من الطبيعي أن تتأثر الأساليب اللغوية للكتاب العرب بنفس أسلوب الترجمة، لذلك تكوَّنت أقلامهم على نحو تبدو فيه عباراتهم الأصلية كما لو أنها مترجمة عن أصل غربي ما، رغم أنها كُتبت أساساً باللغة العربية.
وأنا في الواقع لا أنكر هذا التوجه رغم اختلافي معه، إذ رغم انتمائي وجدانياً إلى الأدب العربي المتشبع بالروح العربية كما يجب أن تكون، فإني أرى هذا النوع من الاختلاف اختلاف تكامل لا تنافر، وإنما أنكر في الحقيقة على من صاروا ينبذون تماماً الروح العربية في الأدب والأسلوب، وينتقصون من قدرها، ويأخذونها مأخذ السخرية والاستهزاء، وقد ينتهي الأمر ببعضهم إلى ازدراء اللغة العربية من أساسها، ليصيروا بذلك مستلَبين تماماً، منزلين أنفسهم، دون وجه حق، منزلة المغلوب المولع بتقليد الغالب.

– ورد في الرواية خطأ لغوي مزعج في صفحاتها الأولى؛ هو تأنيث كلمة (رفات). ويبدو أن التاء المبسوطة في نهاية الكلمة توهم بأنها جمع مؤنث سالم، وليست كذلك في الحقيقة. كلمة (رُفَات) على وزن (حُطَام)، وهي كلمة مذكَّرة وليست مؤنثة.

– في الصفحة 78 وردت أغنية دحمان الحراشي الشهيرة (يا الرايح وين مسافر) في مذكرات (بريجيت نوسي) التي تعود إلى عام 1962. لكن حين أجريتُ البحث وجدتُ أن أغنية (يا الرايح) لم تصدر إلا سنة 1973، ولستُ متأكداً ما إذا كان هذا خطأً تاريخياً في الرواية أم أن للكاتب علماً بإصدارات أقدم للأغنية.

    وختاماً أقول، بأن مما يدعو إلى الفخر حقاً، وجود روائي مغربي شاب قدَّم لنا عملاً بهذه الجدية وبهذه الروح القتالية العالية التي تستحق التنويه، وأتحفنا بتجربة روائية رائدة في سن مبكرة جداً، ومما يستحق الإشادة أيضاً تغلُّب الكاتب على نفسه باستمرار، إذ كلُّ رواية له أفضل مما قبلها، وهذا نادر جداً في الكتَّاب الذين وقع كثير منهم في فخ العمل الأول الذي انهزموا أمامه وعجزوا عن تجاوزه. وهنا أشير إلى أن بعض التفاصيل في رواية (ساعة الصفر)، وأعني الاقتباسات الأدبية، وعناوين الفصول المأخوذة من عناوين الكتب، ووجود القصاصات في بعض صفحاتها، كانت في الواقع إرهاصات لعمله الثالث الذي صدر مطلع هذا العام، والذي ستأتي مراجعته قريباً إن شاء الله: الملف 42 …

بقلم : أنس سعيد محمد
28/11/2020

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى