الصحراء المغربيةالواجهة

الإعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء دلالاته، خلفياته وأصداؤه دوليا وإقليميا

بقلم الدكتور عبد الله استيتو 

تمهيد : استفاق المجتمع الدولي يوم الخميس 10 كانون الأول/ ديسمبر الجاري على واقع خبر سياسي وازن على الساحة العالمية، وله قوته التأثيرية في ساحة العلاقات الدولية والقارية والإقليمية من حيث الفواعل المؤثرة فيها والجهات ذات السطوة الكبرى في دوائرها ودهاليزها. وهمَّ هذا الخبرُ الاعتراف التاريخي للولايات المتحدة بمغربية الصحراء؛ إذ إن البيت الأبيض أصدر قرارا رئاسيا يقر بالاعتراف الأمريكي بسيادة الكاملة للمملكة المغربية على ترابها بأقاليمها الصحراوية، والذي جاء فيه أن الولايات المتحدة تؤكد دعمها لمقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب كأساس وحيد لحل عادل ودائم لقضية الصحراء المغربية، وبأن الولايات المتحدة تعترف بسيادة المغرب على كامل أراضي الصحراء ابتداء من تاريخ إعلان هذا الاعتراف وصدور هذه الوثيقة رسميا في التاريخ أعلاه. 

     ومما جاء في نص الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء تأكيد الولايات المتحدة على دعمها لاقتراح الحكم الذاتي الجدي والموثوق به والقابل للتطبيق، الذي قدمه المغرب كأساس وحيد لحل عادل ودائم للصراع على أراضي الصحراء المغربية، وبأنها مقتنعة تماما أن طرح قضية استقلال  الصحراء ليس واقعيا لحل النزاع؛ بل تعتبر أن الاستقلال الذاتي الحقيقي تحت لواء السيادة المغربية هو الحل الوحيد القابل للتطبيق؛ لذلك فهي تحث الأطراف المعنية بهذا النزاع على المشاركة في المحادثات بدون تأخير، واستخدام الخطة التي اقترحتها المملكة المغربية كإطار وحيد للتفاوض على حل مقبول من الطرفين. وأضاف نص الاعتراف أيضا، بأن الولايات المتحدة الأمريكية تشجع التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع المغرب، وخاصة في الأقاليم الصحراوية، رغبة منها في  تسهيل التقدم نحو الحل النهائي لهذا الملف، وأكدت عزمها على فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة بهدف تعزيز الفرص الاقتصادية والأعمال في المنطقة. 

    وصرح فخامة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بما يلي: «أنا رئيس الولايات المتحدة دونالد ج. ترامب، أعلن بموجب السلطة المنوطة بي بحسب دستور وقوانين الولايات المتحدة، أن الولايات المتحدة تعترف أن كامل أراضي الصحراء الغربية هي جزء من المملكة المغربية. وقد مهرت هذا المستند بتوقيعي شهادة على ذلك بتاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر 2020 وفي العام الـ 245 على استقلال الولايات المتحدة».

 

أولا: دلالات التصريح الأمريكي

والجدير بالتنبيه أن هذا الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، يمكن أن نسجل بخصوصه جملة من الملاحظات، منها:

الملاحظة الأولى: شكل التصريح: لعل خبراء القانون وفقهاءه يدركون ما لهذا الاعتراف الأمريكي من قوة وأهمية فيما له علاقة بوضع حد لهذا النزاع الإقليمي المفتعل في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية منذ نحو نصف قرن؛ إذ إن صياغة نص هذا الاعتراف جاءت واضحة تماما، ولا تحوي فقراته أي صيغ قابلة للتأويل أو المزايدة، ولا يسمح متنه بالتلاعب في معانيه وغاياته، أو التعامل معه بنية مبيتة تفضي إلى تحريف محتوياته، وتأويل عباراته تأويلا يضرب في جوهره، أو يحرف كلامه عن مواضيعه؛ كما أنه تصريح مستوف لكافة الجوانب الرسمية لمثل هذه الوثائق القانونية النوعية، سواء بالنسبة إلى ترسيم الجهة الصادرة عنها الوثيقة والتي تم ترويسها بالشعار الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، (البيت الأبيض/رئيس الولاات المتحدة الأمريكية باعتباره يمثل أعلى سلطة في البلاد)، أو الجهة الموجهة إليها الوثيقة (المملكة المغربية دون سواها)، أو موضوع الوثيقة/عنوانها (اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المملكة المغربية على كافة أراضيها في أقاليمها الصحراوية)، أو مكان صدور الوثيقة (البيت الأبيض في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية) أو تاريخها (كانون الأول /ديسمبر 2020 وفي العام الـ 245 على استقلال الولايات المتحدة)، أو حجم الوثيقة (وثيقة مختصرة مكونة من ثلاث فقرات رئيسة واضحة ومعبرة)، أو ختمها وإمضاؤها (الوثيقة تحمل إمضاء رئيس الولايات المتحدة دونالد ج. ترامب).

