ثقافة وفنون ومؤلفات

الكتاب الشعري الجديد: “فزّاعة في غُرفة سرير في حقل”.

الكتاب الشعري الجديد: “فزّاعة في غُرفة سرير في حقل”.
منشورات المتوسط. ميلانو.
إدارة: خالد سليمان الناصري.
عبد الرحيم الخصار
من المجموعة:

نارٌ خفيفةٌ أُدفِّئُ عليها أيَّامي

-1-
هذه الكلماتُ تدفعُ بعضَها في اتّجاهِ الهاوية. وحدَكَ تدحرجُ صخوراً تلوَ صخور. العيونُ خناجرُ وسكاكينُ. والزَّمنُ إبرةٌ في كفّ.

-2-
كأسُ نبيذٍ في اليد. وفي اليدِ الأخرى خمسون عاماً من القلق. يرتدي الحُبُّ بدلةَ سموكن وينقرُ بأصابعِهِ على الطَّاولة. يسيلُ هواءٌ قديمٌ بين مفارقِ الشَّيْب، حيث الذّكرى والدُّخانُ نديمان. وإذ يعلو صوتُ الموسيقى تَخِزُ قلبَهُ إبرةُ الغرامافون. في اليدِ ولَّاعةٌ ترتعش. وفي المنفضةِ حرائقُ لا يُخمِدُها ماء.

-3
حَلِّقْ بي إلى القمرِ. تقولُ أُغنيَّةٌ قديمةٌ لفرانك سيناترا. بينما حبالٌ من حديدٍ تشدُّ قدمَيَّ إلى الأرض. البلادُ التي أفردتُ جناحَيَّ لأجلِها أفردتْ لأجلي سرباً من الغربان. تجلسُ الفاجعةُ أمامي بمعطفِها الشَّتويِّ. تسمعُ فرانك سيناترا وتُذيبُ الحسرةَ في كأس. يوجِعُها اللَّيل. على شفتَيْها ترتعشُ كلمةٌ مبهمة. ومن عينَيْها تسيلُ دمعتان. تعبرُ الردهةَ مُترعةً تتهادى. تدفعُ البابَ وتقفُ تحتَ المصباحِ بمظلَّةٍ مغلقة. حيث الشِّتاءُ مساميرُ من ماء. والحنينُ مطرقةٌ وسَنْدَان.

-4-

في شرفةِ البيتِ تجلسُ على كرسيٍّ مغبرّ. تنظرُ إلى وعلٍ عالقٍ في زجاجة. تحكي له عن سنواتٍ نفقتْ، عن رفاقٍ خانوا، عن أُغنيَّةٍ نسيَها الجميع. فيما هو ينقلُ أحلامَكَ من قرنٍ إلى قرن. فجأةً تصلُ وعولٌ أخرى، وتتشابكُ القرونُ في يدَيْك. الأملُ جنديٌّ قديمٌ في يدِهِ عكَّازة. والحُبُّ عاهرةٌ في الخمسين تلهو بولَّاعتِها. وتجلسُ وحيدةً في نهايةِ الكونتوار.

-5-
إلى مبارك وساط:
قد أتراءى لكَ بمفردِي في الطَّاولة. غيرَ أني أُنادمُ الموتى. وإذ أسحبُ يدي من هدأتِها يخرجون تِبَاعَاً من كتاب. أُصغي إلى فيلسوفٍ خذلتْهُ فكرةٌ قديمةٌ عن الحُبّ، وأمدُّ يدي لأُبعِدَ حبلاً عن عنقِه. يتململُ نحَّاتٌ على كرسيٍّ بالجوار، ويشكو لي من رُعاشٍ شلَّ يدَيْه. من خلفِ زجاجِ الواجهةِ يضحكُ شاعرٌ مجنون. أرفعُ عينَيَّ إلى لوحةٍ معلَّقةٍ قُبَالَتي، فتلوِّحُ لي فتاةٌ في بستان. أُومئُ لها فتجلسُ أمامي. فتاةٌ بقبَّعةٍ بيضاءَ وتنُّورةٍ طويلة. وإذ تفرشُ قصائدَ كتبَتْها عن الحرمان، يسكرُ عازفُ كمانٍ ميّت، ويملأُ طاولتَنا بالدُّموعِ.

-6-
هذا أنا. فزّاعةٌ في غُرفة، وسريرٌ في حقل. أنامُ في مرآبٍ، وأصحو في غابة. أُخفي في خزانتِي شموساً وعظاماً وطوابعَ بريد. أُخفي أيضاً بُيوضَ عُقبانٍ وأيَّاماً من خشب. أُنادمُ الشُّعراءَ الموتى. أقرأُ كلماتٍ قليلةً، وأكتبُ كلماتٍ أقلّ. أُشفقُ على الّذين غادرُوا أرحاماً مُتعَبة. وأُباركُ للموتى موتَهم. قلبي أيكةٌ تسعُ الجرحى. ومن عينَيَّ يسيلُ الذَّهب. أحضنُ العالمَ ولا تخزني أشواكُه. وحين تتشابكُ الحِرابُ في طريقي أعبرُ فارداً ذراعَيَّ للألم. ابتسامتي تُشفِي نهراً مريضاً، وتنفضُ الكآبةَ عن مناكبِ اللَّيل.
هذا أنا. فزَّاعةٌ في غُرفة، وسريرٌ في حقل.

