الواجهةمجتمعمجرد رأي

المدونة في خطاب العرش الأخير والدلالات الجامعة

الدكتور سعيد شبار يكتب: 

في الخطاب الملكي السامي الأخير لعيد العرش، يلوح بقوة منطق التوازن والاعتدال الذي ينبغي أن يسود مكونات الدولة والأمة؛ ومنطق الحكمة الذي ينبغي أن تعالج به الملفات المطروحة للنقاش والتداول؛ ثم إن هذا الخطاب قد عكس الصفتين اللتين لا تجتمعان معا، إلا في رمز الأمة وقائد الدولة، الصفة الدستورية للملك، وصفة إمارة المومنين الممثل الأسمى للدين.

فبمقتضى الصفة الأخيرة، كان الحديث عن الإصلاح والاجتهاد في مدونة الاسرة التي تؤطرها نصوص شرعية؛ ومعلوم أن هذه النصوص منها القطعي الذي لا اجتهاد معه، فدلالته واضحة لا يحتمل غيرها؛ ومنها الظني الذي تتعدد دلالاته، ويتسع مجال الاجتهاد فيه، وهذا من مرونة الشريعة نفسها لمواكبة التطور والمتغيرات. والذي ينبغي استحضاره هنا، أننا نتحدث عن دين، فيه التزام وتكليف؛ لوكان ظنيا كله لما بقي دينا، ولما أمكن الالزام أو الالتزام فيه بشيء، ما دام كل شيء قابلا للتأويل والاحتمال؛ كما لو كان قطعيا كله لَجَلَبَ العنَت للناس، ولضيق عليهم في الحياة، ولم يكن لحرية الاختيار فيه معنى. ولهذا ينبغي أن ينتبه الغلاة في التضييق، أو الغلاة في التوسع، الى بنائية الدين نفسه، ومنهجيته في التشريع وتقرير الحقائق؛ والى أن القول والخوض فيه، ليس كالقول والخوض في نظم المعارف والآراء، التي يمكن قبولها أو ردها جملة أو تفصيلا. كما ينبغي استحضار أن الدين اختيار يتجاوز كونَه محض شعائر تعبدية، وان كانت هي صلبُه وروحُه، الى كونه عنصر أمن وطمأنينة، ووحدة واستقرار اجتماعي وسياسي للأمم والشعوب؛ ومن هنا كانت أهمية الاختيارات الدينية عبر التاريخ سواء لدى المسلمين أو لدى غيرهم؛ وما الفتنة والحرب في بعض بلاد المسلمين، إلا من جهة الاختلاف في الدين؛ وما التاريخ الطويل لحروب المذاهب والطوائف المسيحية، إلا بسبب ذلك الاختلاف أيضا.

ولا يخفى أن من أهم مكونات وعناصر “الاستثناء المغربي”، في السياق الإقليمي والدولي المتوتر، وحدة وانسجام الخطاب الديني، على مستوى أصول الاختيارات المذهبية كما على مستوى فروعها العملية، والى حسم إمارة المومنين للنزاع والاختلاف باسم الدين. وطبعا لا ينتبه كثير من الناس الى جهود صامتة كبيرة، تبذل من أجل درء الفتنة عن الدين، وصون خطابه من التشويش والتلبيس؛ والحفاظ على وحدته وانسجامه والتي منها وحدة وانسجام المجتمع؛ والى جهود أكبر من ذلك في تأهيل وتكوين الفاعلين فيه، حتى يكون تبليغهم وإرشادهم على مقتضى الاعتدال والتوسط، واليسر والسماحة المقررة في الدين. هذه الجهود تقودها طبعا المؤسسات المكلفة بهذا الأمر، بتعاون مع مؤسسات المحيط المختلفة.

ــ تقاطب يكاد يلغي مساحات وفرص مشتركة في العمل.
مما نراه اليوم نقاشات يطبع معظمها الغلو والتقاطب الحاد، الى درجة إهمال كثير من العناصر المشتركة، التي تمثل المساحة الأوسع للعمل، وتمكن من معالجة كثير من الاختلالات على مستوى الأفراد والأسر؛ وذلك ناشئ بالدرجة الأولى عن المرجعيات الموجهة والمؤطرة لكثير من المتدخلين في هذا النقاش. وتجدر الإشارة هنا الى نزعتين مغاليتين بهذا الصدد:

