هل توقف العقل النظري لحزب العدالة والتنمية ؟
بقلم: بلال التليدي
يمر حزب العدالة والتنمية بمرحلة جد دقيقة من عمره السياسي، لكن السياسيين، من فرط اندماجهم في اللعبة ومسايرتهم لإيقاعها اليومي، لا ينتبهون إلى أن مشروع حزبهم لا يعاني فقط من انسداد الأفق، بل أصبح يواجه ما يسمى بصدمة الوجود، أو مصادمة مبررات الوجود.
في سنوات الموجة الديمقراطية للإسلاميين، أي ما بين 2002 و2010، كان التحدي المطروح بالنسبة إليهم، من الداخل والخارج، هو كيف يمكن لهم الاندماج في العملية السياسية ومسايرة متطلبات الديمقراطية دون أن يفقدوا قواعدهم الناخبة التي ارتبطت بهم على أساس عقائدي مرجعي، وكان الجواب مختلفا.
بعض القيادات، ومنهم الدكتور سعد الدين العثماني، لم يكن يأبه بخطاب الهوية والمرجعية، وكان يراهن على التدبير، ويحاول أن يساير أطروحة “عقلانية السلوك الانتخابي”، أي بقدر الإنجاز، بقدر التفاف الجماهير على المشروع، لكنه لم يكن يستحضر أن هذه الأطروحة إنما تشتغل بسلاسة في البيئات الديمقراطية، وليس البيئات السلطوية أو الشبه السلطوية.
والبعض الآخر، وهو يخوض معركة الديمقراطية، مثل الأستاذ عبد الإله ابن كيران، لم تكن تفارق عينه، قضية الهوية والمرجعية، وإن كان يضطر أحيانا لإعمال قدر من التوافق بين القضيتين، حتى لا يفقد حليفه الديمقراطي، لأنه كان يدرك أن المعركة، في سياق شبه سلطوي، تقتضي الوعي بحقائق السوسيولوجيا، وبطبيعة تشكيلة المجتمع، وعناصر التجذر التي يمتلكها الحزب داخله.
بعد انصرام الموجة الديمقراطية، أصبح الحزب أمام أكثر من مأزق :
مأزق التقدم في الديمقراطية بسبب الانزياح عن متطلبات الخط الديمقراطي وتوجيه نتائج العملية الانتخابية في غير المتجه الذي قررته إرادة الناخبين، كما تعمقت الصدمة بفقدان الحزب لحليفه الديمقراطي، واضطراره للعيش في عزلة أمام تحالفه الحكومي.
ومأزق التدبير الحكومي، الذي أصبح يخضع فيه الحزب لشوكة الأغلبية التي صنعت بعيدا عن نتائج الانتخابات، ثم زاد الجفاف وتحدي جائحة كورونا من تعميق الأزمة.
ومأزق التدبير الجماعي، الذي تمسك السلطة الترابية بمفاتيحه، مما جعل الجماعات التي يسيرها الحزب تعيش أزمة مالية غير مسبوقة، تكبل قدرتها على تحقيق المنجز الذي تتكئ عليه لتبرير فعلها في السياسة.
ثم جاء مأزق آخر، لم يكن يخطر ببال الحزب، وهو أن تدفعه الظروف السياسة، ومتطلبات التماهي والتكيف، إلى مصادمة مبادئه المسطرة في أوراقه المرجعية، وبشكل خاص قضية اللغة العربية، وقضية مقاومة التطبيع.
والحقيقة أن الأحزاب جميعها يمكن أن تواجه مثل هذه التحديات، ويمكن لها أن تدخل في موجة تراجعية من أجل ترتيب أوراقها للقادم من المهام، بل يمكن لها لظرف من الظروف أن تساير منطق الدولة في هذه القضية أو تلك، لكن المشكلة بالنسبة إلى هذا الحزب، أنه لم يشغل عقله النظري في استشراف التحديات، ولم يهيئ جوابه الجماعي لمثل هذه التطورات حتى وهو يعيش مؤشراتها ومقدماتها الظاهرة.
في خطاب للأمين العام السابق لهذا الحزب، اعترف أن الأمانة العامة لم تكن تتوقع أن يتم فرض الاتحاد الاشتراكي بعد إعفائه من رئاسة الحكومة، ولكنها في المقابل، رتبت جوابا قبليا، بالتمديد لابن كيران سنة كاملة، للرد على سيناريو استهدافه.
باستثناء هذا الاجتهاد الاستباقي، توقف العقل النظري للعدالة والتنمية بالمطلق، حتى وهو يدعي أنه يفتح ورشات للحوار الداخلي لتمكين الحزب من الجواب الجماعي، فقد تعرض لنكسة فرنسة التعليم، ولم يتداعى لنقاش جماعي، من أجل الاجتهاد في بلورة رأي يمكن يعبر عن مجموعه بدل أن يواجه الصدمة الداخلية التي نتجت عن سوء تعاطيه مع القانون الإطار، كما توقف هذا العقل لحظة زيارة كوشنير للمغرب سنة 2018، وبداية الحديث عن تلازم قضية الصحراء بقضية التطبيع، واشتداد التحديات على المغرب، مما جعله اليوم يعيش شتات الموقف وشتات الحجج، بل وحتى شتات التبرير.
للباحث أن يجمع اليوم الحجج والتبريرات التي يدلي بها أبناء هذا التنظيم في التعاطي مع قضية التطبيع، ويحاول أن يصنفها، ويبحث العلائق الثاوية بينها ليستخلص النتائج.
لا أريد أن أتقاسم مع القارئ هذا التمرين، لكني أؤكد من جهد البحث والمقابلة والمقارنة، أن الأجوبة التي قدمت -وتُقَدَّم -بإزاء التطورات الأخيرة، تثبت أن العقل النظري لحزب العدالة والتنمية أصبح يعيش كسلا كبيرا، تجليه حالة الشتات التي تميز حججه وتبريراته وشكل تعاطيه.
حيوية أي حزب، ونشاط عقله النظري، لا تعني بالضرورة أن يبقى في حالة انسجام دائم مع مبادئه، ولا مع البراديغم الحركي الذي أنتج أطروحته، ولكن يعني، أن تكون له الجاهزية للتداعي الجماعي للتفكير الاستشرافي، وتهييئ الحزب لمواجهة أي اهتزاز داخلي، بإنتاج أجوبة تكون قادرة على خلق الانسجام والوعي الجماعي بالمرحلة وهو ما يعاينه الحزب في هذه المرحلة.