مجرد رأي

التفاهة بالمغرب: مشروع دولة ورهان مرحلة

 

عبد المولى المروري

التفاهة التي نراها اليوم في كل المجالات والميادين: الفن، الإعلام، الثقافة، التعليم… ليست فلتات عابرة، ولا انحرافات فردية، ولا انزلاقات محدودة، بل هو مشروع دولة خُطط له بعناية شديدة، وما نشاهده اليوم ما هو إلا التنزيل المتقن له، بجرعات ووثيرة مختلفة ومدروسة حسب ما تقتضيه المرحلة والحالة الاجتماعية والنفسية للشعب..

انطلق مشروع التفاهة مع ظاهرة «البيك» أو «الخاسر» مغني الراب الذي تم توشيحه مرتين ليكون النموذج المثالي للشباب والمراهقين، ثم الاحتفال بالمغنية «باطما» التي اكتسح عملها (ولا أقول فنها) الآفاق، ومرورا بما تبثه قنواتنا من عفن وتفاهات على طول السنة من خلال أفلام ومسلسلات مدبلجة سخيفة وسمجة، وتبلغ التفاهة ذروتها خلال شهر رمضان بإنتاجات تقع في قعر العفن موضوعا وأداء.

وتم التوقيع الرسمي للدولة على احتضان التفاهة عندما تم السماح لمغني الراب «طوطو» على الخشبة وأمام الشباب والمراهقين حاملا قنينة خمر وسجارة حشيش مع افتخاره بذلك والتشجيع عليه.. دون أن ننسى تحويل حرم الجامعات ومدرجاتها إلى مراقص للغناء الشعبي برعاية مسؤوليها، وبذلك تم التوقيع رسميا على انحراف الجامعة عن دورها الفكري والثقافي والتأطيري.. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى..

وفي مقابل هذا، هناك تهميش واضح وممنهج لكل الأعمال الثقافية والفنية الجادة، حيث تغلق القنوات والمقرات والمراكز الثقافية والمسارح العمومية في وجه المثقفين والعلماء والفنانين الملتزمين.. مع الاحتفاء والترويج لأنصاف المثقفين و«شواذ العلماء»..

إن التفاهة أضحت علامة رسمية للدولة في مجالات تستهدف الإنسان والأسرة والمجتمع.. تُصرف عليها أموال الشعب ودافعي الضرائب، ليستفيد منها نجوم التفاهة والعفن من أجل تغيير هوية هذا الشعب وثقافته واهتماماته، وتصبح في أسفل سافلين، وفي أدنى دركات الاهتمام لديه.

بل أصبحت التفاهة ذات شأن عظيم في عهد حكومة أخنوش، حيث رُفعت الحدود والضوابط عن كل إنتاج تافه مُخرب، ولا يحق لأحد انتقادها أو انتقاد أصحابها، حتى اقتربت من أن تتوج وتصبح إحدى «دعامات» الدولة في العهد الحالي، وهي الآن تعتلي عرش الإنتاج الإعلامي والثقافي والفني دون منافس.. بتمويلات بلغت في سخاءها ما لم تفرح به مؤسسات ذات أهمية وجودية للمغرب مثل البحث العلمي والانتاجات الفكرية والثقافية والأدبية..

قد يقول قائل مغفل، ماذا ستستفيد الدولة من إنتاج التفاهة ورعايته ونشرها وحمايتها والتمكين لها بهذا الشكل؟

الجواب سهل وواضح، فالقائمون على شؤون هذا البلد والمسؤولون على إدارته من داخل الحكومة أو في مختلف مؤسسات الدولة هم في أغلبهم تجار ورجال أعمال، يمثلون الطبقة الأوليغارشية، وهذه الفئة جمعت بين المال والسلطة، بين التجارة والحكم، وهم يتاجرون في كل شيء يخطر على بالك (وقود، غاز، الإنتاج الزراعي والحيواني، الخضر والفواكه، الحليب وكل مشتقاته، قطاع المال بكل أنواعه من أبناك وشركات التأمين والقروض، الأوكسجين، تحلية ماء البحر، قطاع الاتصالات، قطاع الخدمات، الطاقة…)، كما تتحكم في كل المؤسسات الدستورية (حكومة، برلمان، مجالس الحكامة وهيئات الضبط…)، فهم يتحكمون في كل شيء، بدءا من إنتاج بصلة أو جزرة واحدة، مرورا بإعطاء قرض بنكي، وانتهاء بإنتاج القوانين التي تكون في صالح هذه الفئة..

ومن مصلحة هذه الفئة أن يكون الشعب مستهلكا جيدا، وكي يكون كذلك، لابد أن تُحرك فيه كل غرائز الاستهلاك التي تُلغي معامل العقل وتخرب عنصر الوعي لديه.. الذي يضبط محرك الاستهلاك، وهذا لن يتحقق إلا بتوجيه عقله إلى ما ينشط غريزة الاستهلاك (سواء كان أكلا أو لباسا أو ترفيها أو جنسا)، وفي الوقت نفسه تخرج له ترسانة قانونية كي تضبط تحركه، وتزيد من معامل الإخضاع والخنوع، ناهيك عن قوانين مالية هدفها حماية طبقة الأوليغارشية على حساب طبقة الشعب المسحوقة..

وهناك سبب آخر متعلق بارتباط الدولة بالمشروع الغربي الصهيوني، هذا العنصر يفرض على الدولة انتهاج سياسة صناعة التفاهة من أجل تخدير الشعب وإضعاف ارتباطه بقضاياه الوطنية والقومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وإفشال أي محاولة فك الارتباط الثقافي والاقتصادي والسياسي مع فرنسا دولة الاستعمار التي استباحت وما تزال تستبيح المغرب..

لا يجب أن نشك لحظة واحدة أن التفاهة التي تغزو كل فضاءات ومجالات ومؤسسات المغرب هو مشروع رسمي للدولة، يحظى بحماية قانونية وأمنية وقضائية، ويستفيد من رعاية استثنائية، وتمويل ودعم لم يسبق للمغرب أن عرف مثيلا له، وهذا ما يفسر السقوط المريع لمنظومة القيم في المجتمع وأخلاق أفراده، وفي الوقت نفسه يفسر ملء السجون بمنتقدي هذه التفاهة إلى جانب ضحاياها المستهلكين لها من الشباب والمراهقين وأفراد الأسر الممزقة بسببها..

الحرب على التفاهة هو واجب وطني، وفريضة شرعية، لا مفر للعلماء المبجلين ولا للمثقفين الملتزمين ولا للسياسيين المبدئيين بد من ضرورة الانخراط القوي والجاد والشجاع في مواجهتها وفضح زعماءها ومحتضنيها وحماتها والمستفيدين منها.. وإلا فقولوا على هذا الوطن السلام ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى