ماجدة أيت لكتاوي
الرباط ـ «القدس العربي»: قبل ثلاث سنوات، وبالضبط في شهر أيلول/سبتمبر من عام 2021، هُدمت أقدم سينما في مدينة سلا المحاذية للعاصمة الرباط، تلاشت معها ذكريات أجيال بكاملها وقضت على جزء من تاريخ المدينة. وأقيمت مكانها عمارة سكنية ما زالت في طور البناء.
القرار الصادر عن السلطات المختصة خلفَّ حزنا لدى أبناء المدينة وأعاد الجدل المتكرر في المغرب حول التفريط بجزء من الذاكرة الثقافية والفنية، التي انتصر عليها المقاولون المعماريون والمنعشون العقاريون وأقاموا مكانها عمارات سكنية وتجارية. وهو ما سار الناقد السينمائي المغربي مصطفى الطالب إلى تأكيده قائلا إن «العديد من القاعات السينمائية في المغرب، خاصة التي لها ماضٍ عريق سينمائيا أصبحت عمارات سكنية أو محلات تجارية، دون أن يأبه أحد لقيمتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية».
سينما «أوبرا» المغلقة منذ عام 2004 التي عرَضت أبرز الأفلام العالمية واستضافت أشهر الفرق الغنائية المغربية في سبعينيات وثمانينيات القرن الـ20 إلى جانب أبرز المطربين والكوميديين على امتداد 40 عاما، واحدة من بين حوالي 300 قاعة سينمائية أغلقت أبوابها أو تم هدمها، ولم يتبقَّ إلا عدد قليل منها لا يتجاوز الـ20، حتى إن العديد من المدن لا تتوفر على قاعة سينمائية لعرض الأفلام، من بينها مدينة ورزازات «هوليوود المغرب» التي تجذب كبريات شركات الإنتاج العالمية وكبار المخرجين العالميين.
بالنسبة للمخرج السينمائي عز العرب العلوي، فإن هدم العديد من القاعات السينمائية التاريخية واستبدالها بعمارات سكنية أو تجارية، أدى إلى تقليص عدد القاعات السينمائية إلى أقل من ثلاثين قاعة صالحة للعرض اليوم.
ولفت إلى أن دور السينما عرفت تهميشا في مراحل معينة من تاريخ المغرب، خاصة في التسعينيات، إلا أن هذا النزيف تباطأ بعد صدور قانون صَنَّف القاعات السينمائية ضمن التراث الوطني، تحت إشراف وزارة الثقافة. ونتيجة لذلك، أصبح من الصعب على مالكي القاعات هدمها أو بيعها لأغراض تجارية غير السينما.
واستطرد المخرج السينمائي المغربي متحدثا لـ»القدس العربي» أنه على الرغم من القانون، لجأ عدد من مُلاّك القاعات السينمائية إلى الاحتيال، عبر إغلاقها لفترات طويلة، أو تعريضها للهدم بسبب التقادم. وفي بعض الأحيان، يتعمدون ترك المياه تتسرب إليها لتتعرض للتآكل بشكل متعمد، حتى تنهار من تلقاء نفسها، ما يتيح لهم تحويل الأرض إلى عقار.
الناقد السينمائي المغربي مصطفى الطالب قال لـ»القدس العربي» إنه من المفارقات الغريبة، أن هذه الظاهرة، تقليص وهدم قاعات السينما، تأتي في وقت يشهد فيه الإنتاج السينمائي تطورا ملحوظا، كمّاً وكيفا، حيث وصل عدد الأفلام المغربية إلى أكثر من 30 فيلما سنويا، بالإضافة إلى تزايد عدد المهرجانات السينمائية التي تكاد تصل إلى 100 ما بين الصغرى والكبرى، التي تحاول أن تنشر الثقافة السينمائية وتروج لصورة المغرب كبلد سينمائي.
