ماذا خسرت أمريكا في غزة؟
د أحمد موفق زيدان.
الخسارة التي مُنيت بها الإدارة الأمريكية والتي ستُمنى بها مستقبلاً بسبب الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني في عدوانه وجرائمه على غزة ستكون مُهلكة، وإستراتيجية وبعيدة المدى على الأمن القومي الأمريكي، ولا أدلّ على ذلك من المظاهرات التي اجتاحت المدن الأمريكية لأول مرة في تاريخها بهذه الضخامة وبهذه الاستمرارية، فمن كان يظن قبل سنوات وربما حتى قبل أشهر أن تشهد عاصمة القرار العالمي واشنطن مظاهرات هي الأضخم من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية تندد بالعدوان الصهيوني على غزة، وتطالب بوقف العدوان؟ بكل تأكيد لم يكن يظن أحد ذلك، وهو الأمر الذي عكس مدى الفجوة العميقة والسحيقة بين السياسي الأمريكي وبين مواطنه العادي.
يبدو أن ثمة تعارضا وتناقضا حتى في المعالجة الأمريكية والصهيونية لما يجري في غزة، وتجلى ذلك بنفي البنتاغون مشاركته في بداية المعارك البرية في غزة، حيث يرى الطرف الأمريكي من خبرته في أفغانستان والعراق بأن أي عمل عسكري دون رؤية سياسية ودون مشروع واضح سيرتد بشكل سلبي على صاحبه، في المقابل يرى القرار الإسرائيلي بأن العمل العسكري أولاً وأخيراً، وربما مدفوعاً بالصدمة التي تلقاها صبيحة السابع من أكتوبر، أن النظرة السياسية تطورها وتعدلها التطورات والأحداث الميدانية على الأرض، وهذا انعكاس لرؤية نتنياهو نفسه التي دونها في مذكراته، ولا يخفى على أي متابع سياسي حجم الخلاف الماضي بين نتنياهو والإدارة الأمريكية، والتي وصلت ذروتها خلال مواجهات التعديلات الدستورية في الكيان الصهيوني، والتي اعترضت عليها الإدارة الأمريكية كما اعترضت عليها المؤسستان الأمنية والعسكرية، الصهيونية ولكن فرض نتنياهو رؤيته في التعديلات، إذ ترى واشنطن أن هذه التعديلات كانت لصالح المتطرفين الصهاينة، وهو الأمر الذي يتناقض مع المشروع الغربي للكيان الصهيوني الذي انبنى أساساً على أنه مشروع لليبراليين اليهود الغربيين، والذي حرص الغرب طوال قرن على التخلص منهم، عبر إرسالهم إلى فلسطين، وبالتالي ففرض رؤية المتطرفين الصهاينة هذه سيشكل بيئة طاردة لليبراليين اليهود الغربيين، الذين سيعودون إلى الغرب، وهو من سعى على مدى قرن للتخلص منهم.
الجانب الإستراتيجي والبعيد المدى التي ستدفع الولايات المتحدة الأمريكية ثمنه وهو تشتتها على جبهات الصين وروسيا، وقد برز ذلك مباشرة بعد التورط في الوحل الفلسطيني، إذ بدأت وسائل الإعلام الغربية تُسرب أخباراً عن طلب أمريكي من الرئيس الأوكراني زيلنسكي لتقديم تنازلات لموسكو في المفاوضات المقبلة، نتيجة انشغال واشنطن بالملف الفلسطيني، والذي حرفها وشتتها عن العدو الإستراتيجي الصين والتي سعت على مدى سنوات إلى ترتيب أوراقها، وإستراتيجياتها وأولوياتها على أساس أنه العدو المقبل، وأن ساحته في بحر الصين هي ساحة المواجهة المقبلة، مما جعلها تبتعد عن الشرق الأوسط، ليفرض الأخير نفسه اليوم من خلال العدوان الصهيوني على غزة، وقد برز ذلك عبر تبرير الولايات المتحدة الأمريكية لفشلها الأمني في التنبؤ المسبق بهجوم السابع من أكتوبر حين نُقل عن مسؤولين أمنيين أمريكيين بأن واشنطن أوقفت متابعة حماس بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، بعد أن اعتمدت على متابعة المؤسسات الأمنية للكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يعزز نظرية ابتعاد أمريكا عن الشرق الأوسط.
التحالفات الروسيةـ الصينية ـ الإيرانية مع كوريا الشمالية، والخسائر الجيوسياسية الأمريكية في ملفات عدة، وابتعاد دول عربية ومتوسطية كانت لعقود موالية لأمريكا وتوجهها نحو الشرق يشير إلى أن السياسة الأمريكية ستدفع أثماناً باهظة أكبر، ولعل الأهم في ذلك هو في المزاج العالمي الآن المعادي للسياسة الأمريكية، حتى في وسط الغرب نفسه والذي مثله المظاهرات الصاخبة في العواصم الغربية.
ثمن باهظ ستدفعه واشنطن، بعد السمعة السلبية الكبيرة التي طالتها، إن كان بترويج أكاذيب صهيونية، تبين كذبها بعد ساعات على إطلاقها، وقد تورط فيها حتى الرئيس الأمريكي والمسؤولون الأمريكيون الكبار بمن فيهم وزير الخارجية، وهو الأمر الذي سيكون له تداعياته الخطيرة، مما يذكر بأكاذيب وزير الخارجية السابق كولن باول عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل قبل العدوان عليه ليظهر لاحقاً كذب ذلك وكذب مبرر الحرب أصلاً وفصلاً.