المقاومة الثقافية في عصر الثورة الرقمية و منصات التواصل الاجتماعي.
بقلم محمد يتيم.
هذه أرضية لإثارة تفكير جماعي في سبل تطوير المقاومة الثقافية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من فعل المقاومة، وهي مجرد أرضية نرجو أن تثير لدى المهتمين بالشان الثقافي والإعلامي نقاشا ومقترحات من أجل تطوير الجبهة الثقافية والإعلامية باعتبارها من أهم جبهات مقاومة الأمة للمشروع الصهيوني وامتداداته في الوعي الأوروبي وتجلياته في ساحاته ومنصاته وخطابه
في تعريف المقاومة:
المقاومة هي كل فعل رافض للاحتلال والهيمنة والتوسع على حساب حقوق وطن ومجتمع آخر بهدف السيطرة على سيادته واستقلاله والتحكم في مقدراته واستغلال ثرواته ، وفرض عقيدته ورؤيته للكون وقيمه ونمط عبشيه
المقاومة ليست مقاومة بالسلاح للاحتلال العسكري فحسب، وهذا النوع من المقاومة حق مشروع تضمنه الشرائع السماوية والمواثيق الدولية. وهكذا فقد نص القرآن الكريم على وجوب الدفاع عن النفس في مواجهة أي شكل من أشكال العدوان كما في قوله تعالي : “ (أذن لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
كما أن ميثاق الأمم المتحدة قد أكد على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الدفاع المشروع عن النفس، ومبدأ احترام حقوق الإنسان وحريته. حيث ورد في المادة الواحدة والخمسين «أنه ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة، على احد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير الأزمة لحفظ السلم والأمن الدولي. وتبلغ الدول الأعضاء المجلس فورا بالتدابير التي اتخذتها استعمالاً لحق الدفاع عن النفس، وقد صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة قرارات في نفس الاتجاه تتعلق بالحق في تقرير المصير وبمكافحة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها
إذن المقاومة بكافة أشكالها بما في ذلك المقاومة المسلحة ممارسة مشروعة بمنطق الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ،” لكننا نتابع خلال هذه الأيام محاولات حثيثة وخاصة من قيل بعض القوى الدولية المساندة للكيان الصهيوني والمخترقة من قبل لوبياته محاولا لقلب الحقائق وتزييف الوعي ووضع المجرم في وضع الضحية المعتدى عليه ، واعتبار الحق المشروع في الدفاع عن النفس والتصدي للعدوان ” إرهابا ” ، في سعي حثيث للتضليل وقلب الحقائق واختراق الوعي العربي والإسلامي ، مما يجعل من التصدي لعمليات التضليل تلك إحدى واجهات المقاومة.
المقاومة على الجبهة الثقافية من أولى الأولويات في مواجهة هذا التضليل وتصديا له تصبح المعركة الثقافية من أولى الأولويات ، ونقصد بتلك المعركة مقاومة محاولات التضليل وقلب الحقائق وتحويل الحق إلي باطل والباطل إلى حق، وتحويل الدفاع المشروع عن النفس إلى إرهاب ، وتحويل الإرهاب إلى فعل متحضر في مواجهة ” الهمجية المتعطشة للدم، كل ذلك في سعي ماكر لخلق هزيمة نفسية لدى الشعوب المضطهدة والمظلومة وتحييد أكير عناصر قوتها أي قوتها المعنوية المستمدة من إيمانها بشرعية نضالها في مقاومة العدوان سواء بمعايير الأرض أو بمعايير السماء.
المقاومة هي إذن مقاومة سياسية انطلاقا من المعايير المعتمدة من قبل الأممن المتحدة والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان و مقاومة ثقافية وفكرية و إعلامية أي نضال ضد الاستعمار الفكري والثقافي والاحتلال الإعلامي ، وكثير من المعارك الدائرة الان هي معارك إعلامية … وعدم الموضوع الفكري في حقيقة المعركة واحتلال الموازين المرتبطة بقيم النضال مجابهة المستعمر ومقاومة لكل تجلياته هو المدخل المؤكد الهزيمة…
المقاومة الثقافية في عصر الرقمية:
وبنظرة سريعة لواقع أمتنا في علاقتها بعصر الرقمية يمكن الجزم أننا لا زلنا مجرد أرقام تزيد في حجم مداخيل المسيطرين على هذا المجال ومنصاته العابرة للثقافات ، حيث أنه كلما ازداد تصفحنا وعدد نقراتنا وتكاثرت وتضخمت جمجماتنا وتقاسمنا لمحتويات منصاتهم الرقمية المهيمنة ، كلما أسهمنا في تعزيز القابلية للاختراق ..
نحن اليوم لا نعدو أن نكون مجرد أرقام عند ” مارك” .
نحن نعيش وهما مفاده أننا مؤثرون أو أن فينا مؤثرين ، ولا بأس بالنسبة للسيد مارك ونظرائه أن نعيش على هذا الوهم وعلى وهم مرتبط به وهو وهم حرية التعبير التي يخولها الفضاء الأزرق.