الملاحظة الثانية: مضمون التصريح

     لا شك في أن مضمون هذا التصريح لا يمكن أن نقرأه فقط بصيغة المفرد، وإنما لا بد من تضمينه صيغة الجمع والتعدد؛ إذ إن المضمون العام للتصريح يتمحور حقا حول اعتراف الولايات الوتحدة الأمريكية رسميا بمغربية الصحراء. وهذا جوهر هذه الوثيقة وروحها؛ لكن هذا الجوهر لا تكتمل صورته، ولا يستوي معناه، ولا تتضح معالمه الأصيلة وهويته العميقة إلا بجعل له ملحقات وتكملات، أملا في وضع النص في سياقه المقصود، وتمكينه من تحقيق هدفه المنشود، وتحصينه من كل تلفيقات مفتعلة، أو نية سيئة؛ لذلك صيغت فقرات هذا التصريح الأمريكي اعتمادا -عموما- على مضمون مجمل، مع حمولة التفصيل المشروط بإيضاح القصد، وتبيان المراد دون سواه. وهذا ما جعل هذه الوثيقة تلخص مضمونها في عنوانها، والذي تمحور حول الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء؛ لكن نص الوثيق أضاف عناصر ملحقة بهذا المضمون العام، والتي كان الهدف من اعتمادها الإيضاح والتبيان ومنع حصول أي إبهام أو غموض لدى من يهمهم أمر هذا التصريح، كيفما كانت طبيعتهم وماهيتهم؛ لذلك نجد أن مضامين هذا الاعتراف امتدت إلى عناصر مهمة في سياق تسليط الضوء أكثر على شروط حل هذا النزاع، والمسار الذي يضمن له النجاح وتحقيق المبتغي؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية أقرت من خلال هذا التصريح دعم مقرتح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب للمنتظم الأممي منذ عام 2007 من أجل إيجاد حل مقبول لهذا النزاع المفتعل منذ عقود. وهو مقترح زكته الوثيقة الأمريكية، واعتبرته القاعدة الوحيدة ذات المصداقية والجدية لوضح حد لهذا النزاع المفتعل؛ 

2- آليات أجرأة وتنزيل مضامين الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء

   أكدت الولايات المتحدة عزمها على أجرأة هذا الاعتراف على أرض الواقع، وتنزيل مضامينه في القريب العاجل بالأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية من خلال آليتين:

الآلية الأولى: فتح قنصلية عامة للولايات المتحدة الأمريكية في مدينة الداخلة

      وهذا يعني أن أقوى دولة في العالم قد انضافت إلى سلسلة من الدول الصديقة للمملكة المغربية، والتي أعلنت عن مواقفها الثابتة تجاه دعم سيادة المغرب على كافة أراضيه، والوقوف ضد محاولات الانفصاليين ومن يدعمهم بخصوص المساس بالوحدة الترابية للمملكة؛ بحيث إن مدينة الداخلة احتضنت إلى غاية اليوم تسع قنصليات عامة لكل من غامبيا، غينيا، جيبوتي، ليبيريا، بوركينا فاسو، غينيا بيساو، غينيا الاستوائية، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهايتي (أول بلد غير إفريقي وغير عربي يفتح قنصلية عامة له في الداخلة)، ناهيك عن عدة قنصليات عامة لجملة من الدول الإفريقية والعربية في مدينة العيون (بروندي، جزر القمر المتحدة، الغابون، ساو تومي وبرنسيب، إفريقيا الوسطى، وكوت ديفوار، مملكة إسواتيني (سوازيلاند)، الإمارات العربية المتحدة، مملكة البحرين، مملكة الأردن. 

  ولعل تضمين نص الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء مسألةَ فتح قنصلية عامة للولايات المتحدة الأمريكية في مدينة الداخلة، فيه رسالة قوية إلى أن أمريكا جادة في تصريحها، وأنها عازمة كل العزم على أن تقدم للعالم الدليل المادي والبرهان الحي على نيتها الأكيدة في إنهاء هذا النزاع المفتعل الذي أنهك جهود القوى الحية الدولية في الحفاظ على الأمن العالمي وإقرار سلم دائم في شمال إفريقيا، خدمة للسلام والاستقرار اللذين باتا أكثر من أي وقت مضى مهددين بفعل موجة الأعمال الإرهابية، والجماعات الأصولية المتشددة، والتنظيمات المتطرفة، وعصابات التهريب والاتجار في المحظورات، ونشاط الشبكات الإجرامية الدولية، ورغبة كل هاته الأطراف في خلق الأجواء المناسبة للانفلات والتسيب، بغية تنشيط موجات الهجرات غير الشرعية نحو بلدان الشمال عبر البوابة المغربية.

    ولا ننس أن هذا القرار الأمريكي أتى بعد مرور نحو شهر فقط على العملية العسكرية التي قامت بها القوات المسلحة الملكية في معبر الكَركَرات عندما نظفته من وجود ميلشيات “بوليساريو” وجماعات قطاع الطرق التي أوقفت الحركة التجارية الدولية في المعبر لعدة أسابيع انطلاق من 21 أكتوبر الماضي، وسطت على ممتلكات الغير، وألحقت أضرارا بالغة بالمارين عبر هذه البوابة بين المملكة المغربية والجمهورية الإسلامية الموريتانية.

   وإذا ربطنا بين واقعة الكَركَرات والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، نستنتج بما لا يدع مجالا للشك أن أمريكا ثمنت موقف المغرب، وأيدت العمل الذي أنجزته القوات المسلحة الملكية بخصوص إعادة فتح المعبر وتوفير الظروف الملائمة للملاحة الدولية تجاه القارة الإفريقية عبر الوابة المغربية؛ لذلك فإن إقامة الولايات المتحدة الأمريكية قنصلية عامة لها في مدينة الداخلة يتعبر حدثا استثنائيا ذا دلالات عميقة تستوجب رصد آفاقها، واستيعابَ مضامينها، وإدراك خلفياتها حق الإدراك؛ لأن إقامة هذه القنصلية سوف ترافقه حزمة من الإجراءات الأمنية واللوجيستيكية بخلفية مغربية أمريكية، ولن تكون هذه المؤسسة مجرد بناية عادية أبدا؛ بل هي منشأة لها رمزية قوية جدا مستوحاة من هيبة و.م.أ وقوتها وعظمتها كدولة تلعب دور شرطي العالم؛ إذ بات من اللازم اليوم على الجهات المعادية للوحدة الترابية للمملكة المغربية في أقاليمها الجنوبية، أن تحسب ألف حساب لأي سلوك مستقبلي من شأنه أن يمس بالمصالح الأمريكية في الأقاليم الجنوبية للمغرب، وأن عليها منذ الآن فصاعدا أن تفكر بمنطق آخر، يرتكز على الواقعية، ويساير الأحداث الراهنية، ويقرأ جيدا خلفيات التحولات العميقة التي تحدث حاليا إقليميا وقاريا ودوليا، وأن تعي بأن التطور التاريخي للشعوب لا يقوم مطلقا على الأماني والأحلام والبكاء على الأطلال، بقدر ما يبنى على قرارات فيها من العزم والحزم ما تكبر به الهمم، وتسمو به النفوس، ومواقف شجاعة تشكل منعطفات عميقة في السرورة التاريخية للمجتمعات والأمم.

الآلية الثانية: آلية الاستثمار والفرص الواعدة للاقتصاد

  كل من يتأمل العلاقات الخارجية للولايات المتحدة مع مختلف دول العالم، لا بد وأن يخرج بحزمة من الخلاصات حول الأسس الصلبة التي تبني عليها هذه الدولة سلوكاتها وتصرفاتها مع مختلف الدول والحكومات في الشرق والغرب، كما في الشمال والجنوب؛ بحيث إن القنوات الدبلوماسية الأمريكية راكمت عبر التاريخ جملة من التجارب والخبرات جعلت منها مرجعا أصيلا للعمل الدبلوماسي الخصب والحيوي والمؤثر في المسار العام للعلاقات الدولية بكل تعقيداتها وتشعباتها. ولعل من أبرز الأسس التي تقوم عليها العلاقات الخارجية الأمريكية أساسَ البراكَماتية والواقعية، وعدم إغراق دبلوماسيتها في الأحلام والطوباوية، ناهيك عن قدرتها على اتخاذ القرارات المؤثرة في سياق الأحداث، وتحويل مسارات الوقائع في الاتجاه الذي تراه مناسبا لها. 

  وبناء على هذه المبادئ العامة للعلاقات الخارجية الأمريكية، يجب قياس قرارها التاريخي بخصوص اعترافها بمغربية الصحراء يوم 10 دحنبر الماضي، والإقرار بمبادرة الحكم الذاتي التي قدمتها المملكة المغربية كأداة لإيجاد مخرج عادل ومنصف لهذا الملف المفبرك؛ إذ أكدت الولايات المتحدة أن هذه المبادرة وحيدة، ولا ثانية لها، وأنها الأساس الذي يجب أن تبنى عليه مختلف المقاربات والتصورات الخاصة بطي هذا الملف نهائيا. 

  واعتمادا على هذا الإيمان الراسخ للولايات المتحدة بخصوص واقعية هذا المقترح وجديته ومصداقيته، فهي ضمنت تصريح اعترافها بمغربية الصحراء حزمة من الخطوات الإجرائية، والتزمت بتصريفها على أرض الواقع انطلاقا من تاريخ توقيع هذا الاتفاق الأمريكي المغربي في هذا الشأن والذي جرى يوم الثلاثاء 23 دجنبر 2020 بعد استقبال العاهل المغربي بالرباط للوفد الأمريكي برئاسة مستشار الرئيس ترامب وصهره السيد جاريد كوشنير، والوفد الإسرائيلي برئاسة المستشار الخاص لرئيس الوزراء الإسرائيلي مائير بن شباط.

    وأثناء هذا الاستقبال الملكي تم توقيع اتفاق تاريخي بين المملكة المغربية والولايات المتحدة، تفعيلا لمقتضيات الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. وهم هذا التوقيع اتفاقيتين للتعاون بين البلدين بخصوص إنعاش الاستثمارات بالمغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ إن الاتفاق الأول هو عبارة عن مذكرة تفاهم بين شركة تمويل التنمية الدولية للولايات المتحدة الأمريكية والحكومة المغربية ممثلة في وزارة الاقتصاد والمالية، في حين وُقع الاتفاق الثاني بين شركة التنمية الأمريكية ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمن في الخارج، والذي هم المشروع الأمريكي “ازدهار” في إفريقيا.

  وقد التزمت الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على تعزيز فرص الاقتصاد والاستثمار لفائدة الأقاليم الجنوبية المغربية، وأكدت على البدء في تنزيل هذه الرؤية التنموية الواسعة في الصحراء من خلال ضخ سيولة مالية هائلة تبلغ نحو خمسة مليارات دولار في إطار برمجة مرحلية تروم الاستثمار في سلة من القطاعات الحيوية التي لها أبعاد استراتيجية في المنطقة، والتي تحظى بأولوية بالغة من قبل رجال الأعمال ألأمريكيين الذين وضعوا ثقتهم في المملكة المغربية بالنظر إلى ما يمتاز به المغرب من أمن واستقرار، وقياسا إلى موقعه الاستراتيجي الذي يمثل ثقلا كبيرا في منظومة العلاقات الدولية الراهنة، سيما وأن صمود الدولة المغربية في وجه مختلف الأزمات التي عرفتها الألفية الثالثة، وقدرتها على مواجهة أكبر التحديات الأمنية والاقتصادية خلال الفترة نفسها، جعلاها نموذجا فريدا عربيا وإفريقيا، وأهلاها لكي تصبح ورقة مؤثرة في جملة من الملفات الشائكة، وخاصة ما يتعلق بملف الهجرة غير الشرعية، وملف الخلايا الإرهابية والجماعات المتطرفة، وشبكات الاتجار في المخدرات والبشر، وكل القضايا التي من شأنها أن تمس بالأمن والاستقرار، ناهيك عن النهج المعتدل الذي سوقته المملكة خارجيا على المستوى العقدي، والذي تَوج المسار الطويل لإصلاح منطومة الحقل الديني برمتها. وهو ما كانت له نتائج إيجابية جدا بخصوص تقاسم المغاربة للقيم الحضارية المثلى مع مختلف الشعوب والأديان؛ الشيء الذي عزز قيم التضامن والتسامح والسلام والتعايش بين المغاربة وغيرهم من المجتمعات.

