حسام شاكر
أوقعت منصّات سياسية ووسائل إعلام ذاتها في أزمة مصداقية عندما تواطأت مع حملة الإبادة والجرائم التي استهدفت غزة، إلى حدّ تلقُّف حبكات دعائية ساذجة ومواد مزيّفة، والإصرار على ترويجها دون حرص على التحقُّق والتثبُّت والموضوعية، وتجاهلت وقائع موثقة.
استأثر العدوان على غزة ببؤرة الحدث العالمي طوال خريف 2023، واكتشفت جماهير غفيرة أنّ عالمها يشهد في القرن الحادي والعشرين إعادة إنتاج مطوَّرة لفظائع الماضي.
وبدا أنّ غزة التي تُدَكّ وتُباد صارت ثقباً أسوَدَ يبتلع الرصيد المعنوي الذي استأثرت به أمم الصدارة العالمية المتَّشحة بالقيم والمبادئ والشعارات النبيلة.
وأتاحت هذه المعايشة المديدة فرصةً استثنائية لشعوب وجماهير العالم، لتبصر حقيقة أنّ المصالح والتحيُّزات هي التي تحرِّك المواقف، لا الأخلاقيات المُعلَنة والشعارات المرفوعة، وأنّ قيمة الحياة الإنسانية والكرامة البشرية لا يُنظَر إليها على قدم المساواة، وأنّ البشر لا تتكافأ دماؤهم وأرواحهم وسلامتهم في خطابات السياسة ومضامين الإعلام ومنصّات الثقافة.
جماهير ضد حكوماتها
تملّك الذهولُ شعوباً وجماهيرَ وأجيالاً، على اختلاف أعمارهم، اكتشفوا أنّ “المجتمع الدولي” المسيّج بالمواثيق والمكلّل بالشعارات يسمح بكلّ المروق الرهيب عن الإنسانية، بل إنّه يتصرّف، سياسياً وإعلامياً وثقافياً، على نحو يشجِّعه ويدعمه ويوفِّر له الذرائع المحبوكة.
ومنَح “التهاب” الحدث الممتدّ شهراً بعد شهر أوساطاً من “أمم الديمقراطية وحقوق الإنسان” فرصة اختراق نادرة لجُدران التضليل وحُجُب العزل الوجداني، فأطلّت على واقع مُرعِب يُصنَع باسمها في مكان “بعيد”، ويُموَّل بضرائبها بلا هوادة، فاختلفت المواقف والتعبيرات بين شاشات الصناعة الإعلامية الموجّهة ومضامين التداول الحرّ نسبياً على شبكات الإنترنت.
كشف موسم الفظائع المرئية أنّ أمم الصدارة العالمية لا تتردّد في اقتراف محرّمات مُغلّظة وجرائم رهيبة بالتواطؤ المتذاكي عن بُعد والمراوغات المحبوكة التي تلجأ إليها، وأنّها لا تعجز عن توفير سرديات تبريريّة لتسويغ الجرائم والتستُّر عليها حتى في زمن الشاشات والشبكات والبثّ المباشر والرصد الحقوقي والتحركات الجماهيرية العالمية.
أسرَّ بعضهم باستنتاجات غير مسبوقة في “أمم الديمقراطية وحقوق الإنسان”، من قبيل أنّ “حكوماتنا استغفلتنا” كي تواصل إمداد جيش الاحتلال والعدوان بأسلحة وذخائر فتّاكة، يضرب بها المستشفيات ودُور العبادة والأحياء السكنية المكتظّة ومخيّمات اللاجئين على مرأى من العالم أجمع.
وأدركت شعوب وجماهير واكبت الحدث المديد أنّ هذه الفظائع تُسلَّط على شعب مُستضعَف، اقتُلع قسراً من أرضه ودياره، وسُلِبَ حرّيتَه وحقوقَه وسيادتَه، وفُرض عليه الاحتلال والقهر والتشريد والحصار والعبودية جيلاً بعد جيل.
