الواجهةتربية وتعليم

“الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” مقاربة معرفية

بقلم : أحمد الحارثي.

    تقوم فكرة “فرض التعاقد” في جوهرها على فكرة بسيطة ومختزلة مفادها: أن الدبلومات التي يتمتع بها الأساتذة لا توفر فرصا للحصول على عمل آخر ما عدا التدريس، وأنه ليس أمام السادة الأساتذة من خيار غير القبول بالشروط التي اشتغلوا في إطارها. وهو ما يجعل عبارة “فرض التعاقد” موضوعية وبريئة في الظاهر، لكنها في العمق وكسائر العبارات لها تحيزاتها المعرفية والإيديولوجية والسياسية، وهو ما نحاول الإجابة عنه هنا على المستوى المعرفي.

    تشير الفكرة كما تم عرضها سابقا إلى إشكالية : دور المدرسة (المدرسة هنا (كل مؤسسة تعليمية) في تحديد طبيعة الحراك الإجتماعي . أي : هل المدرسة تقوم بسد حاجات المجتمع وتحقيق اندماجه عن طريق تكييف المتعلمين وتطبيعهم مع الواقع الإجتماعي (المدرسة الوظيفية البنائية) ؟ أم هي انعكاس لحالة الصراع التي يعيشها المجتمع ومن ثم فهي إعادة لإنتاج نفس التفاوت الطبقي (مدرسة الصراع/ النقد) ؟ أم أن الأمر أبعد من حشر المدرسة في ثنائية التمجيد والتبخيس ويتطلب الإنفتاح على عوامل أخرى مفسرة لوظيفتها في المجتمع ؟ وهي إشكاليات اشتغل عليها حقل سوسيولوجيا التربية بشكل كثيف .

    إذا أردنا أن نُسكِّن فكرة “فرض التعاقد” ضمن إطار معرفي مناسب، فإنها ستكون أكثر اتساقا مع المدرسة الصراعية/ النقدية التي انتعشت خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وهي مدرسة حاولت القيام على نقد/ نقض المدرسة الكلاسيكية المحافظة ، أي المدرسة الوظيفية البنائية بزعامة تالكونت بارسونز وأوغيست كونت وإيميل دوركايم الذين نظروا إلى المدرسة كأحد مكونات البنية الاجتماعية؛ مهمتها الحفاظ على النسق من خلال سد حاجات المجتمع الاقتصادية والثقافية.. والحفاظ على استقراره وتماسكه والقيام بوظيفة التطبيع والتكييف والإدماج ونقل القيم بين الأجيال.

    تنطلق المدرسة الصراعية/النقدية من أطروحة مركزية مفادها أن المجتمع فضاء للصراع حول السلطة والقوة، والمدرسة باعتبارها مؤسسة تربوية/اجتماعية تحتضن هذا الصراع وتصرفه عبر قنواتها. ومن ثم فإن ما نظرت إليه المدرسة الكلاسيكية كتكييف وإدماج وسد لحاجات المجتمع اعتبرته المدرسة الصراعية تدجينا وعنفا رمزيا تقوم المدرسة بتلطيفه وإسباغ الشرعية عليه من خلال الدبلومات والشهادات.

    ورغم الحديث عن تعدد المصادر المعرفية لمدرسة الصراع، فإن هناك إجماعا على هيمنة الفلسفة الماركسية التي نظرت للمجتمع كبنية تقوم على طبقات تتصارع على وسائل الإنتاج المادية، لكن تحرير لويس ألتوسير الماركسية من حتميتها المادية عن طريق لفته الانتباه إلى دور المؤسسات الإيديولوجية في تذكية الصراع، مثل المدرسة. سيمهد الطريق لبيير بورديو وكلود باسرون للاشتغلا بشكل جلي على المدرسة (الفرنسية) باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ومحلا للصراع الطبقي وسيصلان إلى نتيجة مفادها أن مدرسة النظام الرأسمالي مدرسة تعيد إنتاج التفاوت الطبقي وتشرعنه، عبر العنف الرمزي والرأسمال الرمزي وفائض القيمة الرمزي..

    ستتطور الصراعية التربوية بعد ذلك، ولكن هذه المرة من خلال مدخل اللسانيات الاجتماعية، ومن الولايات المتحدة الأمريكية التي انتعشت بها، حيث ركزت على دور اللسان في تحديد الانتماء الطبقي والاجتماعي، فقد خلصت دراسات عالم اللسانيات الأمريكي بازل برنشتاين إلى أن لغة أبناء الطبقة الفقيرة مفككة، وتفتقد إلى أدوات الربط وقواعد النحو كما تفتقر إلى الخيال والإبداع. في حين تبدو قدرات أبناء الطبقة الغنية أقوى في استعمال لغة متماسكة وذات ترابط منطقي يحترم قواعد اللغة وقادرة على التخيل.