ثانيا: خلفيات التصريح الأمريكي بمغربية الصحراء

  1. خلفات تاريخية:

   الدعم الدائم الذي ظلت الإدارة الأمريكية تقدمه إلى قضية الصحراء المغربية لم يأت من فراغ؛ وإنما أتي كثمار واقعية لعلاقات ضاربة في التاريخ بين البلدين، والتي تعود إلى غاية السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (المعروف عند المؤرخين بأنه السلطان الذي أتى قبل عهده [1757-1790]) الذي اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1777م في عهد الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الذي تبادل حزمة من الرسائل مع السلطان المغربي، والتي تشكل اليوم ذاكرة مشتركة بين البلدين تشهد على عظمة الدولة المغربية وعراقتها وانفتاحها ووقوفها في صف القضايا العادلة للشعوب والأمم؛ إذ تم إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بين البلدين من خلال المصادقة على معاهدة سلام وصداقة بين الإيالة الشريفية والولايات المتحدة الأمريكية عام 1786م، التي وقعت في مدينة مراكش من قبل  كل من السلطان سيدي محمد بن عبد الله  والسياسيَّيْن الأمريكيين جون آدمز وتوماس جيفرسون (الذي أصبح فيما بعد الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية). وهذه المعاهدة استكملت جوانبها القانونية بعد أن صادق عليها الكونغرس الأمريكي يوم 18 يوليوز 1787م.

 

ومضمونها هو: «هذا تقييد شروط الصلح التي جعلناها مع الماركانوس وأثبتناها في هذا الدفتر ووضعنا عليها طابعنا لتبقى مستمرة إن شاء الله وكتبت بحضرة مراكش في الخامس والعشرين من شعبان المبارك عام مائتين وألف[1786».

   وهذا حدث عظيم يرصع الدبلوماسية المغربية بمداد من الفخر والاعتزاز عبر تاريخها العريق؛ إذ لا بد من إمعان النظر كثيرا في حيثيات هذا الحدث، وكيف أن الدولة المغربية كان لها الشرف أن تكون من بين الدول الأوائل في العالم التي اعترفت باستقلال أمريكا. هذا يعني أن التاريخ كنز الشعوب في الماضي والحاضر والمستقبل. وهو الشيء الوحيد الذي لا يمكن إرجاعه إلى الوراء، أو يمكن تداركه بالصناعة والافتعال والافتراء، لأن ما وقع وقع فعلا، وأن ما لم يقع فهو كذلك. ولا يمكن أبدا الافتراء على تاريخ من هذا الحجم وبهذا المستوى عندما يتعلق الأمر بوقائع تاريخية وأحداث سياسية واجتماعية غيرت سيرورة المحتمعات والشعوب؛ فإذا كانت الدولة المغربية بمؤسساتها وهيئاتها ومكوناتها ومختلف أدواتها وآلياتها، قد سجلت حضورها على الساحة العالمية في نهاية القرن 18 بخصوص العلاقات الدولية والدينامية الدبلوماسية والتحولات التاريخية في بلاد العام سام، فإننا نتساء أين كان يومئذ مَن يعادون اليوم الوحدة الترابية للمملكة المغربية، ويسعون إلى عرقلة مسيرتها التنموية في أقليمها الجنوبية؟ أين كانت حكومة الجزائر في تلك اللحظة؟ هل كانت أصلا موجودة حتى تسمح لنفسها اليوم بالحديث عن السيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية؟ ألم تكن مجرد ولاية من الولايات العثمانية بعدما ضمها خير الدين بربروسا إلى ممتلكات هذه الأخيرة في غرب المتوسط منذ عام 1518 على عهد السلطان سليم الأول بعدما ظلت ردحا من الزمن ساحة للمعارك وعدم الاستقرار في ظل الصراع بين الزيانيين والحفصيين؟ ألم تستمر بتلك الصفة وعلى تلك الهيئة إلى أن انتقلت من الهيمنة التركية إلى السيطرة الفرنسية عام 1830؟ وهل جاءت إشارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى اعتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة من باب الصدفة والعفوية داخل نص الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء؟ أم إن نص الاعتراف اختيرت مفرداته بعناية فائة كلمة كلمة، وأن هذه الإشارة ثقيلة جدا في ميزان العلاقات العلاقات الدولية مثلما يقر بذلك فقهاء القانون الدولي ورواده؟ أليس في تذكير الرئيس الأمريكي بالموقف المغربي الفريد في أفريقيا وآسايا والعالم العربي تجاه الأمريكيين في القرن 18 ما يؤكد أصالة العلاقات بين الطرفين، وأن ما يروج في بعض المنابر الإعلامية والسياسية المعادية للمصالح المغربية لا يعدو أن يكون عبارة عن تشويش على هذه العلاقات التاريخية المتميزة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية؟

  1. خلفيات ديبلوماسية حية ودينامية

   تمثلت هذه الخلفيات الدبلوماسية في الدينامية الكبيرة التي ميزت الفعل الدبلوماسي بين و.م.أ وسلاطين  المغرب وملوكه، سيما أن هذه  العلاقات الدبلوماسية ظلت مستمرة بين الطرفين، وتوجت بلقاءات تاريخية بين حكام المغرب ورؤساء الولايات المتحدة؛ إذ نُذكِّر القراءالكرام بموجز للقاءت القمة بين الأمريكيين والمغاربة؛ مثل:

  • السلطان محمد الخامس: التقى يوم 22 يناير 1943 مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في فندق أنفا بالدار البيضاء؛
  • قيام السلطان محمد بن يوسف أيضا بزيارة رسمية إلى أمريكا بدعوة من الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور والتي استغرقت ثلاثة أيام (25-27 نونبر 1957)؛ لكن السلطان لم يعد إلى المغرب؛ بل استمر في زيارة غير رسمية لجملة من الولايات والجهات في وم.أ، ولم يعد إلى بلاده إلا في 13 دجنبر دجنبر من عام 1957)؛ كما أن السلطان استقبل الرئيس الأميكي إيزنهاور في زيارة رسمية إلى المملكة المغربية يوم 22 دجنبر 1957. 
  • الملك الحسن الثاني: قام بثمان زيارات رسمية إلى و.م. كانت الأولى عام 1963، دامت نحو عشرة أيام، وكانت الأخيرة سنة 1995. وخلال هذه الزيارات التقى، رحمه الله، بعدد من رؤساء الولايات المتحدة، وهم على التوالي: جون كينيدي، جيمي كارتر، رونالد ريغن، جورج بوش الأب ثم بيل كلنتون.
  • الملك محمد السادس: زار الولايات المتحدة الأمريكية زيارات رسمية خمس مرات، سواء لما كان وليا للعهد، أو لما تولى العرش منذ عام 1999: 
  • 23-19 ينونيو 2000: زيارة رسمية بدعوة من فخامة الرئيس الأمريكي بيل كلنتن، والتي مُنح خلالها جلالة الملك الدكتواره الفخرية من طرف جامعة جورج واشنطن؛
  • 21 أبريل إلى 9 مايو 2002: زيارة عمل التقى فيها مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن؛
  • 24-21 شتنبر 2003: زار و.م.أ بمناسبة مشاركة جلالته بنيويورك، في المناقشات العامة للدورة الـ 58 للجمعية العامة للأمم المتحد؛.
  • 12-8 يوليوز 2004: زيارة عمل إلى أمريكا التقى فيها مع الرئيس جورج بوش الإبن؛
  • 20 شتنبر إلى 2 أكتوبر 2004 : مشاركة العاهل المغربي بنيويورك في الدورة الـ 59 للجمعية العمومية لمنظمة الأمم المتحدة؛
  • 20-22 شتنبر 2010 :مشاركة الملك محمد السادس، بنيويورك، في قمة أهداف الألفية للتنمية؛
  • زيارة الملك محمد السادس إلى و.م.أ في نونبر عام 2013؛ حيث استقبل في البيت الأبيض من قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وكانت هذه الزيارة مناسبة للتأكيد من جديد على العلاقات المتينة بين البلدين وتعزيزها بعقد اتفاقيات شراكة وتعاون بين الجانبين.

وخلال الألفية الثانية عززت حكومتا المغرب والولايات المتحدة الأمريكية علاقاتهما بجملة من الاتفاقيات والمبادرات النوعية، كان من أبرزها منح أمريكا المغرب صفة الحليف القوي خارج حلف الناتو عام 2004، ثم توقيع

اتفاقية التبادل الحر بين البلدين عام 2006، والتي أصبح المغرب بموجبها البلد الوحيد في أفريقيا الذي يحظى بهذا الاتفاق مع أمريكا. وخىل الفترة ذاتها اعتبرت الولايات المتحدة أن المغرب حليف استراتيجي في المنطقة، وأنه يحظى بعلاقة ثنائية متميزة مع بلاد العام سام منذ عام 1777م، أي ما يقارب قرنين ونصف القرن.

 وهذه العلاقات المرموقة التي يتميز بها المغرب ضمن العلاقات الخارجية الأمريكية لم تأت من فراغ ولا بمحض الصدفة؛ بل هي تنيجة منطقية لعمل دؤوب ميز الدبلوماسية المغربية بكل أنواعها وأصنافها، وخاصة الدبلوماسية الملكية والخطوات العملية المؤثرة في الداخل المغربي التي كان لها صدى طيب خارجيا؛ مثل الاستقرار الأمني الذي ميز المملكة ضمن محيط مترجرج ومتقلب منذ عام 2011، ناهيك عن انفتاح المغرب على العالم الخارجي، وتعزيز قيم التعايش والتسامح بين مختلف الأديان والأعراق.

  وقد بات المغرب شريكا مميزا للولايات المتحدة الأمركية بخصوص عدة ملفات حارقة؛ مثل الملف الأمني الذي يتقاسم المغرب همومهومستعصياته مع الأمريكيين، أملا في الحد من العمليات الإجرامية الإقليمية والدولية بشتى أنواعها، ناهيك عن الملف الاقتصادي الذي جعل من المملكة المغربية شريكا ذا أبعاد استراتيجية بالنسبة إلى الطموحات الأمريكية في القارة الأفريقية، باعتبار أن المغرب وضع جملة من البنيات التحتية اللازمة أهلته ليصبح البوابة الحقيقية لكل الاستثمارات الموجهة نحو القارة السمراء؛ مما جعله محل تنافس شديد بين مختلف الدول التي ترغب في الاستفادة من الخيرات الإفريقية اعتمادا على شراكات تجارية واقتصادية متنوعة مع المملكة المغربية ؛ مثل روسيا الاتحادية التي زارها الملك محمد السادس في مارس من عام 2016، زيارة رسمسة والتي التقى فيها بالرئيس فلاديمير بوتين في مارس عام 2016، وبعدها بشهرين تقريبا قام جلالته بزيارة رسمية تاريخية إلى جمهورية الصين الشعبية، والاستقبال الكبير الذي خصه به فخامة الرئيس الصيني معالي السيد شي جين بينغ في بكين في مايو عام 2016، علاوة على الزيارات المتكررة التي قام بها جلالته لدول الاتحاد الأوربي منذ اعتلائه عرش أجداده في يوليوز 1999. وهي الدول التي تسيل لعابها على خيرات القارة الأفريقية باعتبارها مستقبل الاستثمار العالمي بامتياز؛ نظرا إلى ما توافر من فرص هائلة في كل القطاعات، ناهيك عن الزيارات العديدة التي قام بها العاهل المغربي إلى الدول العربية في شمال إفريقيا والمشرق العربي، ثم إلى مختلف الدول الإفريقية والتي فاقت زيارته لها خمسين زيارة، وتم توقيع خلالها أزيد من 1000 اتفاقية تهم مختلف القطاعات بين المغرب ودول القارة السمراء.

  وكل هذا يعكس بكل وضوح الدينامية الكبيرة والحيوية الهائلة اللتين طبعتا الديبوماسية المغربية –وخاصة الملكية- فيما يتعلق بتوثيق علاقات المملكة مع مختلف الدول في شتى القارات. وهو ما جعل المغرب يسوق صورة إيجابية عن نفسه في الخارج، حظيت بالتقدير والاحترام من قبل الجهات التي تتقاسم مع المملكة المغربية قيم الانفتاح والتضامن والتعاون والتعايش والسلم والأمن والاستقرار.

ثالثا: الأصداء الدولية والإقليمية للاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء

  1. المنابر الإعلامية الكبرى في أوربا:

اعتبرت المنابر الإعلامية الكبرى في أوربا القرار الأمريكي بخصوص الاعتراف بمغربية الصحراء قرارا تاريخيا غير مسبوق بالنسبة إلى العلاقات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بخصوص بعض القضايا المشابهة في الكثير من البلدان في أفريقيا وآسيا وغيرها. وقد وصفت الصحافة البلجيكية في بروكسيل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء بأنه “قرار تاريخي”. أما الصحيفة الإسبانية إلبايس (El Pais)  فقد كتبت في عددها الصادر يوم الجمعة 11 دجنبر 2020 (أي بعد يوم واحد على صدور الاعتراف الأمريكي) بأن «القرار أقبر رسميا استفتاء تقرير المصير في الصحراء، وأقر اعتماد مقترح الحكم الذاتي كحل وحيد لقضية الأقاليم الصحراوية». وأضافت هذه الصحيفة في مقال آخر، بالعدد نفسه، بعنوان: “دعم قوي من ترامب لسيادة المغرب على الصحراء” بأن الرئيس الأمريكي تبنى قرارا تاريخيا، وهو يمثل تحولا راديكاليا في سياسة واشنطن. وفي السياق ذاته أشارت وكالة الأنباء الإسبانية (EFE) إلى أن القرار الأمريكي خول المغرب الحصول على «دعم ديبلوماسي من قبل القوى العالمية»، مبرزة أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء هو تتويج لمسلسل مطبوع بدعم متواصل للقضية المغربية خلال السنوات الأخيرة. 

 وصرحت مجلة “جون أفريك” (Jeune Afrique) من جهتها في عددها الصادر بالتاريخ نفسه أعلاه، بأن القرار الأمريكي “يمثل انتصارا للدبلوماسية المغربية”؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقتصر فقط على الاعتراف بمغربية الصحراء، وإنما قامت أيضا بالحسم النهائي في آلية تسوية هذا الملف، بإقرار مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد معقول وجدي وذي مصداقية. هذا القرار الذي وصف بـ “التاريخي” من قبل الرئيس الأمريكي. وأضافت مجلة “جون أفريك” أن القرار جاء بعد أسابيع قليلة من حادثة الكَركَرات التي دفعت القوات المسلحة الملكية إلى بناء جدار أمني حماية للمعبر، والعمل على وضع حد للعرقلةالتي طالته من قبل عشرات الأفراد من مليشيات “بوليساريو” الذين عرقلوا حركة السلع والأشخاص بمعبر الكَركَرات لعدة أسابيع. 

    وقد أشار راديو فرانس أنتر (Radio France Inter) إلى كون القرار الأمريكي بخصوص سيادة المغرب على الصحراء يمثل نجاحا هائلا، ويشكل انتصار دبلوماسيا للمملكة المغربية، مضيفا بأن هذا التصريح الأمريكي يعتبر دعما دبلوماسيا نوعيا للمغرب، مذكرا بأنه منذ عام 2019 نجد أنه هناك على الأقل 16 دولة دعمت الموقف المغربي بخصوص قضية الصحراء من خلال افتتاحها لقنصليات عامة لها في مدينتي الداخلة والعيون. 

   وقد اعتبرت الصحيفة الفرنسية “ليبيراسيون” (Libération) الواسعة الانتشار في عددها الصادر عقب الإعلان عن القرار الأمريكي في العاشر من دجنبر المنصرم، أن اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء يعد  “اختراقا دبلوماسيا”لصالح المغرب. 

    أما يومية لوفيكارو “(Le Figaro) فقد اعتبرت أنه بموجب اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقر بالمقترح المغربي الخاص بالحكم الذاتي في الصحراء باعتباره ذا مصداقية وبأنه واقعي، ويشكل القاعدة الوحيدة لحل عادل ودائم لهذه القضية. 

وقد تناولت الصحف السويسرية خبر الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحرا، وأولته عناية خاصة من حيث إبراز أهميته، والكشف عن غاياته وأبعاده الجيواستراتيجية، معتبرة أن الرئيس الرئيس الأمريكي  دونالد ترامب ضرب ضربة دبلوماسية جديدة بإعلانه عن اتفاق تاريخي مع المغرب.

  1.  الجهات الداعمة للانفصاليين 

     كان لهذا النجاح الكبير الذي حققتها الدبلوماسية المغربية وقع شديد على خصوم الوحدة الترابية للمملكة المغربية في مختلف المنظمات والمؤسسات والدوائر السياسية والهيئات التنظيمية التي حشدتها الجزائر وأذنابُها لمدة ناهزت نصف قرن، أملا في عرقلة المسيرة الوحدوية للمملكة، ورغبة في إثناء المغرب عن الاستمرار في إرساء أسس ودعائم دولة حديثة عازمة على أن تقدم نفسها نموذجا يحتذى به على مستوى العمل النهضوي على كافة المستويات.

    ولعل من أبرز مظاهر آثار هذا القرار الأمريكي على أعداء الوحدة الترابية المغربية الإحباطَ العام الذي ساد مختلف الهيئات التنظيمية الداعمة لجبهة “بوليساريو” الانفصالية في الخارج، والتي كانت تعيش على عمولات وتمويلات النظام العسكري الجزائري، الذي بدد الثروة الجزائرية في سبيل هذه المنظمات الانتهازية، التي لم يكن همها الدفاعَ عن “قضية إنسانية” كما تزعم، بقدر ما كان هدفها الحقيقي الاسترزاقَ وجمعَ المال على حساب المحتجزين في تندوف من قبل عصابات الانفصاليين والأجهزة الأمنية الجزائرية في ظروف لا إنسانية.

    ويرى المتتبعون لتداعيات القرار الأمريكي وآثاره على المنظمات المؤيدة لجبهة “بوليساريو” في الخارج، أن هذا القرار أفقد تلك الهيئات والمنظمات توازنها، وأربك مخططاتها، وبعثر أوراقها، وبدأت تشعر بخيبة أمل حقيقية، سيما أن جملة من التقارير الإخبارية والمعلومات الواردة من هنا وهناك، أصبحت ترسل إشارات واضحة وقوية إلى أن الإدارة الأمريكية بعدما أعلنت بشكل صريح وواضح عن قرارها السيادي بخصوص اعترافها بمغربية الصحراء، وتأييدِها الكامل للسيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية، فإن هذه الإدارة لا يستبعد أبدا أن تفاجئ الخلايا التنظيمية الداعمة لعصابة المرتزقة وقُطاع الطرق في تندوف وغيرها، أن تصنف هذه الخلايا ضمن المنظمات الإرهابية، وأن كل من يتعامل معها عليه أن يبرئ ذمته من شبهة دعم الإرهاب وتهديد السلم والأمن في منطقة حساسة وذات موقع استراتيجي متميز، باعتبار أن الأقاليم الصحراوية المغربية هي البوابة الرئيسة نحو دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ مما يفرض تكاثف الجهود من أجل حماية هذا المعبر ما بين المغرب وموريتانيا من مثل هذه العصابات، وإخلاءِ سبيله من كل ما من شأنه أن يعرقل حركة المرور عبره نحو أكبر سوق في العالم، وهي السوق الإفريقية، باعتبار أن إفريقيا هي مستقبل الاستثمار العالمي؛ لأنها تضم كتلة بشرية ضخمة بأزيد من مليار ومائتي ملون نسمة، مطبوعة بطابع الاستهلاك أكثر من الإنتاج، ومحتاجة إلى استثمرات ضخمة في البنيات التحتية الاستعجالية ذات الطبيعة الاجتماعية؛ إذ إن أكثر من نصف مليار من السكان في أفريقيا في حاجة إلى شبكات الماء والكهرباء وقنوات الصرف الصحي، والطرق المعبدة، ناهيك عن الحاجة إلى البنيات الصحية والمنشآت التعليمية وغيرها؛ كما أن إفريقيا هي ثاني أكبر القارات من حيث المساحة بعد القارة الآسيوية، وتتوافر على أحواض مائية هائلة، وعلى ثروات طقاية ومعدنية ضخمة ونفيسة؛ مثل الغاز الطبيعي والبترول والذهب والماس والفضة والنحاس والحديد والكوبالت والمنغنيز والزنك وغيره، زد على ذلك توافرها على ظروف مواتية للاستثمار في الطاقات المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية والريحية. 

  وهو ما يعني أن القرار الأمريكي بخصوص الاعتراف بمغربية الصحراء هو قرار سيادي للولايات المتحدة بخلفيات جيواستراتيجية بعيدة المدى، وأن الإدارة الأمريكية عازمة على أن يكون حضورها قويا في القارة السمراء، وأن هذا الحضور لا يمكن أن يتحقق إلا بتحقيق الأمن والاستقرار وخلق الأجواء المناسبة للاستثمار في الدول الإفريقية، وأن هذاأيضا لا يتأتي إلا بمحاربة كل الشوائب التي من شأنها أن تعرقل هذا الطموح الأمريكي، وخاصة ما يتعلق بالمنظمات الإرهابية، والتي لا شك في أن جبهة “بوليساريو” سوف تدخل قريبا جدول اللائحة السوداء للولايات المتحدة الأمريكية بفعل سلوكياتها وتصرفاتها وعرقلتها للمصالح الدولية نحو القارة الإفريقية؛ مثل ما حصل في معبر الكَركَرات الذي سيطرت عليه عصابات مسلحة، ومليشيات “بوليساريو” التي وقفت في وجه الملاحة الدولية، ومنعت عبور الأشخاص والبضائع عبر هذا المعبر الرابط بين المغرب وموريتانيا في 21 أكتوبر الماضي لمدة ثلاثة أسابيع كاملة، وما رافق ذلك من سطو على ممتلكات الغير، وإضرار بالبضائع والسلع، وتهديد لسلامة الأشخاص عن طريق عمليات السطو والسرقة. وهذا سلوك لا يمكن أن يدخل إلا في خانة خلق الأجواء المناسبة للفوضى والتسيب، وإشاعة عدم الأمن والاستقرار، وهي الظروف التي تنتعش فيها الشبكات الإجرامية، وعلى رأسها الخلايا الإرهابية. 

  وبناء على هذا فإننا نعتقد أن بعضا من مضامين الإشارات والرسائل الأمريكية قد وصل فعلا إلى من يهمهم أمرها، وخاصة المتعاملين مع جبهة “بوليساريو” والداعمين لها في الخارج، ولا سيما التنظيما الموجودة على تراب الاتحاد الأوربي التي شكل لها الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء بأبعاده الاستراتيجية وخلفياته المستقبلية صفعة قوية، وقرأت رسائله جيدا؛ مثل الهيئة التي يطلق عليها “المجموعة المشتركة للصحراء الغربية“. وهي الهيئة الداعمة الرئيسة لجبهة “بوليساريو” في البرلمان الأوربي، والتي ظلت منذ سنوات تدافع عن الانفصاليين وتعرقل المصالح المغربية في دول الاتحاد، وخاصة المصالح ذات الطبيعة الاقتصادية والتجارية المتعلقة بمنتوجات الصحراء المغربية؛ كالاتفاقيات التي تجمع بين المغرب ودول الاتحاد الأوربي (اتفاقية الصيد البحري، الاتفاقيات الفلاحية، تصدير الفوسفاط المغربي إلى دول الاتحاد وغير ذلك)؛ إذن هذه الهيئة المسماة “المجموعة المشتركة للصحراء الغربية“أحست بخطورة الموقف الأمريكي، وعواقبه المستقبلية، وأدركت أنها تؤازر جماعة غير مسؤولة من حيث تصرفاتها وسلوكياتها، ومن حيث أهدافها وتوجهاتها، فأعلن رئيسها الألماني خواكيم شوستر (وهو عضو في البرلمان الأوربي) استقالته منها احتجاجا على سولوكيات جبهة “بوليساريو” في معبر الكَركَرات، وخرقها لاتفاق وقف إطلاق النار الذي ظل ساري المفعول منذ سنة 1991 إلى غاية 23 أكتوبر الماضي عندما قامت عصاباتها المسلحة باعتراض مرتفقي معبر الكركرات، ومنعهم بالقوة من عبوره، وهو ما كان له ردود فعلية سلبية تجاه هذه العصابات من قبل أقوى الهيائات وحكومات الدول في مختلف القارات.