أبصرت جماهير ومجتمعات وأمم كيف تُستعمَل المرجعيّات القيميّة والمبدئيّة والقانونية انتقائياً حسب أولويّات المصالح، وكيف تُستغَلّ تعسُّفياً ضد الحُريّات والحقوق وكرامة الإنسان أيضاً.
إعلام أخرس عن الحق
وأوقعت منصّات سياسية رسمية ووسائل إعلام كبرى ذاتها في أزمة مصداقية مع الشعوب والجماهير، عندما تواطأت مسبقاً مع حملة الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب التي استهدفت غزة، إلى حدّ تلقُّف حبكات دعائية ساذجة ومواد مزيّفة، والإصرار على ترويجها من دون حرص على التحقُّق والتثبُّت والموضوعية، بل تجاهلت وقائع موثقة بالصوت والصورة، ووفّرت ذرائع نمطية لاقترافها وغطاءً مُسبقاً لاستمرارها.
شوهدت دُوَل -تُعلِن التزام الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم السامية- وهي تسمح بوقوع جرائم حرب شنيعة بحقّ الشعب الفلسطيني، التي تظل إحدى أبرز علاماتها مأساة الخُدَّج في مستشفيات غزة.
وواكب العالم المأساة الرهيبة بالصوت والصورة يوماً بيوم وساعة بساعة، من دون أن تستجيب “دول الحقوق والشعارات الإنسانية” لنداءات الاستغاثة المسموعة أو ترّق لحال أبرياء قُطعت عنهم أجهزة التنفُّس ومتطلّبات الرعاية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة، فشوهِدوا يموتون واحداً واحداً.
لم تتدخّل الدول الداعمة للإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب لوقف المقتلة الفظيعة المرئيّة عبر الشاشات بحقّ أطفال ونساء ومرضى وجرحى ومُسنِّين وصحفيين ومدنيين أبرياء.
إخفاق أخلاقي
منحت هذه المأساة المحبوكة أمم الصدارة العالمية شهادة إخفاق مؤكّدة في امتحان أخلاقي مشهود، وكشفت النقاب عن أنّ آليّات الاعتراض المبدئي والقيمي معطّلة أو عاجزة، رغم أصوات الضمائر التي تعلو في كلّ مكان، وأنّ جماهير الميادين الهادرة ليست كافية للإلزام بمنطق الحقّ والعدل والكرامة الإنسانية.
وأسفر المشهد عن أزمة أخلاقية تعتري المركزية الغربية التي تُصِرّ على فرض سرديّة أحادية على العالم، واحتكار الحقيقة ومصادرة القيَم والمبادئ وتشغيلها انتقائياً حسب مصالحها.
لا يقتصر ضحايا هذه المركزية على الشعب الفلسطيني في غزة أو غيرها، فما يجري مرئياً في خاصرة المتوسط الجنوبية الشرقية هو تعبير ظاهر ومُكثّف عن اختلالات ذات أثر عميق وممتدّ عبر العالم.
تكشّف للعيان كيف تتناقض مواقف أمم الصدارة العالمية حسب مصالحها واستقطاباتها بصفة نزعت عنها المصداقية بالكامل، فهي ذاتها التي حاولت حشد “المجتمع الدولي” ضد انتهاكات ومُمارسات معيَّنة، ثم باشرت تأليب العالم على غزة لدعم انتهاكات وممارسات أعلى جرماً وأكثر فظاعة.
إنها المركزية الغربية التي تفرض “أولويَّات” أخلاقية مفتعلة، وتثير زوابع قيميّة محبوكة في ملفات اجتماعية وفردانية مُنتقاة، فيما تدوس حقّ الحياة والحرية والكرامة بالأقدام في حقّ شعب بأكمله.
ومن خطورة ما يجري أنها اختطّت نهجاً تبريرياً لأيِّ حملة إبادة وتطهير عرقي وجرائم حرب وانتهاكات جسيمة، قد يستسهل أي طرف جائر في عالمنا الإقدام عليها.