النزعة الأولى، تُضيق مساحة الاجتهاد وتكاد تلغيها، وتركن الى التقليد وتسلم له، مع ضعف معرفتها بالعصر وعلوم الانسان، وكأن الزمن ساكن لا يتحرك، وكأن الواقع ليس عنصرا أساسيا في تكييف الأحكام وتغير الفتاوى؛ فنجدها تكتفي بالإحالة على الماضي أو الاستنساخ منه، هذا رغم وجود النصوص الدينية الواردة في تجديد أمر الدين، معرفةً وتدينا، بما يواكب روح العصر والتطور، والاجتهاد الضروري لنوازله الطارئة، والاستفادة من الخبرات العلمية المختلفة في ذلك؛ حتى إن الشارع رتب أجرا للمجتهد المخطئ، من أهل العلم طبعا، تحفيزا وتشجيعا على الاجتهاد، الذي به استمرار الدين في الحياة الخاصة والعامة للناس، والذي به رعاية مصالحهم المختلفة.

والنزعة الثانية، تُوسع مساحة الاجتهاد حتى تكاد تلغي الدين، مع ضعف معرفتها بروحه وفلسفته في التشريع، ومنطق بناء الأحكام أصولا كلية وفروعا جزئية؛ تسعى الى تغليب روح العصر على الدين ولو بتجاوز القطعي والمحكم فيه؛ وإذا علمنا أن روح العصر اليوم تحكمها فلسفات ومفردات وسلوكيات، يؤطرها ويوجهها المنظور الحداثي المادي الغربي، الذي قطع مع قيم الدين الكنسية التي كانت تكبل حركته، وتعوق فكره ونهضته؛ وجب أن نعلم أن لهذا الاتجاه كذلك، في ثقافتنا، استعارات أو استنساخ مماثل لسابقه، دون وعي بسياقاته ومآلاته، وخصوصا في قضايا الحرية والمساواة، المتصلة بالنزعات الفردانية والمتع اللحظية، ونزعات التملك والربح والاستهلاك، الى درجة إلغاء كينونة وذاتية الانسان؛ وهذا اختيار يعتبره كثير من النقاد الغربيين، من مساوئ الحداثة وما بعدها، كما يقدمها النموذج الغربي تحديدا، ومن سلبياتها التي ينبغي الحد منها وتجاوزها. ولعل النماذج الآسيوية كانت أكثر توفيقا في استيعاب الحداثة، باعتبارها تَمَلُّكا للقوة والتقنية والتصنيع، أي تحديثا في البنيات الأساسية للتقدم؛ فلم تجعلها في مقابل القيم الدينية والتقاليد العريقة في التاريخ، بل استثمرتها لخدمة مسار التنمية وتقوية الذات الوطنية.

والمطلوب فهم الدين وروح العصر معا، حيث يشكل روح العصر مدخلا أساسا للتجديد المستمر للخطاب الديني، في مساحات الحياة المتطورة والمتغيرة، والتي أوكلها الدين الى الاجتهاد والنظر العقلي والتقدير المصلحي؛ وحيث يقوم الدين، من خلال كلياته وقطعياته، في القيم والأحكام، بدور الهداية والإرشاد، والتسديد والتصويب، للقصور والاختلال الذي طبع ويطبع السعي البشري في هذه الحياة
.
ــ المفاهيم الكونية والخصوصيات المحلية.

تجدر الإشارة كذلك، الى مسألة المفاهيم الكونية وتنزيلها في ظل الخصوصيات المحلية؛ ذلك أن المشترك الكوني والإنساني في ظل سيادة العولمة أمر لا مفر منه، وليس ثمة من خيار الا دُخوله بالاختيار أو بالاضطرار؛ أي بالوعي الضروري المُمَكن من حسن الاستفادة والاستلهام، أو بالخضوع والاستلاب للنماذج التي لا يختلف منطق عرض “الأفكار” فيها، عن منطق عرض “الأشياء”. وللأسف، فالمفاهيم الكبرى التي تأسست عليها نهضة الغرب مثل: الانسان، والعلم، والعقل، والطبيعة، والقيم والأخلاق…، وهي المداخل الأساسية للتثاقف والتعارف الحضاري، تم تجنيدها وتعليبها لخدمة منطق السوق والاستهلاك، والربح والإنتاج، والهيمنة والتوسع؛ أي الى أدوات وظيفية، أو قل وظائف أداتية رقمية ذات بعد واحدي؛ بما في ذلك اختزال الانسان نفسه بأبعاده المركبة، وطمس وظيفته الوجودية، وسحب المعنى من حياته، فلا اعتبار الا لبعده البيولوجي الغريزي؛ فلم تبق لتلك المفاهيم الكلية معياريتها المرجعية، بل تحولت الى سيولة غير منضبطة بشيء أو لشيء، تماما كما وصفها صاحب مجموعة السوائل، الاجتماعي زيجمونت باومان، وعلى رأسها مفهوم “الحداثة السائلة”، المؤطر والموجه والمهيمن على الحياة اليوم.