مارك وفلسفته وأمثاله ممن أوقعونا في شباكهم عند ما مكنونا من فضاءات رقمية وأوهمونا أننا نمتلك من خلالها حرية التعبير،
والواقع أن منصاتهم متحكم فيها ،وأن هناك خطوطا حمراء لا يمكن السماح باختراقها
بل يمكن القول إنها أحيانا مجرد مجسات لدراستنا ومراقبة نبضنا .
هو الوهم الذي بدأ يتبلور من الناحية العملية منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، منذ ذلك الوقت نشأ ذلك الوهم وأصبح يتوسع على أساس أنه يمكن من خلال الوسائط الرقمية أن نخلق رأيا عاما، وهو الرأي العام الذي سرعان ما سيتحول خلال أحداث ذلك الربيع إلى اعتصامات ميدانية أصبحت له القدرة على زلزلة الاستقرار السياسي في عالمنا العربي وإسقاط أنظمة كان لها دور وظيفي هو ضبط الشعوب والتحكم في أرزاقها ، أنظمة احترقت أوراقها وحل أوان الرمي بهم في سلة المهملات دون شفقة ، كي يفرخ ما سمي بالربيع العربي ، أى انظمة تحمل في شعاراتها تتلبس ظاهرا بمطالبه وآماله، لكن سرعان ما ستنقلب عليه،
لم تطل المسافة الزمنية الفاصلة بين الثورات الناتجة عن ذلك الربيع والثورات المضادة التي حولت ذلك الربيع إلى خريف جفف أوراق الربيع وأحرق يابسها .
ومن المفارقات أن يصل الأمر بأنظمة غربية كانت تسند أنظمة في المنطقة قبل الربيع إلى دعم ” قيادات ” انقلبت على الربيع أو دعم قيادات من جنسها أو أكثر تعطشا للسلطة وأكثر كراهية للحرية والتعددي والديمقراطية ” وأكثر استعدادا .. للقيام بأدوار قذرة لم يكن من سبقهم يجرؤ عليها .. حيث فطنت لأهمية احتلال منصات التواصل الاجتماعي فأنشأت كتائب الألكترونية وحسابات وهمية متخصصة في الهجوم على الشخصيات الوطنية المعارضة وفي شيطنتها والتشكيك في ذمتها .
ممنوعات منصات التواصل الاجتماعي وانحيازها الواضح
إن منصات التواصل الاجتماعي التي كانت أداة للتعبئة على ضرورة لزوم الساحات ورفض المفاوضات والمساهمات خلال ” الربيع العربي ” ، ولم تقبل أقل من الرحيل، أصبحت تتخلى اليوم عن ذلك الدور ، وغذت مجالا الاشتغال الكتائب الإلكترونية والحسابات الوهمية التي تشن هجومات بطريقة ٱلية
فبدت تلك المنصات اليوم أكثر محافظة وتضييقا على حراك الأمة
وها هي اليوم عدد من المنصات العالمية تكشف عن تحبزها ضد الأمة وقضيتها المركزية قضيةة فلسطين في معركة ” سيف القدس ” ، شأنها شأن الإعلام الغربي السمعي والبصري والمكتوب حيث قد اتسع فيها نطاق المقدسات ودائرة الممنوعات والخطوط الحمرا ء، أما دائرة المقدسات فهي الروايات والسرديات الهصيونية التي تتبناها وتروح لها تلك المنصات دون تحفظ، من منطلق أن الكيان الصهيوني خط أحمر ومقاومته عنف ومعاداة للسامية …. وأن الرواية الصهيونية ودعايتها السوداء حق لا يجوز التشكيك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه … والتشكيك فيها قد يعرض للمتابعة والمحاسبة….
وهو ما ينطبق على الإعلام الغربي السمعي والبصري والمكتوب والإعلام الرقمي والمنصات الرقمية الأكثر انشارا في العالم …
وقد صار من تلك الممنوعات مثلا نشر صور للممارسات الإرهابية الصهيونية ومشاهد الإبادة الجماعية، ونشر استهداف المدنيين العزل خلافا للمواثيق الدولية… كما أصبح فضح جرائم الكيان الصهيوني معاداة للسامية .. وصار نشر صور الأشلاء والجثت المدفونة تحت الركام الناتجة عن الغارات الصهيونية المجنونة التي تستخدم أحدث القنابل لدك العمارات والمنازل وتسويتها بالأرض، صار نشر ذلك وترويجه لبيان حقيقة الإجرام الصهيوني مساسا بالشعور العام وبتعارض مع السياسات المعتمدة من قبل تلك المنصات، ومعرضا للمنع بطريقة أتوماتيكية من خلال خوازيزميات ” ذكية ” !! تحجب المضمون تلقائيا ، وتضيق على التفاعل وعلى نشر وتقاسم تلك الصور وأخبار المقاومة أو مضامين مؤثرة في الشعور والوعي العام تكشف فضائح العدوان الصهيوني .
وهكذا فإن حرية التعبير مقدسة ما دامت سيفا مسلطا على الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية والحكومات التي ترفض الرواية الصهيونية ، لكنها تصبح جريمة ومعاداة للسامية ودعشنة حين تجرؤ على استنكار حرب الإبادة التي يشنها العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني فى غزة.
كما تصبح كل تدوينة أو تغريدة مصادرا بدعوى ترويجها لمضامين ” صادمة ” ، وتتنافي مع سياسية النشر التي تعتمدها منصات يبدو من الواضح تحيزها وكيلها بمكيالين
والواقع أن ما هو أكثر فظاعة من نشر أخبار وصور عن تلك الفظاعات هو ارتكابها .. كما أن واقع تلك الفظاعات لن يصل إلى حجمها في الواقع الذي هو أكثر مأساوية، وهو من حيث حقيقته صادم أكبر من الصورة التي يمكز أن تنقلها منصات التواصل الاجتماعي أو عدسات التلفزيون وتقارير المراسلين الشفوية أو المكتوبة.
كما أن تهمة معاداة السامية ودعم الإرهاب تهمة جاهزة لإرهاب المفكرين والسياسيين والإعلاميين والرياضيين وأصحاب الضمائر الحرة الذين يلجؤون على آدانة الجرائم التي يرتكبها الجيش الصهيوني
وفي نفس الوقت وبالموازاة مع ذلك يصبح اختلاق وقائع كاذبة والتهوين من جرائم مهولة وشيطنته أعمال المقاومة وشرعنة الأعمال الإرهابية للصهاينة عملة رائجة .
وإلى جانب ذلك يبدو طيف كبير من الإعلام الغربي خاضعا وتابعا للدعاية الصهيونية التي تقديم صورة فظيعة عن المقاومة … كما كانت تفعل الدول الاستعمارية مع حركات التحرر الوطني. وفي المقابل يتم ترميز ” المفكرين ” و” الكتاب ” و” الإعلاميين” المتصهينين سواء في الغرب أو من أبناء جلدتنا ..
خلاصات ومقترحات من أجل مقاربة إعلامية مقاومة وداعمة للمقاومة
وأختم ببعض الخلاصات على الشكل التالي :
1- المعركة الثقافية والإعلامية اليوم هي من بين أهم الأولويات، وجزء لا يتجزأ من المقاومة ،
2- بناء على ذلك التأكيد على الحاجة لبلورة استراتيجية للمقاومة الثقافية في مواجهة الاختراق والاحتلال الثقافي
3- من بين عناصر تلك الاستراتيجية، ومن أولوياتها إحداث منصات تواصلية اجتماعية مستقلة تعبر عن الأمة وتنطلق في معالجتها من رؤية الأمة للكون والحياة وتعكس قيمها الأنسانية قيم الحق والعدل والانثاف والمساواة والرحمة
4- في انتظار ذلك الحاجة لبلورة صيغ مناسبة للإفلات من الرقابة التي تمارسها بعض المنصات الكبرى وتعميق ثقافة التدوين المقاوم .
5- إيجاد صيغ لتوسيع نطاق النشر والتفاعل من خلال المنصات الموجودة اليوم وغيرها من أدوات التواصل الحديثة .
6- صياغة مفردات موجهة لعناصر الخطاب الإعلامي والتواصلي المقاوم مع تكييفه مع المستهدفين، فإن الخطاب الموجه للشعوب العربية والإسلامية ليس هو الخطاب الذي قد يلائم مخاطبة الرأي العام العالمي في المجتمعات غير العربية والإسلامية، وخاصة الرأي العام الغربي الواقع تحت تأثير الدعاية الصيونية.
إن الخطاب الذي يتعين توجيهه لأهل القضية المؤمنين بها ليس هو الخطاب الذي يتعين توجيهه لغيرهم ..
والخطاب الذي يصلح للرأي الإعلامي المسلم ليس هو الخطاب الذي يصلح للرأي العام داخل الكيان الصهيوني… ونفس الشيء بالنسبة الرأي العام الغربي عموما مع كل التفاصيل والخصوصيان التي يتعين مراعاتها في كل حالة . ألم يراع هذا حتى في دعوات الأنبياء كما في قوله تعالى ” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” ما من الأنبياء من نبيٍّ ، إلا و قد أُعطَى من الآيات ما مِثلُه آمنَ عليه البشرُ ، و إنما كان الذي أُوتيتُه وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يومَ القيامةِ …
ولسان القوم اليوم ولغتهم هي لدغة التواصل الرقمي بما يتطلبه ذلك من تطوير مهارات التدوين ومهارات وتقنيات صياغة المحتوى وتطويرها وتطوير قنواتها وحواملها… وهو مجال يتعين أن يتكلم فيه متخصصون وأن يكون مجالا لدورات تكوينية لمن يشتغلون في الواجهة الأمامية للمعركة الثقافية.