وقد وجدت مُراوغاتٌ لفظية وحججٌ تبريرية سبيلها إلى خطابات سياسية وتغطيات إعلامية ومنصّات ثقافية، سوّغت التهوين من الفظائع وتستّرت عليها وشرْعنت مسلكها وأعْفت آلتها من المساءلة، فيما أمعنت في لوْم الضحية الفلسطيني الذي حُمّل المسؤولية عن كلّ ما يُقترف في حقّه من فظائع.
إنّ الحبكات التبريرية الدؤوبة ضالعة في المسؤولية عن إزهاق أرواح آلاف الأطفال والنساء والمدنيين في غزة وقصف المنشآت والمرافق السكنية والمدنية، بما فيها مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس.
ومن وجوه المراوغة أن تُظهِر خطابات سياسية وإعلامية وثقافية تعاطفاً شكلياً مع الضحايا الأبرياء من دون إشارة إلى صفتهم الفلسطينية أو تحميل آلة الحرب الإسرائيلية أي مسؤوليّة عن جرائمها الشنيعة.
“حضارة الإبادة”
إنّ خطابات دعم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أمم الصدارة العالمية تضمّنت استدعاءات واضحة من تقاليد الماضي الاستعماري، مثل الاستحواذ على أوصاف “الحضارة” و”التحضُّر” و”الإنسانية” و”الخير” و”النور”، ونزع الإنسانية ونفي التحضّر وإنكار الأخلاق بصفة صريحة أو إيحائية عن شعب واقع في مرمى العدوان الوحشي.
إنّها إعادة إنتاج متذاكية لخطابات تبرير التوسُّع والسيطرة والاضطهاد التي شهدها العالم خلال العهد الاستعماري المديد، المُثقَل بسياسات وممارسات أمعنت في الإبادة والاستغلال والجرائم البشعة.
وهو عهد لم يُحاكَم تاريخياً وأخلاقياً ومبدئياً، ولم تُمحَّص بواعثه ومحفِّزاته كما ينبغي، ولم تُراجع ذرائعه النمطية أيضاً التي تبقى مهيّأة للاستنبات من جديد في أي ظروف مواتية، كما شوهد في حملة إبادة غزة.
لا عجب أنْ جدّدت فظائع غزة العهد بذاكرة العهد الاستعماري الذي قاست أمم عدّة ويلاته، وأنَّ هذا الموسم الرهيب نكأ جراح شعوب عانت الإبادة والتطهير العرقي، وأنّ جرائم الحرب حرّكت آلاماً مكبوتة لدى أحفاد السكّان الأصليين الذين أُزيحوا إلى هامش التاريخ والجغرافيا وطُمِس ذكرهم قروناً متعاقبة، حتى شوهدت دبكة الفلسطيني المناضل امتداداً لرقصات الشعوب المُبادَة.
ومِن الشواهد على السقوط الحرّ أنّ الصحافة العالمية المرموقة تخلّت عن سمعتها المهنية ودورها الأخلاقي، وتواطَأت مع سياسة دعم الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب، بل إنّ بعضها تجنّد باعتباره بوقاً دعائياً في خدمة نهج التقتيل والتدمير من دون أن تدرك مأزقها مع جماهير النقد والتمحيص في الشبكات التي تقف بالمرصاد لمَن يتلاعب بوعيها ويستخفّ بذكائها.
ثمّ إنّ نخباً فلسفية وفكرية وثقافية تقاعست عن مسؤوليّتها الأدبية في مواجهة هذا الانزلاق الجسيم أو اكتفت بالسكوت والتغاضي، أو افتقرت إلى الشجاعة في إبداء الموقف المبدئي، ومن شأن هذا أن يحرِّك مراجعة نقدية صارمة مع أطروحاتها ذات الحضور العالمي.
سيتوقّف القصف في العاجل أو الآجل وسينجلي الغبار عن مزيد من الفظائع المتكوِّمة تحت أنقاض غزة، من دون أن يهدأ طوفان الأسئلة الشائكة التي حرّكتها هذه البقعة الساخنة في وعي عالمها.
وفي هذا ما يؤكِّد مجدّداً أنّ الحدث التي يشغل العالم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي سيكون له ما بعده في مجالات شتى، تتجاوز وقائع الميدان وحسابات السياسة.