نخلص من هذا الى أن كونية المفاهيم، إن صحت في المجال الحسي الطبيعي، فإنها ذات نسبية كبيرة في المجال الاجتماعي الإنساني؛ ورغم أنني من المتحمسين كثيرا للدفاع عن المشترك الإنساني، وتحرير المفاهيم من الارتهان لأي تضييق أو محاصرة، تحول دون تحققها بهذا البعد، وخاصة من داخل الخطاب الديني باعتباره خطابا للناس ابتداء وانتهاء؛ حيث لم تستثمر بعدُ كثير من دلالاته ومفرداته الإنسانية المشتركة، في توسيع العلاقة ومد جسور التواصل بين المسلمين وغيرهم؛ وفي إزالة الموانع والعوائق التاريخية الفكرية والنفسية تجاه الآخرين، وفي تحرير مفهوم “الخصوصية” ذاته، من كثير من أضرب التضييق التي تحاصر انفتاحه وبعده الإنساني؛ إذ لا معنى له إلا من هذا المنظور الإنساني، وإلا لم يكن للخصوصية تميز وتنوع واختلاف عن الغير؛ فالأنا أو الذات تتحدد دائما من خلال آخر “مختلف”، لكن في اتجاه التكامل لا التصادم معه؛ وعلى خلاف المنظور الغربي، قديما وحديثا، الحريص على جعل “الآخر” خصما وعدوا، يتميز المنظور الإسلامي بجعل الذات الإسلامية ذاتا ممتدة في الإنسانية، من خلال القيم الكلية المشتركة، التي لا يحجبها لا الاختلاف الملي ولا الاختلاف الفكري.

أقول رغم ذلك، تبقى للمفردات ذات البعد الإنساني، نسبة إنسانية مشتركة جامعة، وأخرى تراعي الخصوصيات المختلفة أثناء التنزيل. فالبعد الإنساني الجامع في المفهوم، يُحافظ على علو وسمو المفهوم، ويُلزم بالتحقق بأعلى نسبة ممكنة منه، وبالسعي التدريجي الى ذلك باستمرار، من خلال التكوين والتأهيل الفكري والاجتماعي؛ فهذا البعد في المفاهيم يدافع عنه الجميع ويطمح الى الالتزام به الجميع، مثل مفاهيم: العدل، والحرية، والكرامة، والمساواة، والحق، والواجب، …الخ. أما البعد الخصوصي، فيراعي الأوضاع والسياقات الفكرية والدينية والاجتماعية، إذ ثمة اختلافات بالتأكيد على هذه المستويات، تحول دون أي تنزيل مسطري حَدِّي، قد يؤدي الى نتائج معكوسة، وقد يتحول الى صراع ونزاع لا هو حقق المراد منه، ولا هو حافظ على وحدة وانسجام الجماعة وتماسك بنيتها.

ويبقى التحدي هنا، القدرة على تنزيل المساحة المشتركة، ثم الاشتغال على مستويات التربية والتكوين، والتأهيل الفكري والاجتماعي، لتوسيع دائرة التنزيل؛ ويرافق ذلك أيضا ضرورة الاشتغال على الوعي بالمفردات والمفاهيم المتداولة في هذا السياق، تحريرا لها من التحيزات السلبية التي رافقتها في تنزيلات معينة، وانتفاعا بكل إمكاناتها الإيجابية، وبعبارة بعض الكتاب: “تبيئتها”، أو “تقريبها”، أو “دمجها”، داخل النسق الجديد؛ وهذا عمل تربوي وفكري وثقافي قد يستغرق جيلا أو أكثر، وليس من قبيل الاستنبات أو التصنيع السريع الذي يُحسم فيه بمقررات جاهزة. والأمر في هذا السياق، من حيث التعامل مع المفهوم الكوني الكلي المشترك والتمثل النسبي له؛ أشبه ما يكون بالكليات المطلقة في الدين والتمثل النسبي لها كذلك؛ فلا أحد بإمكانه أن يزعم تمثله لكل معاني ودلالات المفهوم، وهو إنما كُلِّفَ ببذل الجهد واستفراغ الوسع في التمثل، الذي يعبر عنه في الشريعة بالوسع والمقدور؛ إذ ذلك المطلوب شرعا من المكلف؛ وما سوى ذلك أوهام وتنطع، سواء كان المتلبس به، هنا، متدينا في ادعاء الاستقامة الكاملة؛ أو لا دينيا، هناك، في ادعاء الحرية المطلقة؛ فتدين الأول نسبي، وحرية الثاني مقيدة.