    وكخلاصة فإن المدرسة الصراعية نظرت للمدرسة كمصنع يخرج أبناء الفقراء فقراء وأبناء البرجوازية أغنياء، وتقوم بدور حفاظي.
لا يمكن لأحد أن ينكر دور المدرسة الصراعية في إنعاش السوسيولوجية التربوية خلال الستينات والسبعينات_ فترة صعود نجم الرأسمالية وهيمنة الصناعة والرأسمال على الاقتصاد الأوروبي والأمريكي_ وكشف جوانب أخرى من الظاهرة التربوية سلط عليها الضوء لأول مرة، إلا أن نقادها يرونها في العمق الوجه المقلوب للمدرسة الكلاسيكية، فمقابل سقوط البنائية الوظيفية في تبجيل المدرسة سقطت الصراعية في تبخيسها، ومقابل وصف الأولى دور المدرسة بالإدماج والتكييف والتطبيع، وصفت الثانية وظيفتها في التضبيع والتدجين وتلطيف وشرعنة العنف، ومقابل تركيز الأولى على سؤال التنشئة الاجتماعية ركزت الثانية على سؤال التفاوت الطبقي. وأعمق من ذلك تعود الوظيفية والصراعية كلتاهما إلى مشكاة واحدة: حتمية البنية الاجتماعية. وهو ما جعلهما تلغيان دور الفرد ومسؤوليته في تحديد اختياراته الدراسية والمهنية، أي بتعبير آخر: المدرستان كلتاهما تنتميان إلى تيار البنية في مقابل تيار الفاعل الاجتماعي كما صنف أيان كريب.

    على المستوى الواقعي تعجز النظرية الصراعية عن تفسير ظاهرة الترقي الاجتماعي لأبناء الفقراء في عدد من المجالات: المعرفة، الثقافة، الاقتصاد، السياسة،،، وعن تفسير تقهقر بعض أبناء الأغنياء في سلم الترقي الاجتماعي لاعتبارات قيمية أو ثقافية ..

    إبستمولوجيا تم تجاوز النظرية الصراعية في الحقل التربوي، لصالح مدرسة الحراك الاجتماعي أو مدرسة النموذج المفسر الذي يذهب إلى محدودية العلاقة بين المدرسة والحراك الاجتماعي، وإعادة الاعتبار إلى إرادة الفرد وعقلانيته وميولاته في تحديد اختياراته الدراسية والمهنية. وتجاوز النظرة الاختزالية في تفسير الظاهرة التربوية، والانتباه إلى تعقيدها وتركيبيتها. وعوض التركيز على سؤال علاقة المدرسة باللامساواة الطبقية ؟ ستفتح مقاربة النموذج المفسر المجال لبزوغ أسئلة جديدة من قبيل: علاقة المدرسة بأولياء الأمور ؟ علاقة المدرسة بسوق الشغل ؟ الكفاءة المهنية ؟ القيم كالغش .. ؟ التكوين التربوي ؟ النجاح والرسوب ؟ سؤال الهدر ؟… وهي أسئلة ستقلق راحة الفكر الاختزالي.

    إن إخلاء مسؤولية الفرد عن اختياراته مع المدرسة النقدية أمام الحتمية الاجتماعية سيتخذ مبررا أيديولوجيا للحركات الثورية والراديكالية التي حاولت تغيير واقع المدرسة عبر تغيير النظام السياسي والاجتماعي القائم باعتباره لب المشكلة، وهو أهم انتقاد وجه لهذه المدرسة. أي؛ التورط في الأيديولوجية والصراع السياسي .

    وهو موضوع تدوينتنا القادمة: “فرض التعاقد” مقاربة أيديولوجية سياسية.
______
بعض المصادر التي اعتمدت عليها هذه التدوينة:
1 النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس أيان كريب
2 نظريات سوسيولوجية معاصرة كراسة جامعية امحمد مهدان
3 سوسيولوجيا التربية جميل حمداوي
4 سلسلة التكوين التربوي ع 3
5 سوسيولوجيا التربية المعاصرة السياقات والمقاربات عبد الكريم غلاب

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى