عندما تخترق “محرقة غزّة” جدار سردية الهولوكوست.
يحيى اليحياوي
بضعة أيّام فقط على انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، قال رئيس وزراء إسرائيل، وهو يطلب من الكنيست التصويت لفائدة تنصيب حكومة طوارئ، إنّ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول “سيبقى يومًا أسود في تاريخ الشعوب، والأفظع للشعب اليهودي منذ المحرقة النازية”. ويتابع: “إنّ حماس هي داعش، وعلى العالم الذي صدم بداعش والقاعدة بعد 11 سبتمبر/أيلول، أن يُدينها ويفرض عقوبات عليها”.
عندما تخترق:
من حينه، انبرى العالم أجمع، لا سيما الأميركي والأوروبي، لإدانة حركة “حماس” ومناصرة إسرائيل من باب “حقّها في الدفاع عن نفسها”، المتمثّل حصريًا وقطعيًا في استرجاع “المخطوفين”، ثم تقويض بنية الجناح العسكري للحركة، مع الإجهاز التام على سلطتها بغزّة.
على أنّ الذي أجّج أكثر مشاعر التعاطف الأولى مع إسرائيل، بأميركا كما بأوروبا، إنّما تلك الصور التي قيل إنها لأطفال مقطوعي الرؤوس، ولرضّع مقطّعي الأطراف ولنساء قيل إنهن اغتصبن، ثم ذبحن ثم بقرت بطونهن.
ولمّا كانت كبريات المحطات التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار، تدين بالولاء المطلق لإسرائيل، أو هي في ملكية من يواليها، فقد انتشرت السّردية إياها انتشار النار في الهشيم، وباتت هي الخلفية التي على أساسها تمّت مباشرة الحرب على غزّة بقصف جوي ومدفعي غير مسبوق، ثم بغزو بري واسع، ترتّب عنهما معًا، سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتدمير شبه كامل لبنى قطاع غزّة الأساس، بما فيها المدارس والمستشفيات ومؤسّسات الإغاثة ومقار المنظمات الإنسانية الدولية.
“قوّضت إسرائيل سرديّتها المقدّسة عندما أوغلت في ارتكاب فظاعات وضعت “محرقتها” على محك التشكيك”.
لقد عاين العالم كلّه هول التقتيل الذي تعرّض له الآلاف من أطفال ورُضّع غزّة، وحجم الدمار الذي طال المنازل والبنى التحتية، واستماتة إسرائيل في استهداف المدنيين بالجملة، حتّى باتت تعابير “الإبادة الجماعية” و”النازية الجديدة” والمحرقة والهولوكوست، تعابير شائعة، حتى بالبلدان الغربية التي ترى في استخدامها “معاداة للسامية”.
بالتالي، فقد قوّضت إسرائيل، بما فعلته بغزّة، سرديّتها المقدّسة، قوّضتها بنفسها عندما أوغلت في ارتكاب فظاعات وضعت “محرقتها” ذاتها بالميزان وعلى محك التشكيك:
– إذ لم يثبت بالوثائق والوقائع، أنّه كان ثمة قرار بتوقيع شخصي من هتلر، يؤذن ويؤشر على وجود توجّه مُمنهج لإبادة اليهود، أو الزّج بهم في المعتقلات الجماعية أو في الأفران.
هي سردية يُجمع المؤرّخون على أنّها اتُخذت مطية لشرعنة إنشاء وطن لليهود، يجمع شملهم ويضع حدًا لوضع الشتات الذي كانوا يعيشونه. لم نعاين أطوار ما أسموه بالمحرقة، في حين أنّ العالم كلّه، عاين ولا يزال يعاين بالصوت والصورة، هولوكوست غزّة، حيث الإبادة الشاملة والمُمنهجة.
– ثمّ على فرض ثبوت حقيقة محرقة نازية ما بأربعينات القرن الماضي، فإنّها لم تكن بحجم محرقة غزّة، على الأقل من باب أنّ الأولى لم تستهدف الأطفال الرضّع، ولا طالت مرضى المستشفيات أو نزلاء مراكز الإيواء والإغاثة.
محرقة غزّة واقع ثابت وموثّق في حين أنّ محرقة النازية لا تعدو سوى كونها صناعة صهيونية خاصّة
لقد شاهد العالم أجمع وبالمباشر الحي، جثث أطفال غزّة وأشلاءهم ملقاة على الأرض، وشاهد رضّعًا بالمئات تشوّهت ملامحهم، جراء قصف عنيف في جزء كبير منه باليورانيوم المنضب المحرّم دوليًا.
– من جهة أخرى، لم تتعرّض معسكرات الهولوكوست النازية لعملية إبادة جسدية مُمنهجة، إذ لم يُمنع على اليهود حينها لا الطعام ولا الشراب، في حين أنّ القرار الإسرائيلي بمنعهما عن سكان غزّة، كان رسميًا ومؤشرًا عليه، تمامًا كمنع المساعدات الإنسانية القادمة من الخارج.
إنّ محرقة غزّة واقع ثابت وموثّق، لا يستطيع المرء إنكاره، في حين أنّ محرقة النازية لا تعدو سوى كونها صناعة صهيونية خاصّة، نسجها السلف وسار عليها الخلف، فتفوّق الخلف على السلف.