-7-
أسمعُ ارتطامَ كتفَيْكَ بالزَّمن. القسوةُ نايٌ في يدِ الرَّاعي. والحنينُ درَّاجةٌ قديمةٌ في زُقاق. من الشَّتاتِ تأتي كلماتي، من غدرٍ يتدحرجُ بين الغُرف، من جسدٍ هَدَّهُ الرَّنينُ المغناطيسيّ، من رغبةٍ مُستعادة، رغبةِ طفلٍ في أن يبقى وحيداً في السَّطحِ. وفيما كان الأطفالُ يكبرون، كان هو يسيرُ على حبلِ كهرباء، ويحلِّق سعيداً مع الطُّيور.

-8-
ذهبوا جميعاً، وأوصدُوا الأبوابَ خلفَهُم، فيما أنتَ تجلسُ وحدَكَ قُبَالَةَ مصباحٍ يرتعش، وتغنّي مع الهادي الجويني: يا كاسي، وينهم جُلَّاسي؟ تتدحرجُ الذِّكرياتُ على ليلِكَ، وتنطُّ على طاولتِكَ أرانبُ الأمس. يجرؤُ اللَّيلُ ويقسو، بينما النَّهارُ حبلٌ في يدٍ خائفة. يا كاسي، وينهم جُلَّاسي؟ وينهم أهلي؟ وينهم ناسي؟

-9-
تُوجِعُكَ أُغنيَّةٌ قديمة. تجلسُ عارياً في بيتِكَ، ووحيداً كأيِّ عاشقٍ مخذول. الحُبُّ ليس أن تنظرَ إلى عينَي امرأةٍ، بل إلى غيمةٍ شاردة. الحُبُّ هو أن تهرولَ في حقلِ قمحٍ باللَّيل، وتُخبرَ السَّنابلَ أنكَ لم تُجنَّ بعد. كيف يلمعُ ضوءٌ في عتمةٍ متراكمة؟ كيف يعودُ الكهلُ إلى عامِهِ الثَّاني عشر، يركضُ وراءَ ضفيرةٍ لم تعدْ، يعزفُ الأرمونيكا ويقفُ أمامَ بابٍ خشبيّ، يطرقُ البابَ بيدٍ نُحاسيَّةٍ معلَّقة. وينتظرُ أن تخرجَ فتاتُهُ الخجلى، فتاتُهُ التي ضاعتْ في ضبابِ الأيَّام؟

-10-
جدرانُ البيتِ صامتةٌ هذا المساء. النَّوافذُ تفكِّرُ في الغد. المَزاهرُ تهدِّئُ روعَ بعضِها والكُتُبُ خائفة. بعدَ سنواتٍ من اللَّوعةِ والمياهِ الجارفةِ، جلسْنا قُبَالَةَ بعض، وكلُّ واحدٍ منَّا ينظرُ إلى الآخرِ نظرتَهُ الأخيرةَ.

-11-
في السَّاعةِ، بدلَ العقربِ، كانتْ تدورُ سمكة. الطَّاولةُ حوضُ ماءٍ، والأصابعُ سكاكين. السَّريرُ قاربٌ، والوسادةُ مجداف. المزهريَّةُ بُرجٌ، والسَّتائرُ حقولٌ من البُنّ. الماءُ يسيلُ من المصباحِ ولا يبلِّلُ الأرض. الدّمى تغنِّي والكُتُبُ ترفعُ الصَّفيرَ. يداي مبسوطتان على المائدةِ. وعيناي لم تزيغا عن الجدار. عقلي هادئٌ تماماً. ربّما البيتُ هو الذي جُنّ.

-12-
أجلسُ عارياً في كهف، هارباً من ريحٍ غادرة، ومن شمسٍ لم تكنْ لي. أُحدِّقُ في الظُّلمةِ، وأُداوي جراحي بسكاكينَ وحِراب. في عينَيّ يرتعشُ خوفُ الخليقةِ، وعلى جبيني عَرَقٌ ورِيش. أحلامي خدشتْها مخالبُ الوقت. زاهدٌ في كلِّ شيء. أضربُ حجراً بحجرٍ، وأُشعلُ ناراً خفيفةً أُدفِّئُ عليها أيَّامي.

-13-
أسقي الورودَ بالنَّبيذِ، هازئاً بهذا القميصِ المشجَّرِ الذي يرتديهِ العَالمُ في سهرتِهِ الأخيرةِ. اِقرعْ كأسكَ بكأسي، أيُّها الرَّجلُ المخذول. وتعالَ نُنادمِ الغربان. فهذه الطَّريقُ التي تعدو فيها مفروشةٌ بريشٍ أسود. وهذه الحياةُ التي طَفِقَتَ ترقصُ فَرِحاً بمخاصرتِها ستنتهي بنعيق.

-14-
قلْ للمسيحِ اطرقْ بابِي. ضَعْ صليبَكَ على المنضدة. وتعالَ نسمعْ أُغنيَّةً تتدحرجُ مع الثُّلوجِ. اِمزجْ دموعَكَ بدموعي، وبدُموعٍ أخرى تسيلُ من الجدران. ثمّ أَجبْنِي: أين جرَّةُ الأحلام؟ أين الحياةُ التي هرَّبْناها في حقائبَ قديمة؟

-15-
جلبتُ الفرحَ للأحبارِ في سلَّةِ قَصَبٍ، وناشدتُهم أن يَنسَوا جريرتي. أنا ذاهبٌ إلى المنحدراتِ، وفي يدِي مِعولٌ وفأس. ترقدُ الدَّفينةُ في تابوت. وما من طَلْسمٍ سوى اسمِكِ في باطنِ يدِي. وما من تمائمَ لتُخرِجَ هذا القلبَ من دُجنتِهِ سوى أنفاسِك. الزَّمنُ نائمٌ في البهوِ. والصَّمتُ مُؤذِّنٌ هَرِمٌ في معابدي. يطفُو حبُّكِ فوقَ مياهِ الغُرفةِ. تطفُو معهُ أيَّامي. فيما أنا أُديرُ أغاني الموتى. أُحدِّقُ في إبرةِ الحاكي وأُصغي إلى نَقْرِ المطرِ على زجاجِ النَّافذة.

-16-
رأيتُ الصَّمتَ في حُلْم. رجلٌ بنظَّارةٍ وقبَّعة، يُمسكُ مخطوطَ شِعْرٍ، ويُحدِّقُ في سقفِ الحانة. رجلٌ بشاربٍ خفيفٍ، يخفي خيبةَ الحُبِّ تحتَ سترتِه. عيناه سحابتان، ويداه شاردَتان في الضَّباب. في زاويةٍ مُعتمةٍ يُعاقِرُ وحدتَه. الأملُ راقصُ حبلٍ مهدود، والقلقُ طفلٌ يعبثُ في حقلِهِ على مَتْنِ درَّاجة. كانتِ الموسيقى تتهاودُ مع خفوتِ الضَّوء، وكان الصَّمتُ يُدخِّنُ أحزانَهُ تباعاً، ويُطفِئُ الأعقابَ في مِنْفَضَةٍ من طين. وحين عزفُوا له أُغنيَّةً عن الخذلانِ، كسَّرَ كأسَهُ، ألقى مخطوطَهُ على الأرضِ، وملأَ هواءَ الحانةِ بالنَّشيجِ والصُّراخِ.

-17-
تمرُّ أيَّامي على درَّاجة. وأنا جالسٌ في ساحةِ سان فرانسيس، أُغطسُ غيمةً في كأس، وأُقلِّبُ كلمةً من يدٍ إلى أخرى. أودتْ بي هذه النَّظرةُ المائلة، هذه اللَّوعةُ بين الجِلْدِ والعِظام. من أجلِ كلمةٍ ترتجفُ في البرد، وأخرى تُحمِّصُ بشرتَها على صخرة، غضضتُ نظرِي عن مباهجَ وملذَّات، وأحكمتُ قبضةَ يدي على هواء.

-18-
الدُّخانُ الذي يملأُ بيتي هو صنيعةُ اليأس، صنيعةُ النَّظَرِ الدَّائمِ إلى زجاجِ النَّافذة. عبرَ الزُّجاجِ تمرُّ قطعانٌ يقودُها راعٍ أعمى. تمرُّ خيولٌ لا سائسَ لها. يمرُّ الخوفُ ويلوِّح لي بوشاحٍ. يمرُّ الحبُّ على عربةٍ تدفعُها امرأةٌ صمَّاء. تمرُّ ساعاتٌ تعطَّلتْ. عبرَ زجاجِ النَّافذةِ تنهارُ الثُّلوجُ والذِّكريات.

-19-
ذاهبٌ لأعودَ بالكنزِ من يدِ الوحش. لأزرعَ شمساً في باحةِ الدَّار. لأُعيدَ فرحاً لشفاهٍ ذابلة. لأُهدِّئَ روعَ الجبال. لأُصفِّيَ مياهاً كدَّرَها آخرون. لأُزيحَ غيوماً سوداءَ من سقفِ العالم.
تكدَّستِ الأحلامُ في بيتي. وما من مكنسة.

-20-
فليذهبُوا إلى حيث شاؤُوا. سوف أمكثُ هنا. جَدِّي الأمازيغيُّ كان يُجدِّلُ ضفائرَ الغيوم. هذه الضَّواري إخوتي في الرّضاعة. والجبالُ الجبالُ. الجبالُ قَدَرُنا. والثُّلوجُ دموعُنا المتجمِّدة.

-21-
كلُّ ما يُبعدُني عن هذه الكلماتِ يجرحُ أيَّامي. ليتَهُم تركُوني هناك بلا بيتٍ، بلا عائلة. أحضنُ الأشجارَ وأُغنِّي. أكتبُ وأكتبُ إلى أن تصيرَ يدي ريشاً في سماءٍ أو غصناً في دالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى