المغرب يستعيد رائد الفن التشكيلي الجيلالي الغرباوي
عبد الرحيم الخصار
أندبندنت عربية.
“عاش حياة قصيرة وقاسية، ومات غريباً ومهملاً على مقعد في حديقة “شان دومارس” في باريس، قبل ساعات من افتتاح معرضه في عاصمة الأنوار. وتحول الرجل بعد موته إلى علامة كبيرة من علامات التشكيل داخل المغرب وخارجه، وبيعت لوحاته بالأسعار التي تباع بها لوحات كبار فناني العالم، وجلبت أعماله ثروة حقيقية لم ينل منها شيئاً، هو الذي عاش حياة فقيرة”.
تُحسب لمتحف محمد السادس في الرباط، مبادرتُه المهمة في الاحتفاء برائد التشكيل في المغرب الفنان العالمي الجيلالي الغرباوي (مواليد 1930)، الذي عاش حياة قصيرة وقاسية، ومات غريباً ومهملاً على مقعد في حديقة “شان دومارس” في باريس، قبل ساعات من افتتاح معرضه في عاصمة الأنوار. وتحول الرجل بعد موته إلى علامة كبيرة من علامات التشكيل داخل المغرب وخارجه، وبيعت لوحاته بالأسعار التي تباع بها لوحات كبار فناني العالم، وجلبت أعماله ثروة حقيقية لم ينل منها شيئاً، هو الذي عاش حياة فقيرة.
إختار المتحف الوطني أن يكون تكريم الغرباوي على امتداد خمسة أشهر، تحت شعار “الجذور السامقات”، إذ يعرض له 70 عملاً فنياً من أعماله حتى 28 فبراير (شباط) 2021. ويعرض معها كثير من الوثائق والتسجيلات والكاتالوغات والأرشيفات الصحافية، التي تضيء تجربة الغرباوي وتعيد إلى الواجهة صورة فنان كبير، تنكر له في حياته ذوو القربى من أهل الميدان، وكانوا أشد مضاضةً من سواهم.
يعتبر الجيلالي الغرباوي البوابة الأساسية للحداثة التشكيلية، ورائد التجريد في المغرب. فقد رسم أول لوحة تجريدية مع مطلع الخمسينيات. وهو في الآن ذاته أول مغربي يتخرج في مدرسة الفنون الجميلة في باريس.
وصل الغرباوي إلى أرض المعاناة باكراً، إذ فقد والديه وهو لم يتجاوز بعد عامه الثاني، فتولى خاله مهمة تربيته، لكنه لم يتحمل هذا العبء الاجتماعي طويلاً، فأخذ بيد الطفل إلى أحد الملاجئ الخيرية، ليواصل طفولته هناك بعيداً عن دفء الأسرة، محروماً من نعمة العائلة. وربما كانت هذه الطفولة القاسية سبباً في جنوح الغرباوي إلى الرسم باعتباره متنفساً، وتعويضاً عن عوالم مفقودة. لذلك يجد نفسه وهو يعيش حياة الشارع، يعرض أولى لوحاته على الرصيف، وكان حينها في الخامسة عشرة من عمره.
ضد الواقعية الباردة :
يبدأ التحول في حياة الطفل، بعد أن مر به الرسام الفرنسي مارسيل فيكير Marcel Vicaire، وكان يعمل خلال الفترة الكولونيالية مديراً لمتحف البطحاء، ومفتشاً للمآثر التاريخية. يتواصل فيكير مع الكاتب المعروف أحمد الصفريوي، كي يرعى هذه الموهبة. وكان الصفريوي حينها مديراً للفنون الجميلة في الرباط، فتوسط له كي يحصل على منحة دراسية في مدرسة الفنون الجميلة في باريس، حيث قضى أربع سنوات من التكوين، ثم التحق بأكاديمية جوليان بباريس أيضاً. وبعد فرنسا واصل دراسة الفن في روما إثر حصوله على منحة من الحكومة الإيطالية. حين عاد إلى المغرب منتصف الخمسينيات، أقام أول معرض له في بلده، غير أنه ووجه بالرفض والانتقاد من لدن من يمكن أن نسميهم “أعداء الحداثة”، هو الذي اختار منحى مختلفاً عن السائد، كان يصفه بـ”الهروب من الواقعية الباردة”، بحسب تصريح له في المجلة المعروفة “أنفاس” التي كان يُصدرها في الستينيات عبد اللطيف اللعبي ورفاقه.
ومع بداية الستينيات كان يقضي فترة في هولندا، حيث وجد نفسه تحت تأثير “جماعة اللاشكليين”. سافر الغرباوي بأعماله الفنية إلى عدد من البلدان كالبرازيل، والمكسيك، وأميركا، واليابان وألمانيا. وكانت أعماله تحظى بالتقدير، في الوقت الذي لم تكن تعد ذات شأن في بلده.
عاش الرجل حياة مشتتة، ترتب عنها إرهاق نفسي، دفعه إلى التفكير في الانتحار أكثر من مرة. وفي سياق بحثه عن السكينة والتخلص من الاضطرابات النفسية، كان يتردد على دير توملين في مدينة أزرو باستضافة من الأب دوني مارتان.
ومثلما كانت حياة الفنان المغربي مليئة بالاختلالات النفسية، كانت موازاة مع ذلك مليئة بالاختلالات المادية. إذ لم يعرف استقراراً مادياً يليق بحياته كفنان كبير. لكن بعد أكثر من 30 سنة على وفاته بيعت إحدى لوحاته بـ 700 ألف يورو، وهو أكبر رقم تحققه مبيعات الفن التشكيلي في تاريخ المغرب .
ثمة حدث مواز لاحتفالية متحف محمد السادس بأعمال الغرباوي، يتعلق بتجديد مرقده في فاس، بعدما كان منسياً. وقد اتخذت ولاية جهة فاس مكناس ووزارة الثقافة أخيراً المبادرة للالتفات إلى اسم كبير في تاريخ الفن المغربي. مراسيم التجديد حضرها جمع من المثقفين ورجال الدولة. من بينهم الفنان فؤاد بلامين، ومحمد المنصوري الإدريسي رئيس النقابة المغربية للفنانين التشكيليين المحترفين، والمهدي قطبي رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف، ومحمد بنيس الذي اختار أن يخاطب روح الغرباوي أمام مدفنه بنص شعري عنه.