رد عزمي بشارة على يورغن هبرماس
– الحلقة الأولى:
تتصرف الدول الديمقراطية في زمن الحرب على مستوى الخطاب كأنها دول شمولية […] هذا الواقع دفع البعض إلى التشكيك في قيم العدالة والحرية والمساواة وكأنها مجرد نفاق، متناسيًا الفرق بين القيم الأخلاقية التي يفترض أن تجمع الإنسانية وتشكل أساسًا للحوار والتواصل والحكم على التصرفات وطرح المطالب العادلة، وبين النفاق الأخلاقي الذي يغطي المصالح والعصبيات. وشتان بين الأمرين.
ولم يَنجُ من هذه الأجواء مفكرون يَعدُّهم العرب المعجبون بهم أصحاب قيمٍ كونية سواء أكانت يسارية أم ليبرالية. ومنهم يورغن هبرماس وشيلا بن حبيب. فكثير من المتنورين، بلغة القرن الثامن عشر الفرنسي، لا يتجاوزون الهوة الفاصلة بين القيم الكونية في مضمونها من جهة، وكونيتها لناحية نطاق سريانها من جهة أخرى.
[…] لا يستحق بيان يورغن هبرماس ضد منتقدي إسرائيل أي مناقشة علمية حوارية، فالحديث عن بيان سياسي مقتضب يتركز أساسًا على تبرير تحديد حرية نقاد إسرائيل في #ألمانيا بالتعبير، ورفض تسمية ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة إبادة جماعية، لأسباب متعلقة بألمانيا ذاتها وتاريخها، وأيضًا لسبب يبدو له بديهيًا، وهو أن الحرب_الإسرائيلية على غزة، التي سماها “الانتقام بهجوم مضاد”، لا يجوز أن يكونَا مَحلّ خلاف. وبدلًا من توجيه النقد إلى الحرب الفعلية الجارية في الواقع، فضّل هبرماس التشديد على حرب افتراضية تجري بموجب “مبادئ توجيهية للحرب” كما سماها، وهي “تجنب سقوط ضحايا من المدنيين”، وأن يكون الهدف “إحلال السلام في المستقبل”. ولا أعتقد أن هبرماس يمتلك الغرور الكافي لكي يحسب إسرائيل منصاعة لمبادئه التوجيهية، لكنه وضعها على كل حال بوصفها شروطًا بلاغية لأغراض الصياغة، بحيث يبدو دعم الحرب التي تخوضها إسرائيل مشروطًا، مع أنه غير مشروط. وتابع قوله: “وعلى الرغم من القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تمامًا عندما تُعزى نيّاتُ الإبادة الجماعية Genocide إلى التصرفات الإسرائيلية”. يجوز لك أن تقلق على مصير السكان الفلسطينيين، ولكن لا يجوز أن تسمي ذلك إبادة جماعية. أما هو نفسه، فلا يعبّر عن أي تعاطف أو تضامن معهم. همه منصب على أن لا يسمّى ما يتعرضون له إبادة جماعية، فالأمر يتعلق بحسن استخدام المصطلحات. ولا يُسعفنا السيد هبرماس بإصدار حُكْمٍ بنفسه على ما يسبب “القلق على مصير #السكان_الفلسطينيين”، وإذا لم يكن ما يجري لهم إبادة جماعية، فما هو؟ يمتنع الفيلسوف الألماني عن التحديد.
ليس لهبرماس رصيد يُذكر، ولا مكانة فعلية، في التضامن مع الشعوب خارج أوروبا. ويتركز اهتمامه العمومي في عقلنة الخطاب السياسي في أوروبا والمصالحة بين العقلانية التنويرية والعدالة الاجتماعية والليبرالية السياسية. وموقفه من الحرب الأميركية على العراق عام 2003 نمَّ عن سذاجة سياسية تليق ببروفسور ألماني، مثلما كان كارل ماركس يقول؛ إذ صدَّق أن هدفها تصدير الديمقراطية، كما جسَّد ميل الحس الأخلاقي إلى التضاؤل والاختباء خلف النقاشات الأكاديمية بشأن المصطلحات، حينما يتعلق الأمر بما يجري خارج “نحن” العالم الغربي، إذا صحت التسمية. وسوف نعود إلى مصطلح الإبادة الجماعية الذي أشغل الكثير من الأكاديميين في هذه المرحلة، وكأن تحديد التسمية هو الذي يحدد الموقف الأخلاقي من المسمى.
يفترض أن يكون قتل المدنيين الجماعي، بما في ذلك استهداف المدارس والمستشفيات بالقصف العشوائي من الجو مدانًا أخلاقيًا بغضِّ النظر عن تسميته الاصطلاحية، وانطباق مصطلح إبادة جماعية عليه ليس شرطًا لعدِّه جريمةً نكراءَ وموبقةً في منتهى الخسة والوضاعة، بل هو شرط لعدّه جريمة ضمن القانون الدولي. فالإبادة الجماعية مصطلح تعرِّفه بوضوح معاهدة دولية. وتفصّل هذه المعاهدة أركان هذه الجريمة…. يتبع.