ــ دلالات جامعة في خطاب العرش الأخير.

جدد خطاب العرش الأخير التأكيد مرة أخرى، على التزام إمارة المومنين حفظ كليات الدين وأحكامه المقطوع بها؛ لكنه فتح الى جانبها كل إمكانات الاجتهاد والنظر المقاصدي المراعي للمصالح الممكنة، حيث ورد في الخطاب السامي: “وبصفتي أمير المومنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.

وهذا أرقى تعبير من إمارة المومنين في حمايتها وصونها، من جهة، لثوابت للدين؛ وفي دعوتها، من جهة أخرى، الى استئناف الاجتهاد والإصلاح، باشراك مختلف الفاعلين، وبمقاربات تخصصية تغني العمل وترتقي به.

وفي النص، حسب رأيي، أربعة محددات أساسية موجهة:

ــ محدد مقاصد الشريعة: وهو محدد يفتح آفاقا في النظر ذات سعة وشمول، وممارسة موسعة تستند الى الكلي في الدين، كما يُمَكِّنُ من شراكات تنتظمها غايات وأهداف مشتركة؛ ويُحرر من جهة أخرى، من الفهوم الحرفية للدين مهما كانت مُحتمِلة. وإن شئنا قلنا إن الفهم المقاصدي للدين هو أعلى مراتب الفهم، يبني التصورات ويصحح المنظورات، ويؤطر الجزئيات وينتظم التفاصيل المختلفة. إنه المنهج الكلي البنائي لقضايا الانسان والعمران، ولفلسفة الدين التي ينبغي التشبع بها لمن يتصدى لتلك القضايا.

ــ محدد خصوصيات المجتمع المغربي: وهي الهوية المغربية المشتركة الي صاغتها مكوناته المختلفة عبر التاريخ، في الدين واللغات والثقافة والعادات…؛ إذ لا توجد أمة دون خصوصية أو هوية، وإلا لم تكن أصلا أمة. وأطروحة العولمة في إذابة الخصوصيات والهويات، أطروحة زائفة يفندها واقع الهويات المتصارعة اليوم بين الدول المتزعمة للعولمة نفسها، أوروبية وأمريكية وآسيوية. لكن هناك الهوية المنكمشة والمنغلقة على ذاتها، وهناك الهوية المنفتحة المتواصلة مع غيرها، القابلة للاغتناء والتوسع في الفضاء الإنساني المشترك؛ أي ذات نسق هوياتي مفتوح وليس منغلقا؛ وهذه إحدى أبرز خصوصيات المغرب القديم والحديث، في حفاظه على ذاته واستقلاله، وفي امتناعه عن الذوبان في غيره؛ والى جانب ذلك انفتاحه على هذا الغير، وتواصله معه، واستفادته من خبراته.

ــ محدد الاعتدال والاجتهاد المنفتح: الاعتدال هو باعتباره أحد مقاصد الدين وغاياته، والاجتهاد باعتباره منهجا في الفهم والاستنباط. فمن مقاصد الدين الكلية إقامة الاعتدال والتوازن، في الانسان فردا، بتلبية احتياجاته المختلفة (جسدا وعقلا وروحا) دون طغيان بعضها على بعض؛ وفي الانسان جماعة، من خلال القيم والأخلاق الضرورية للحياة الجماعية؛ وفي الفكر والمعارف المكتسبة دون تحولها الى يقينيات أو عقائديات نهائية. أما الاجتهاد كاصطلاح خاص، فهو استنباط الأحكام من الأدلة والنصوص الشرعية ، وهذا له شروطه العلمية والمنهجية، وله جهة الاختصاص المُلِمَّة بتلك الشروط دون مبالغة فيها، وكما قيل، أن يكون “من أهله”، أي العلماء به؛ و”في محله”، أي الظنيات المواكبة للتطور ولتغير الأزمنة والأمكنة؛ والاجتهاد اليوم صار جماعيا ومؤسسيا أكثر منه فرديا، ويُستند فيه الى الخبرات والاختصاصات في العلوم والمعارف المختلفة، لأنه وإن كان قولا في الدين، فهو متعلق بالدنيا؛ ولا يتم تنقيح وتحقيق مناطاته، وتَحَقُّق مقصد الشارع منه، إلا بمشاركة هؤلاء جميعا.

ــ محدد الشراكة والتعاون بين المؤسسات: كما تقدم، هناك اليوم الاجتهاد الجماعي الذي تتصدى له المؤسسات المختلفة، وهو ضرورة عصرية ملحة حيث تتضافر الجهود وتتكامل؛ فمعظم القضايا المجتهد فيها اليوم ليست قضايا دينية محض، بل هي قضايا دينية ودنيوية: اجتماعية، ومالية، وصحية، وبيئية… وغيرها؛ ولهذا كانت ضرورة الشراكة والتعاون مع جهات الاختصاص في هذه القطاعات؛ ذلك أن مقصود الشرع دائما، جلب المصالح والمنافع، ودرء المفاسد والمضار عن الفرد وعن الجماعة؛ ولا يتحصل ذلك الا بالإلمام بكل قضية من جوانبها المختلفة، من جهات الاختصاص بالعلوم والمعارف المتعلقة بتلك القضايا. يضاف الى هذا، أن هذا الضرب الجماعي من النظر، يعزز وحدة وصف الجماعة، ويكسب النظر الاجتهادي صفة الاجماع، أو على الأقل التوافق الذي يقل فيه الخلاف والنزاع.

وإذا علمنا أن النصوص الظنية في الدين هي أكثر من القطعية، لزم أن نعلم أن الدين نفسه، المرتبط بالحياة والمنظم لشؤونها والمراعي للأصلح لها، يسمح بهذه السعة والمرونة، ويفسح هذا الإمكان الاجتهادي للعقل البشري دون حجر عليه. ثم إن القطعي في الدين متعلق، عموما، بالكليات في العبادات وفي المعاملات وفي القيم المنظمة للحياة؛ حيث تندرج وتتأطر الفروع والجزئيات وتتحدد وظائفها؛ فلا يكاد يختلف البناء التشريعي والمعرفي للدين، عن أي بناء حسي يقوم على دعامات أساسية دونها لن يكون شيئا. وإذا ورد القطعي في تفاصيل، كما في نظام الإرث، فتلك مساحة شغلتها الشريعة للمصالح الكلية المعتبرة فيها، وعلى رأسها حماية الأسرة ككل، وحماية المجتمع واستدامة العلاقات والروابط الممتدة فيه. فالأسرة بناء تكاملي في الوظائف، والنظر الى مكوناتها كوحدات منفصلة، كل منها يطالب بحقوقه، يفقدها هذا الانسجام والتكامل، ويحولها الى حالات من التمركز حول الذات، ذات المرأة، أو ذات الرجل، أو ذات الطفل…؛ دون اعتبار للمشترك بين هذه الذوات.

ولهذا قبل النظر في تفاصيل الإرث، أو أي موضوع جزئي آخر، يجدر الالمام بفلسفته العامة، وبمقاصد التشريع منه، وبصوره المختلفة، حتى تتم الإحاطة به كاملا غير منقوص.

لقد أكد خطاب العرش على ضرورة تحقيق المدونة لمزيد من المكاسب، على كل المستويات والواجهات؛ حيث ينبغي أن تتسع قاعدة هذه العناية والرعاية أفقيا كذلك، لتشمل نساء الأطراف في البوادي والجبال، وليس المراكز فقط. فمدونة الاسرة، كما ورد في الخطاب: “كانت قفزة الى الامام لكنها أصبحت غير كافية”، أي أنها تحتاج الى إضافات تُشغل مساحات جديدة، والى مراجعة المشكلات التطبيقية لبعض بنودها، وذلك دائما في ضوء كونها مدونة للأسرة كلها. فـ “مدونة الاسرة ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة، وإنما هي مدونة للأسرة كلها؛ فالمدونة تقوم على التوازن لأنها تعطي المرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال”.

فهذه إشارات توجيهية قوية في الخطاب، ينبغي التقاطها والاسترشاد بها، عوض حصر النقاش في نقطة أو نقطتين، حيث ينبغي الانتباه الى النقاط الكثيرة المشتركة التي يكفلها الدين، وتكفلها النظم والقوانين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى