خيانة المُثقّفين – النصوص الأخيرة لإدوارد سعيد
الكاتب: محمد علي فقيه
المصدر: الميادين نت.
كتاب سعيد يثير الكثير من الأسئلة العميقة حول العلاقة المُلتبسة بين المُثقّف ومحيطه، وأثر التحوّلات العالمية في إقصاء دور النُخَب، على يد الأنظمة المُستبدّة.
كتاب “خيانة المُثقّفين – النصوص الأخيرة” لإدوارد سعيد، الصادر عن دار نينوى في دمشق، يضم نصوصاً غير معروفة، كتبها سعيد في العقد الأخير من حياته، ويناقش فيها انحياز الإدارة الأميركية والغرب لإسرائيل، وكيف مارست “إسرائيل” عملية طمْس الحقائق وتشويه القضية الفلسطينية؟ ويتحدّث فيه عن مأساة المُثقّف العربي وكيف أن العالم العربي انحدر: “نحو درجات أعظم من الحُكم الاستبدادي، والأوتوقراطية، وأنظمة المافيات”.
كتاب سعيد يثير الكثير من الأسئلة العميقة حول العلاقة المُلتبسة بين المُثقّف ومحيطه، وأثر التحوّلات العالمية في إقصاء دور النُخَب، على يد الأنظمة المُستبدّة، ورؤيته في مجالات: عِلم الاستشراق، ودعوته الدائمة للاستفادة من تجربة حزب المؤتمر الأفريقي ضّد الأبارتايد، وضرورة ترسيخ الديمقراطية في الشعب الفلسطيني، والصراع مع الصهيونية، وفضح أساليب اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، ومواجهة خصوصية الصراع بين الفلسطينيين وبين “إسرائيل” وعدم تأجيل الحلول مرة من خلال المفاوضات ومرة أخرى من خلال اتفاق أوسلو تارة أو الدعوة للسلام، وضرورة تقديم رؤية أخلاقية ثقافية تتّقن فن مُحاكاة الفلسطينيين واليهود والغرب في اَن معاً.
واضح جداً للعيان تأثّر أدوارد سعيد في كتابه “خيانة المُثقّفين” بالكتاب المشهور للروائي الفرنسي جوليان بندا “خيانة المُثقّفين” الصادر عام 1927 الذي أطلق فيه صرخته في وجه المُثقّفين الذين تستهويهم مُغريات السلطة والجماهير فتقودهم إلى الانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية. فمنذ ذلك الوقت أصبح مُصطلح “خيانة المُثقّفين” يرمز للإشارة إلى تخلّي المُثقّفين عن استقامتهم الفكرية حيث ذكره مراراً في كتابيه “المُثقّف والسلطة ” والكتاب الذي بين يدينا.
وتحت عنوان “الصهيونية الأميركية – المشكلة الحقيقية”، يكتب سعيد عن إساءة فهم الصهيونية الأميركية وإساءة الحُكم على دورها في القضية الفلسطينية، وعن دور الجماعات الصهيونية في الولايات المتحدة، كاشفاً أن السياسة الفلسطينية كانت ترمي بمصير الشعب الفلسطيني في حضن أميركا من دون أيّ إدراك إستراتيجي للأقليّة الصغيرة من الناس الذين يسيطرون على السياسة في البيت الأبيض ويتحكّمون فيها تقريباً، وهؤلاء – بحسب سعيد – آراؤهم السياسية أكثر تطرّفاً من حزب الليكود الصهيوني.
ويبين صاحب كتاب “أوسلو: سلام بلا أرض” أن العرب بالنسبة إلى الصهيوني الأميركي ليسوا كائنات حقيقية، بل خيالات لكل ما يمكن شيطنته واحتقاره، وخصوصاً الإرهاب ومُعاداة السامية، مشيراً إلى أن “الغرابة الأكثر للصهيونية الأميركية هي كونها نظاماً من الفكر المُتناقض والتشويه الأوريلي، لذلك من الممنوع أن تتحدّث عن العنف اليهودي أو الأعمال اليهودية حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، حتى أن كل ما تفعله إسرائيل تفعله باسم الشعب اليهودي وباسم الدولة اليهودية ومن أجلها”.
تتنوّع مواضيع النصوص وتتراوح بين السياسة والثقافة والأدب، فنقرأ في قسم “المقالات والمقابلات”، (39) عنواناً، نذكر منها: “أزمة اليهود الأميركيين”، و”خيارات واعدة في فلسطين”، و”إسرائيل إلى أين”، و”السياسة الثقافية”، و”خيانة المُثقّفين”، و”الدور العام للكتّاب والمُثقّفين”، و”سارتر والعرب: ملاحظة هامشية” و”مقدّمة للاستشراق”، و”الأدب والحرفية”.
هناك مقالة بعنوان “صِدام الجهل” نشرها في مجلة “ذي نيشن الأميركية، بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. يقول فيها سعيد” “ينبغي مواجهة هذا الخزي الذي يعيشه العالم العربي، نتيجة الانتهاكات المُرعبة للسلطة، وصمت المُثقّفين، نتيجة الخوف من مصيرٍ غامِض، ولن تكون هذه المواجهة، إلا عن طريق قوّة الاحتجاج.
ويروي لنا سعيد في تلك النصوص أيضاً قصّة ذات مغزى. فقد تلقّى دعوة من مدير معهد ومتحف (فرويد) في فيينا، لإلقاء محاضرة (فرويد السنوية) باسم هيئة المعهد. لكنّه فوجئ ـ بعد أشهر ـ برسالة أخرى، تخبره بإلغاء محاضرته، بسبب الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ومن دون أيّ تفسير آخر، ليُجيب على الرسالة بأخرى جاءت في سطرٍ واحد طلب فيها أن يوضح صاحب الدعوة له ما علاقة محاضرة عن فرويد في فيينا بالظرف السياسي في الشرق الأوسط ولم يتلقَّ ردّاً بالطبع.
واكتشف سعيد ـ كما يقول ـ أن الأمر سببه صورة، نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” بنسخة مكبّرة وخيالية، وهو يرمي الحجارة على الشريط الحدودي بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة.
يوضح سعيد أن أقرباء فرويد قاموا بدعوته في أواخر آب/أغسطس من العام نفسه لمحاضرةٍ بديلة، إلا أنّ صاحب الدعوة السابقة، وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة “التايمز”، كان على درجةٍ من الوقاحة ليُدينَ الصورة التي التُقِطَت لإدوارد سعيد وهو يشارك في لحظةٍ تذكاريةٍ ألقى فيها ناشطون الحصى من جنوب لبنان باتجاه شمال فلسطين المحتلة بعد تحرير الجنوب اللبناني، وليقول بأنها فضلًا عن نقدي للاحتلال الإسرائيلي كانت السبب في إلغاء محاضرتي.
بالطبع لم يذكُر صاحب الدعوة السبب الحقيقي لإلغاء المحاضرة وهو رضوخه لضغوطات مموّليه في الولايات المتحدة وإسرائيل الذين موّلوا إقامة معرضٍ في تل أبيب في وقتٍ لاحق.
آنذاك، قال إدوارد سعيد “إنَّ فرويد طُرِدَ خارج فيينا من قِبَل النازيين وأغلبية الشعب النمساوي بسبب انتمائه، واليوم يسري الأمر عينه عندما يمنعون فلسطينيّاً من إلقاء محاضرة، أي نوعٍ بغيض وغريب من العار هذا الذي يخاف الدخول في حوار علنيّ وحقيقي يُعرّي أكاذيبها؟”، يتساءل سعيد الذي يقول “بأنّ هذا الاهتياج وتلك الكراهية لن يجلِبا سوى مزيدٍ من العذاب والتخبّط للصهيونية”.
كان سعيد يستشهد دوماً بما كتبه “غوته”، حيث يقول: “الغرب ليس أحادياً أو مُتماثلاً على الرغم من وجود نوع من التجانس الأوروبي الثقافي، لقد درست علاقة الاستشراق بالسلطة، وركّزت على الاستشراق الإنكليزي والفرنسي والأميركي لعلاقاتها بالمنطقة”.
حظيَ سعيد بالاهتمام الفائق من أهم الجامعات في العالم، وطالما حلّ ضيفاً على أقسامها الأدبية.