مجرد رأي

الشيخ الزنداني سيرة ومسيرة.

د. الخضر سالم بن حُليس.

عبد المجيد الزنداني كيف يُقال في ترجمته؟ أما السيرة فسجل علمي يتجدد، وأما المسيرة فحراك جهادي يتوقد.
ضرب الشيخ بسهم في كل اتجاه، قدم حضورًا فاعلا في جميع محطاته الحياتية.
الشيخ الزنداني صوت جهوري مرَّ على هذا الكوكب، لا يزال زئير الإعجاز العلمي الذي قاده تتردد أصداؤه في أرقى جامعات العالم. إذ أنفق الرجل كمية كبيرة من سنوات عمره يحفر في بنود الإعجاز العملي، فلئن تزعم الزمخشري في القرن الخامس الهجري مادة الإعجاز البلاغي القرآني فكان رائده، فإن الشيخ الزنداني تزعم في القرن الخامس عشر الهجري مادة الأعجاز العلمي القرآني فكان قائده، كانت حفرياته العلمية تجوب مراكز البحث العلمي العالمي، تستنطق رجالات العلم، وتحاور شخصياته، فيطأطئون رؤوسهم اعترافا بسبق القرآن على كل منجزات معارفهم، فشرق بمبتكراته الإلحاد وغص به الملاحدة.

للشيخ الزنداني مسيرة أخرى في مواجهة طوفان الزحف الأحمر الممتدة دماؤه الاشتراكية على أجزاء من خارطة الأرض، إذ كان نضاله الوثاب يصدع بنيان الشيوعية، ويزلزل طقوسها، ولو كان للمساهمين في إسقاط المعسكر الشيوعي سجلًا يحصي أسماءهم لكان الشيخ الزنداني على تلك القوائم.
كان الشيخ يتصدر قضايا الأمة الكبار، فلم يكن حفره في الإعجاز العلمي يعزله عنها، فله صولات داخلية وجولات خارجية، معركة الدستور في اليمن، قضية فلسطين، الجهاد الأفغاني، الوحدة اليمنية، حرب الانفصال، زحف العولمة، وتوطين العلمانية، عاصفة الحزم، سجل مليء بالخطابات والتحركات والمراسلات، والحوارات، وقيادة الحركة العلمية في اليمن، يستنهض العلماء لدورهم في نصرة قضايا الأمة والمشاركة الفاعلة في كبار قضاياها الوجودية.

قاد الشيخ هيئة العلماء اليمانية وأنشأ جامعة الإيمان لصنع أكفائهم وتطوير كفاءاتهم، أراد أن يخرج العلماء من قماقم الصراع الفروعي الذي طورته المذاهب الفقهية فأيقظت به جذوة الصراع المحتدم بينهم، إلى صلب عناوينهم الرئيسة ومواقعهم الفاعلة، أراد إخراج العلماء من الهامش إلى متن الحياة.

كانت صرخة الشيخ الزنداني امتدادا لصرخة أخيه تاج الدين السبكي حين عاتب زملاءه العلماء من أبناء عصره في القرن الثامن الهجري انصرافهم عن كبريات القضايا، واستهلاك جل أوقاتهم في حوارات لا يناسبها الظرف الذي يعيشون، ولا ترتقي لمستوى الأولويات التي يجب أن يمارسوها.

الزنداني واحد من الشخصيات الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين التي حاولت إعادة تغيير مجرى النهر، وكانت غايته القصوى عودة الإسلام لمركزيته في الأرض. ولذا ستضل أصداؤه تتردد بين مادحيه وناقديه، فالشخصيات التي أثارت النقع، وصاغت سطور التاريخ في حياتها تبقى أفكارها ومواقفها تتوقد يقظة بعد مماتها.

الإيمان المصطلح لم يمل الشيخ من ترداده وشرح مفرداته، المصطلح الذي خيم على أفكاره، كان الإيمان هدفا ساميا ناضل الشيخ الزنداني من أجل سيادته، وانفق حياته كلها في سبيل صبغِ الحياةِ بمعانيه.
كتب الشيخ كتابًا في الإيمان، حاضر ودرس عن الإيمان، بنى جامعة الإيمان، الإيمان هو (الباسورد) الذي يفتح لك شخصية الشيخ، ويطلعك على سيرته الذاتية، من أراد أن يقرأ الشيخ في سياقه فليقرأ الفكرة القلقة التي كانت تتوقد في ذهنه صباح مساء.

للفكرة تلبسٌ بأصحابها حتى غدت بهم وغدوا يعرفون بها فإذا ذكر الطبري ذكر التفسير، وإذا ذكر ابن خلدون ذكر التاريخ، وإذا ذكر البخاري ذكر الحديث، وإذا ذكر الزنداني ذكر الإعجاز العلمي.

كان الشيخ نشيطا يجد في زراعة الجيل الإسلامي على تربة الخرائط العالمية دون رحيل، فما غاب يوما عن الحضور، ولا نسي في رحلاته البذور.

لا يقل جهاد الشيخ الزنداني العقدي عن جهاد ابن تيمية، ولا إعجازه القرآني عن إعجاز الجرجاني، ولا جامعته الإيمانية عن المدارس النظامية.

الشيخ الزنداني لا يمثل فردًا في ركاب العلماء، بل هو مرحلة كاملة من تاريخ الأمة اليمنية المجاهدة بالعلم وغرس المعرفة، هو سلسلة ممتدة يتصل إسنادها بابن الوزير والصنعاني والمَقْبَلِي والشوكاني والزبيري، وبقية أفراد مدرسة الاجتهاد اليماني الحر التي أنجبت «العواصم من القواصم» و «العلم الشامخ» و «السيل الجرار» وكلها عناوينُ ثورية، تعبر عن اليقظة الفكرية الوثابة لعلماء اليمن.

الشيخ الزنداني معمار آخر في مدرسة الإصلاح اليماني الحر، ليس مجرد عالم شرعي ينشر مواد العلم، بقدر ما هو مدرسة علمية تطبيقية تراحبت فيها قيم العلم، وسُطرت فيها صفحات من جهاد العلماء، وانداحت في رحابها مواقف الربانيين. فجمعت شخصيته بين العلم الشرعي والموقف الشرعي، وقدم في مسيرته الإحيائية (سلامة المنهج) على (منهج السلامة). فكان أحد أعضاء حركة الإحياء السني في القطر اليماني، فأسس أبرز محاضن العلم، وأنشأ كيانا جامعا للعلماء، وقاد الحوارات الاقتصادية والسياسية، وكان زئيره الخطابي مُعثِّرا لحركات الإفساد المجتمعي التي كانت تتوغل بمشاريعها في صلب المجتمع اليمني، فكانت تحسب لوثبته ألف حساب.

كانت أسراب الدعاية التي تصدرها المطابخ الإعلامية تزداد فتكا بالشيخ وتنال من جهده ومجهوده، وتحاول إحكام قيوده، فما لانت عريكته ولا تراجعت وثبته.

وها هو الشيخ يموت اليوم في أرض الفاتحين محتفظا بإيمانه غير مساوم به، ها هو يموت مهاجرا على أمل العودة، وحسبنا أن أجره قد وقع على الله (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).
رحم الله الشيخ الزنداني وأجزل في العالمين مثوبته.
وعزائي لأهله وذويه ومحبيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى