مفهوم الامتناع: إعادة التفكير في معنى المقاومة.
* د. كمال القصير.
دفعتني أحداث فلسطين، منذ أسابيع عديدة، إلى الاجتهاد في صياغة مفهوم أطلقت عليه “الامتناع”، وإعادة النظر في دوره، باعتباره أحد المفاهيم الأساسية، التي يستند إليها سلوكنا الحضاري. وأحتاج في البداية إلى أن أشير إلى الاختلاف الكبير بين الامتناع والممانعة التي يتم تداولها سياسيا وإعلاميا، إذ لا يمكن أن يكون مبدأ الامتناع مجرد محور سياسي أو عسكري في المنطقة، فهو حالة شعورية ومفهوم يرتبط بالسلوك والذهنية الإسلامية عامة، وفوق التصنيف المذهبي والسياسي.
وفي إحدى المراحل انتشر مصطلح الممانعة، ليعكس حالة اصطفاف سياسي وعسكري. لكن محور الممانعة لم يكن يوما يمتلك القابلية ثقافيا، لأن يتحول إلى حالة شعورية في المنطقة، من أجل إحداث تغيير على مستوى وعي الشعوب وقدرتها على الفعل المشترك.
مفهوم الامتناع
لا ينبغي أن نخلط بين الامتناع وبعض المصطلحات القريبة منه مثل المقاطعة، التي تعتبر حدثا مؤقتا في أغلب الأحيان. وتكون قرارا تتخلى بموجبه بعض الشعوب عن بعض مظاهر الترف الزائد لديها، وحتى الضروري أحيانا، للتعبير عن موقفها أو الدفاع عن نفسها من خلال استهداف بضائع ومنتجات خصومها السياسيين وعلاماتهم التجارية. فالمقاطعة بهذا الاعتبار تكون نتيجة، لا مقدمة أو سلوكا وخاصية مستمرة.
لكن الامتناع سلوك وثقافة لا يرتبط بردود الأفعال، ولا بالحملات المؤقتة للشعوب. فهو قرار على أساسه يتم بناء النموذج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي. وعندما يقرر المواطن الياباني أو الصيني أن يتمسك بمنتجاته الخاصة وثقافته الأصلية، في سوق كبيرة مفتوحة وبالغة المنافسة والجودة العالية، فإنه لا يكون بذلك مقاطعا للمنتجات الغربية، بل ممتنعا ثقافيا وشعوريا واقتصاديا.
وفي المقابل عندما يقوم مواطن عربي بالتوقف عن الاستفادة من المنتجات الغربية في لحظات معينة تمر منها المنطقة، من خلال الحملات التي تدعو لها أطراف مختلفة بين الحين والآخر، فإنه يكون بذلك مقاطعا فقط لا ممتنعا، إذ سرعان ما يعود التيار العام إلى سابق عوائده، ويستمر بعض الأفراد فقط في محاولة الصمود. إن موقف المواطن الياباني ليس مقاومة، لكنه سلوك امتناع ثقافي يستند إلى نموذج ومرجعية معرفية مستقرة، ونظرة خاصة إلى العالم.
يتخذ الامتناع أبعادا فلسفية، عندما يكون الفيلسوف والمثقف العربي صاحب رؤية خاصة، بعيدا عن التقليد والاستنساخ للأفكار الغربية، التي تصدمه في كل حين، بكونها تستثنيه هو ومنطقته وثقافته العربية الإسلامية من عموم معنى الحداثة والتقدم. ويتخذ الامتناع بُعدا أخلاقيا عندما تتعود الشعوب على التعامل مع منتجات العالم من منطلق أخلاقي، فتنتج قبل أن تستهلك بشراهة، وتستهلك حسب حاجتها الضرورية. إن البنية الشعورية للمسلم بنية ممتنعة في أصلها القرآني، فهو لا يقبل كل ما تلقي به الثقافات والحضارات الأخرى من القيم والأفكار والعادات، ولا يهضم بعضها إلا وقد غيّر مضامينها وأشكالها.
الامتناع قريب من المناعة وفي جوهرها، وغياب الامتناع في سلوك المجتمعات يدل على ضعف المناعة الذاتية لديها، وسهولة اختراق بنيتها، وجعلها إما مقلدة أو تابعة من دون هوية. ولا يمكن أن نكون شعوبا ممتنعة إلا إذا كانت لدينا حدود ثقافية واضحة وصارمة. وهذا يحتاج إلى أعادة تعريف مفاهيم عديدة، مثل تحديد مفهوم العدو في الوعي الإسلامي المعاصر، وبيان معناه الشعوري والسياسي والديني لدى الأفراد.
إن حضور الدين والتاريخ بشكل كثيف داخل الوعي، يفرض تحديد الخصوم والمنافسين في العالم من جهة، وتمييزهم عن الأعداء وطرق التعامل معهم من جهة أخرى. أما توازن الوعي الإسلامي فهو مرتبط بدقة بتحديد هذا المفهوم. لقد أصبحت كلمة العدو من أكثر المفاهيم الإشكالية.
وبسبب استحواذ الرؤية السياسية وغلبتها على المقاربات الفكرية، وتراجع الأيديولوجيات في المنطقة، فإن مفهوم العدو، بات يعتريه الغموض وفوضى الاستعمال لدى المجتمعات والنخب. إن مفهوم الحرب والسلم يعاني اختلالا في الوعي الإسلامي المعاصر. ولم تحدُث فوضى مثل هذه، وخلط في المفاهيم بهذا المستوى، في تاريخ الوعي الإسلامي. حيث تتقاسم الرؤى المتباينة تحديد مفهوم العدو، بين المعطى الأيديولوجي العقدي، والمعطى السياسي البراغماتي.
لقد تطور مفهوم العدو وفق منحى فوضوي منذ القرن الماضي، في أجندة الوعي الإسلامي، ودون أن يكون منضبطا بأي ترتيب من حيث الأولوية. ولذلك تجد التشيع بالنسبة للبعض أشد من إسرائيل أو العكس. لقد بدأ تحديد العدو بالاستعمار الأجنبي لبلاد المسلمين، ثم قفز المفهوم ثانية، فارتبط العداء بالفكر الغربي لدى الكثيرين، بسبب تأثيراته على العقل العربي والإسلامي.
ثم حُدد العدو في عدد من الأنظمة العربية، الموالية سياسيا وفكريا للغرب من طرف تنظيمات عديدة. ومن جانبها حددت التيارات السلفية وبعض الأنظمة السنية العدو في الفكر الشيعي، وأذرعه السياسية في المنطقة. بينما حددت أنظمة ومنظمات أخرى العدو في إسرائيل.
ثم انتقل تحديد مفهوم العدو، ليتخذ منحى داخليا، فأصبح تيار الإسلام السياسي أكبر من عدو الأمس في أجندة البعض. وهذا الوضع مسؤول بشكل مباشر عن حجم الصراع السياسي والفكري في المنطقة. وبهذا الاعتبار أصبح مفهوم “الأرض المقدسة” جدليا. أما الأخطر مما تقدم، فهو أن قدسية المكان أصبحت تضطرب في الوعي البسيط يوما بعد يوم.
ويرتبط بفوضى اضطراب مفهوم العدو اضطراب آخر في معنى الولاء والبراء، الذي يعتبر أداة أساسية في بنية الامتناع من الناحية الشعورية والدينية والسياسية. ذلك أن كل شعوب العالم في الماضي والحاضر سوف يستمر لديها مبدأ الولاء والبراء، الذي يعيبه البعض على العقل العربي الإسلامي.
ينقلنا الامتناع من حال المقاومة إلى حال التوازن مع قوى العالم، إذ شأن المقاومة هو الصمود والاستماتة في الدفاع في حال الضعف. وهي بهذا المعنى ليست وضعا إيجابيا بالنسبة للأمم دائما. ذلك أن المطلوب من الدول والحضارات هو المبادرة والفعل والفاعلية، لا ردود الأفعال. أما الامتناع فهو بنية ذهنية شعورية، قبل أن يكون قرارا سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا.
إن كلمة المقاومة تكون جيدة في ظروف خاصة مثل التحرر من الاستعمار، ولا ينبغي أن توصف الشعوب بأنها مقاومة على الدوام، فتكون بذلك منقصة في حقها، إذ شأنها في هذه الحالة أن تكون مفعولا بها على الدوام أيضا. كما أن المقاومة العسكرية تناسب فئة معينة ممن يتصدرون لها، لكن الامتناع من شأنه تأطير سلوك عموم الناس العاديين.
دور الأزمات
وتلعب الأزمات والحروب دورا أساسيا في إحياء عدد من المفاهيم، بل إنتاج المفاهيم الجديدة أيضا، لا في العلاقات الدولية والحرب والسلم فقط، بل على مستوى الثقافة وقوانين الاجتماع البشري. وقد أحيت أحداث فلسطين، من بين ما تحييه كل يوم، مفهوم العدو المشترك من جديد، ذلك أن مفهوم العدو المشترك يكاد يختفي من الوعي العام، بسبب تحول هذا المفهوم في المنطقة إلى حالة حدودية بين عدد من دولها.
ويرجع إلى الامتناع كل الخصوصيات الثقافية للشعوب، واستقلالية قراراتها السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، قبل قراراتها العسكرية. إن ما يحدث في فلسطين يضرب مثالا على كل أنواع مبدأ الامتناع، والاستمرار بالحد الأدنى مما تمنحه الحياة وتسمح به الأوضاع.
* كاتب مغربي.