الحرب على غزّة: معضلات إسرائيل الاقتصاديّة والسياسية.
” تواجه الحكومة الإسرائيلية تفاعلًا معقدًا من التحديات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية حيث تؤكد الحرب على غزة على ضرورة حدوث تحول استراتيجي.”.
بقلم : علي نور الدين
موقع: fanak
منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، وضعت إسرائيل لنفسها أهدافا طموحة جدًا، مثل تفكيك البنية التحتيّة لحركة حماس داخل القطاع، ومن ثم تفكيك الحركة نفسها، وصولًا إلى فرض إدارة أمنيّة جديدة لقطاع غزّة في المستقبل.
وكان من الواضح منذ البداية أنّ تحقيق أهداف كبيرة من هذا النوع غير ممكن، من دون السيطرة الميدانيّة التامّة على الأرض داخل غزّة، وهذا ما دفع الحكومة الإسرائيليّة إلى المصادقة على العمليّة البريّة التي يخوضها الجيش الإسرائيلي الآن.
أهداف إسرائيل ومعضلاتها الدبلوماسيّة والسياسيّة
لكن بعيدًا عن الأهداف الطموحة المعلنة، وبعد مرور نحو شهرين على إعلان الحرب على قطاع غزّة، مازالت رقعة السيطرة الإسرائيليّة داخل القطاع لا تتجاوز الـ 20% من مساحته الإجماليّة. بل وكان من اللافت أنّ غالبيّة المناطق التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي حتّى الآن تركّزت في المساحات المفتوحة وغير المأهولة، فيما تباطأ الغزو البرّي تدريجيًا بمجرّد دخول الدبابات الإسرائيليّة الأحياء السكنيّة.
هذا المشهد، يؤكّد تحليلات رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق إيهود براك، الذي أشار منذ البداية إلى أنّ هدف العمليّة البريّة المُعلن، أي إلحاق الهزيمة الكاملة بحركة حماس، سيحتاج إلى فترة زمنيّة طويلة جدًا، قد تتجاوز السنة الكاملة. وهذا ما يتقاطع أيضًا من تحذيرات رئيس هيئة الأركان الأميركيّة المشتركة الجنرال تشارلز براون، التي لمّحت إلى عدم واقعيّة هدف القضاء على حركة حماس، باعتباره ” أمرا كبيرًا جدًا”.
في جميع الحالات، تواجه الحكومة الإسرائيليّة العديد من التحديات التي قد تمنع استمرار عمليّتها البريّة لفترة زمنيّة طويلة، حتّى تحقيق هدفها المعلن، أي القضاء على حركة حماس. ومن هذه التحديات مثلًا الضغط السياسي الدولي، وخصوصًا من جهة العديد من الدول الغربيّة، التي بدأت تستشعر الكلفة السياسيّة لاستمرارها في دعم العمليّة البريّة الإسرائيليّة.
وهذا مثلًا ما عكسته مؤخرًا مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي استهجن فكرة استمرار الحرب حتّى “القضاء على حركة حماس”، محذرًا من “حرب لا نهاية لها”، ومطالبًا بتوضيح أهداف الغزو البرّي. وعلى النحو عينه، جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي طالب بالانتقال إلى مرحلة وقف إطلاق النار التام في غزّة، ورئيس الوزراء البلجيكي ألكنسدر دي كرو الذي استهجن قيام إسرائيل “بحصار منطقة بأكملها وحجب المساعدات الإنسانيّة”.
ببساطة، ومع إستياء الرأي العام في الدول الغربيّة من مشاهد القتل والدمار في قطاع غزّة، تستنفد إسرائيل تدريجيًا رصيدها الدبلوماسي لدى تلك الدول، ما سيفرض عليها عاجلًا أم آجلًا الرضوخ لأهداف أكثر واقعيّة في عمليّتها العسكريّة. ولعلّ الحكومة الإسرائيليّة بدأت أساسًا بتلقّف رسائل كبار المسؤولين في الإدارة الأميركيّة، كحال نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس التي حذّرت في 3 كانون الأوّل/ديسمبر من “حجم معاناة المدنيين والصور ومقاطع الفيديو القادمة من غزّة”. وكذلك وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي ذكّر إسرائيل بأن حماية المدنيين “مسؤوليّة أخلاقيّة وضرورة إستراتيجيّة”.
بطبيعة الحال، لم تصل الإدارة الأميركيّة بعد إلى حد المطالبة بوقف إطلاق النار، أي وقف العمليّة البريّة بشكل تام، كما فعلت فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وأسكتلندا وغيرها من الحكومات الغربيّة. إلا أنّ تصريحات المسؤولين الأميركيين بدأت تحذّر من “الهزيمة الإستراتيجيّة” التي ستواجهها إسرائيل، بفعل قذف المدنيين في غزّة إلى “أحضان العدو”، كما أشار أوستن، في سياق انتقاده الصريح العمليّة البريّة الإسرائيليّة. كما بدأت الإدارة الأميركيّة تستاء من “الأعداد الكبيرة للغاية من الفلسطينيين الأبرياء الذين يُقتلون في غزّة”، كما ذكرت هاريس.
وبهذا الشكل، بدأت هذه المواقف الأميركيّة تؤشّر إلى أنّ إسرائيل لن تمتلك ترف الاستمرار في حربها بدون أفق واضح، خصوصًا أنّ الدعم المالي والعسكري الأميركي يمثّل عنصرًا حاسمًا في سياق العمليّة البريّة داخل قطاع غزّة. مع الإشارة إلى أنّ الجيش الإسرائيلي أكثر من يعلم أن استمرار الغزو البرّي بلا قيود، ليطال أحياء القطاع المكتظ والمُحاصر كافّة، لا يمكن أن يتم من دون خسائر بشريّة ضخمة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، ما يمثّل تحديًا للتحذيرات الأميركيّة المتكرّرة.
على أي حال، قد يكون من الضروري أيضًا الإشارة إلى أنّ الإدارة الأميركيّة، ورغم انحيازها الواضح إلى إسرائيل منذ بداية الحرب، تأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الحسابات الأخرى. فهي تلقّت على سبيل المثال مجموعة من التحذيرات والبرقيّات من بعثاتها الدبلوماسيّة في المنطقة العربيّة، التي توقّعت أن تخسر الولايات المتحدة “الجماهير العربيّة على مدى جيل كامل”، في ظل “دعم واشنطن القوي إسرائيل” في حربها على غزّة. كما حذّرت رسائل البعثات الدبلوماسيّة من تداعيات موجة الغضب العربيّة المناهضة لسياسات الولايات المتحدة، على المصالح الأميركيّة في المنطقة.
الحرب ومعضلات الضغوط الاقتصاديّة على إسرائيل
على المقلب الآخر، تبرز اليوم المعضلات والضغوط الاقتصاديّة على الداخل الإسرائيلي، والتي سيكون من شأنها أيضًا الحؤول دون استطالة الحرب، لتحقيق أهداف الحكومة الإسرائيليّة الطموحة.
فحتّى أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، كان البنك المركزي الإسرائيلي قد قدّر كلفة الحرب على غزّة، على الاقتصاد الإسرائيلي، بأكثر من 198 مليار شيكل إسرائيلي، أي ما يوازي الـ 53 مليار دولار. ولفهم ضخامة هذه الكلفة، تكفي الإشارة إلى أنّها توازي قرابة الـ 10% من حجم الاقتصاد الإسرائيلي بأسره، كما يقدّره اليوم صندوق النقد الدولي.
وتشمل هذه الكلفة نفقات الجيش القتاليّة، والتعويضات المباشرة لجنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم، ناهيك عن كلفة عمليّات إجلاء السكّان من مناطق غلاف غزّة والشمال المحاذي للحدود اللبنانيّة. كما يشمل هذا الرقم الخسائر المتوقّعة في العائدات الضريبيّة، نتيجة تباطؤ الحركة الاقتصاديّة.
على هذا الأساس، كان من الطبيعي أن تتوقّع وكالة بلومبيرغ، بالاستناد إلى تقديرات حكوميّة إسرائيليّة، ارتفاع العجز في الميزانيّة العامّة الإسرائيليّة –خلال العام 2023- إلى 9% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي. وهكذا، سيكون متوقّعًا أن تؤدّي كل هذه التطوّرات إلى زيادة حجم الدين العام الإسرائيلي بقيمة موازية، لتغطية العجز، ما يعني زيادة كلفة الفوائد في المستقبل، على الميزانيّة العامّة لإسرائيل. أمّا أكثر ما يخشاه المسؤولون الحكوميون الإسرائيليون، فهو أن يؤدّي ذلك إلى تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل خلال الفترة المقبلة، خصوصًا بعدما وضعت وكالتا “فيتش” و”ستاندرد آند بورز” هذا التصنيف قيد المراجعة السلبيّة في بداية الحرب.
تتعدّد الأسباب التي تجعل من الحرب الراهنة مصدرًا لمخاطر اقتصاديّة كبيرة جدًا، بخلاف جميع الحروب التي خاضتها إسرائيل خلال العقود الخمسة الماضية. فمنذ بداية الحرب، قامت إسرائيل بأكبر عمليّة استدعاء للاحتياط منذ حرب عام 1973، إذ شملت عمليّة الاستدعاء الراهنة أكثر من 350 ألف شخص.
وبهذا الشكل، توقّف عن العمل أكثر من 8% من إجمالي القوّة العاملة في إسرائيل، وخصوصًا في قطاع التكنولوجيا الذي يعتمد على عنصر الشباب بشكل كبير. وفوق ذلك، خسر سوق العمل الإسرائيلي مساهمة أكثر من 140 ألف عامل فلسطيني، بعد إقفال المعابر التي تصل إسرائيل بمدن وقرى الضفّة الغربيّة، ما مثّل أزمة كبيرة في قطاع البناء الذي يعتمد على اليد العاملة الفلسطينيّة.ً
في الوقت عينه، يعاني سوق العمل الإسرائيلي جرّاء مغادرة أكثر من 230 ألف إسرائيلي البلاد، خوفًا من تبعات الحرب الراهنة. كما يعاني كذلك من مغادرة أكثر من 17 ألف عامل أجنبي، كانوا يلبّون حاجات قطاعات الزراعة والبناء والتمريض داخل إسرائيل. وجزء كبير من عمليّات المغادرة، جاء بفعل دعوات إجلاء رسميّة من السفارات الأجنبيّة، كحال آلاف العمّال التايلانديين الذين غادروا بناءً على طلب سفارتهم.
باختصار، لا تقتصر المعضلات الاقتصاديّة على كلفة الأعمال القتاليّة والتعويضات وخسارة العائدات الضريبيّة، بل تشمل كذلك الشلل الاقتصادي الناتج عن أزمة سوق العمل. وهذا ما يفسّر أرقام مصرف “جي بي مورغان”، التي توقّعت أن ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 11% في الربع الأخير من عام 2023. كما يفسّر هذا الواقع تخطّي قيمة القروض المتعثّرة في إسرائيل حدود الـ 13.3 مليار دولار أميركي خلال شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، بحسب أرقام المصرف المركزي الإسرائيلي.
أمام هذه المخاطر الكبيرة، لا يوجد أي مبالغة في الحديث عن احتمالات تعرّض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة أكبر، بل وربما لانهيار اقتصادي، في حال استطالة الحرب خلال الأشهر المقبلة. وهذا بالذات ما أشار إليه بعض المسؤولين الماليين الإسرائيليين، في تسريبات خاصّة لصحيفة “واشنطن بوست”، حين تحدثوا عن “الانهيار الاقتصادي” كاحتمال قائم في حال استمرّ الهجوم البرّي في غزّة لأكثر من ثلاثة أشهر مقبلة.
الحاجة إلى مخارج سياسيّة
لكل هذه الأسباب، لا تحمل أهداف الحرب الإسرائيليّة المُعلنة اليوم أدنى حد من الواقعيّة، بالنظر إلى المدّة التي يحتاجها تحقيق هذه الأهداف، مقابل التحديات الاقتصاديّة والسياسيّة والدبلوماسيّة التي تمنع استطالة الحرب. ولذلك، من الأكيد أنّ الحكومة الإسرائيليّة ستضطر عاجلًا أم آجلًا الى العودة إلى الحلول والمخارج السياسيّة، لإنهاء هجومها البرّي أولًا، والتفاوض لإطلاق سراح سائر الأسرى الموجودين في قطاع غزّة ثانيًا.
وفي تلك المرحلة، قد تسعى إسرائيل إلى استثمار أي تقدّم برّي على الأرض، لتفاوض على أساسه، لكنّها لن تتمكّن حتمًا من تحقيق الهدف الأكبر المُعلن، أي تصفية حركة حماس وتفكيكها كليًا. ومن المهم التذكير هنا بالخطوط الحمر الأميركيّة، التي ترفض حتّى هذه اللحظة أي محاولة إسرائيليّة لتقليص حجم قطاع غزّة، أو عودة إسرائيل لاحتلاله بشكل دائم كما كان الحال قبل العام 2005.
في الخلاصة، قد يكون من المفيد التذكير بأنّ رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، ومعه كبار الضبّاط في الجيش الإسرائيلي، يملكون أسبابهم الشخصيّة للمضي قدمًا في الغزو البرّي، بمعزل عن مصلحة إسرائيل نفسها، وبالرغم من الكلفة الاقتصاديّة والبشريّة والسياسيّة المترتبة على هذا الغزو. فجميع هؤلاء يتحمّلون بشكل أو بآخر مسؤوليّة الإخفاقات التي تجلّت خلال عمليّة السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، والتي يفترض أن يتم التحقيق بها بعد انتهاء الحرب.
ولذلك، من الطبيعي أن يحاول نتنياهو وكبّار الضبّاط التعويض عن هذه الإخفاقات، بتحقيق الحد الأدنى من الإنجازات الميدانيّة أمام الرأي العام الإسرائيلي، قبل الانتقال إلى مرحلة المحاسبة وتحمّل المسؤوليّة، وربما نهاية الحياة السياسيّة بالنسبة لنتنياهو.