وحول أسباب تراجع أعداد القاعات السينمائية، عزا الناقد السينمائي الوضع إلى انتشار القنوات التلفزيونية ثم الثورة الرقمية التي غيرت علاقة المشاهد مع المنتَج السمعي البصري، بحيث أصبح في متناوله مشاهدة ما يشاء على المنصات الرقمية التي تقدم عددا لا يحصى من الأفلام العالمية وبجودة عالية. وخلُص إلى أن الإنتاج المغربي يصعب عليه مسايرة هذه المنافسة الشرسة؛ ما أدَّى إلى عزوف الجمهور المغربي عن القاعات السينمائية، التي تضطر إلى الإغلاق بسبب إفلاس أصحابها. وأضاف أن القطاع الخاص لا يساهم في بناء قاعات سينمائية يمكن أن تُدرَّ عليه أرباحا، خاصة إذا وفر لها وسائل الترفيه والمطاعم.
وأفاد الناقد السينمائي المغربي أن من بين أسباب إغلاق القاعات السينمائية عدم انخراط الدولة بشكل كبير وواضح في معالجة هذه الظاهرة التي تركتها تستفحل، رغم وعيها بأهمية السينما، ورغم بعض الجهود المتمثلة في إحداث لجنة خاصة برقمنة القاعات السينمائية وتجويدها، ودعم أصحابها على بنائها وذلك منذ سنة 2012، ثم مؤخرا من خلال قرار وزارة الثقافة والاتصال بإحداث 150 شاشة (وليس قاعة) في مجمعات ثقافية في بعض المدن المغربية مع مطلع سنة 2024. زيادة على تكلُفة التذكرة المرتفعة بالنسبة للمواطن المغربي البسيط الذي يصعب عليه أن يرتاد السينما مع أفراد عائلته.
وعلى الرغم من المجهودات التي تبذلها وزارة الثقافة، حيث عملت خلال السنتين الأخيرتين على إحداث 25 مُجمّعاً سينمائيا بشراكة مع القطاع الخاص، وتهيئة 150 قاعة عرض سينمائي، فـي عدد من مدن المملكة، جرى افتتاح عدد مهم منها؛ إضافة إلى تعهدها بإيلاء اهتمام خاص بتأهيل وإعادة فتح القاعات السينمائية المصنفة ضمن التراث الوطني، إلا أن إجراءات وقرارات عملية يجب أن تتخذ لإعادة الاعتبار لهذه المعالم التاريخية السينمائية.
بهذا الخصوص، أكد المخرج عز العرب العلوي، أن الوقت حان لتتدخَّل الوزارة والجهات المعنية لشراء هذه القاعات السينمائية وضمّها إلى ملكية الدولة، لتأهيلها لاستضافة العروض السينمائية، وربما أفضل مثال على ذلك هو سينما النهضة في شارع محمد الخامس، التي كانت مهددة بالتحول إلى محلات تجارية، وتم إنقاذها من قبل مؤسسة «هبة» بأمر ملكي. وعلى هذا النحو، يمكن إنقاذ ما تبقى من القاعات السينمائية.
ويرى الناقد السينمائي مصطفى الطالب أنه باستطاعة الدولة أن توفر لكل مدينة قاعة سينمائية أو اثنتين، وبثمن تذكرة مقدور عليه إذا تضافرت جهود كل القطاعات والوزارات، وأن تشجع القوافل السينمائية التي كانت منتشرة في البوادي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لمصالحة الجمهور مع السينما وبث ثقافة الذهاب إلى السينما؛ وأن تدفع القطاع الخاص إلى المساهمة في تشييد القاعات السينمائية وتحقيق صناعة سينمائية ما زلنا نحلم بخلقها، بتقديم محفزات وتسهيلات للمستثمرين. وأوصى الطالب بإدراج ثقافة الصورة في البرامج التعليمية وتزويد المؤسسات التعليمية بوسائل العرض السمعي البصري، وأن يعمل السينمائيون المغاربة على تقديم إنتاج سينمائي في المستوى المطلوب، وأن يحترموا ثقافة وقيم الجمهور المغربي، الذي كوَّن صورة سيئة وقاتمة عن الأفلام المغربية منذ مطلع الألفية الثالثة، بسبب ضعف السيناريو وجرأتها المجانية وعدم احترامها لذكاء المشاهد المغربي الذي لا يجد نفسه فيها وكذا لذوقه وهويته.