  ولا ننسى أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء كانت له تداعيات وتأثيرات قوية على المستوى الإقليمي، وخاصة في محيط المغرب وما يتعلق بجيرانه؛ مثل الجارة الشمالية المملكة الإسبانية التي ظهر أن عددا من الهيئات والجمعيات والمنظمات التي كانت متعاطفة مع جبهة “بوليساريو”، والتي ظلت ردحا من الزمن تدعم الانفصاليين في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، وتؤازهم على المستوى السياسي في إسبانيا؛ ظهر أنهم استوعبوا جيدا مضامين الاعتراف الأمريكي، وقرؤوا حقيقة رسائله المعلنة والمشفرة، وتفاعلوا معه بسرعة وبدون تردد من خلال إعادة النظر في طبيعة مواقفهم الداعمة للطرح الانفصالي، وتحركاتهم التي كانت تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في الصحراء المغربية، وهذا ما ينطبق على “الحزب الوطني الباسكي” الذي بدأ في مراجعة أوراقه؛ حيث خرج الناطق الرسمي باسمه، السيد إيتور إستيبان بتصريحات مثيرة داخل قبة البرلمان الإسباني فور صدور الاعتراف الأمريكي، داعيا جبهة “بوليساريو” الانفصالية إلى «استيعاب متغيرات العالم الراهنة، وفهم ما هو ممكن وما هو غير ممكن» بخصوص حل ملف الصحراء، في إشارة واضحة إلى اقتناعه بأن الحديث عن مقترح الاستفتاء وتقرير المصير أصبح من الماضي البائد، ولم يعد ممكنا أبدا في ظل التحولات والسياقات الدولية الحالية، وأن الانفصاليين بات من المفروض عليهم السير في هذا المسار، والانخراط في مفاوضات تهم المقترح المغربي بخصوص الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية؛ كما أكد السيد إيتور إستيبان  أن جبهة “بوليساريو” خسرت فعلا النزال، وأضحت مرغمة على البحث عن بدائل واقعية لتسوية هذا الملف. 

ويبدو أن رسالة واشنطن قد وصلت بقوة إلى مدريد، وأن القائمين على الشأن الإسباني أدركوا عمقها وفهموا أبعادها؛ لذلك فإن الناطق الرسمي لـ “لحزب الوطني الباسكي” غير من نبرة كلامه تجاه المملكة المغربية، وأشار إلى أهميتها الاستراتيجية في معالجة حزمة من الملفات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها ملف الإرهاب العابر للقارات، وملف الهجرة غير النظامية الذي ألقى بظلاله على دول الاتحاد الأوربي عامة، وعلى إسبانيا خاصة، بفعل قربها من المغرب.    

   ولم يكن “الحزب الوطني الباسكي” وحده مَن تأثر بتداعيات القرار التاريخي الأمريكي بخصوص الاعتراف بمغربية الصحراء فور صدور القرار الأمريكي؛ بل أحزاب وازنة في الحكومة الإسبانية تفاعلت مع هذا القرار؛ مثل “حزب العمال الاشتراكي الإسباني” الذي يقود الحكومة الائتلافية الإسبانية الحالية بزعامة أمينه العام بيدرو سانشيز، الذي تفاعل مع المستجدات الجديدة في ملف الصحراء المغربية، واستجاب لها بشكل غير مباشر من خلال التشطيب على اسم زعيم حزب “بوديموس” (قادرون)، السيد بابلو إغليسياس توريون –وزير الحقوق الاجتماعية والنائب الثاني لرئيس الحكومة الإسبانية- من قائمة الوفد الرسمي الإسباني الذي كان من المرتقب أن يحل بالرباط في إطار زيارة رسمية للمغرب بمناسبة اجتماع القمة المغربية الإسبانية على بعد أيام قليلة من الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء؛ وذلك على خلفية المواقف العدائية لزعيم حزب “بوديموس” تجاه الوحدة الترابية للمملكة المغربية؛ مما جعل بيدرو سانشيز يقلل من أعضاء الوفد الإسباني الذي كان من المفترض أن يزور المغرب، قبل أن يتم تأجيل هذا اللقاء، أخذا بعين الاعتبار مستجدات الوضع، والسيناريوهات المطروحة في المنطقة.

وفي سياق تفاعل الجارة الإسبانية مع القرار الأمريكي بخصوص مغربية الصحراء، فإن النائب البرلماني السيد غارثيا راموس عن فريق “الحزب القومي الكناري” وجه نداء قويا إلى الحكمة المحلية في أرخبيل الكناري بخصوص ضرورة التعامل بإيجابية مع المملكة المغربية في إطار التحولات والمستجدات التي تعرفها المنطقة.

وهذا يعني أن المحيط الإقليمي للمملكة المغربية تفاعل يقوة مع القرار الأمريكي، وبدأ منذ صدورهيبحث عن جملة من المخرجات التي تأخذ بعين الاعتبار المستجدات الطارئة على ملف الوحدة الترابية للمملكة المغربية.

* د. عبد الله استيتو/أستاذ التاريخ والحضارة 

كلية الآداب والعلوم الإنسانية /جامعة ابن زهر بأكادير

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى