بقلم د. كمال القصير *
عندما يتعلّق الأمر بالدّين، فإنّ الحبّ والبغض أمران أساسيان، لكونهما يرتبطان بإدراك معنى الحق والباطل. وما يفرضه ذلك من مواقف الولاء والبراء.
أما حين يتعلق الأمر بالتاريخ، فإن الحبّ والكره ليسا نموذجين تفسيريين. إن المعيار الأخلاقي يشغل حيّزا كبيرا داخل الوعي الإسلامي، في تقييم أحداث التاريخ. وهو ما يحجب عنه فهم دينامياته الأخرى. لكنّ فهم أحداث التاريخ لا يخضع دائما لمعيار الحق والباطل، فربما يخلق هذا المعيار لدى الأجيال شعورًا، لكنه لا يخلق وعيا صحيحا.
مشكلة الخلط
الخلط بين الدين والتاريخ مشكلة أساسية، تواجه أي نموذج تفسيري في الوعي الإسلامي. ويقع هذا الخلط عندما ننتقد الدين بسبب أحداث معينة في التاريخ. وبإمكاننا أن نضع للدين تاريخا، ولكن لا يمكننا أن نجعل للتاريخ دينا. إن التعبّد بالتاريخ واحد من أزماتنا الكبيرة. أمّا الدين فهو يمثّل القيمة والمعيار، بينما لا يقدم التاريخ للوعي القيمة المرجعية التي يقدمها الدين. إننا نحاكم التاريخ إلى الدين، ولا نحاكم الدين إلى التاريخ.
التعبّد بالتاريخ مسألة شديدة الوضوح في مواقف الكثيرين، الذين يُلغون الفاصل بين التاريخ والدين. أو أولئك الذين لا يفهمون الدين إلا من خلال وقائع التاريخ، فهي وحدها كافية في نظرهم لتفسير طبيعة الدين. إن الباحث أثناء عملية بناء نموذج لتفسير الأحداث، لا يحتاج إلى أن يتقرّب إلى الله بموالاة طرف أو بغض طرف آخر. ولذلك رأينا الذهبي المؤرخ يقول عن يزيد بن معاوية، إنه ليس ممن يحبّه أو يسبّه. فهي مسألة لا تضيف فائدة في تقييم أي شخصية جدلية. وهذا معيار مهم ينبغي أن يشمل مجمل عملية بناء وعينا التاريخي.
فالمحبة والبغض موقفان ذاتيان شعوريان، وليسا نموذجين تفسيريين للتاريخ. إن المرور عبر أحداث الفتن والاضطرابات لفهم الدين من خلال نتائجها، وتفاصيل مواقف أطرافها، أمر بالغ الخطورة. ذلك أن ردود أفعال ومواقف أطراف الصراع في كل زمن، ليست كلّها جوهر الدين. كما أنها ليست هي القواعد التي ينبغي على أساسها وضع خرائط الحق والباطل.
معنى الفتنة
الدين هو موقف الخليفة عثمان عندما رفض إراقة الدماء، ومواجهة خصومه بالقوة. وفضّل الاستشهاد والتضحية بنفسه. الدين هو عندما عزم على من كانت له عليه طاعة ألا يقاتل المُهاجمين، فقد كان يعرف معنى الفتنة، وكان من أكفِّ الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه. وقال لمماليكه، أن من كفَّ يده فهو حرٌّ. ولما دُعي إلى قتال محاصريه، قال: لا أكون أول من خلف محمدًا في أمته بالسيف.
ولذلك انتبه ابن خلدون إلى هذا الفارق، حينما اعتبر في تفسير تلك الأحداث، أن الأمر كان في أوله خلافة. ووازع كل أحد فيها من نفسه هو الدين. وكانوا يُؤثرونه على أمور دنياهم، وإن أفضى إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة.
أما التاريخ فهو تعليق قميص عثمان في منبر دمشق، واستثمار نتائج تلك المصيبة في توسيع مكاسب السياسة والسلطان.
التاريخ هو عدم قتل قتلة عثمان، حين أصبح ذلك ممكنا، أما الدين فهو أخذ علي الحق من قتلة عبد الله بن خباب، حين قدر على مطالبة قتلته. التاريخ هو ترك الثأر لدم الخليفة عثمان، بل ومعاقبة أحد أبنائه في أيام يزيد بن معاوية. ذلك أن عمرو بن عثمان بن عفان لم يكن فيمن خرج من بني أمية، يوم الحرّة. وأنه أُتي به يومئذ إلى مسلم بن عقبة، قائد جيش يزيد لمحاربة أهل المدينة. فقال: يا أهل الشام، تعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان بن عفان أمير المؤمنين، هيه يا عمرو! إذا ظهر أهل المدينة قلت: أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فأمر به فنُتفت لحيته بين يديه، وكان ذا لحية كبيرة.
التاريخ هو ذلك القتال بين فريقين، اجتهد أحدهما في الثأر لدم عثمان. وفق منطق بعيد عن معنى وحدة الدولة وحفظ كيانها، والانضباط لقرارات سلطة الخليفة. فسبّب ذلك الاجتهاد انشقاقا صعب تداركه لاحقا. أمّا التاريخ فيمثّله أولئك الذين قفزوا فوق أسوار دار الخليفة، ليقتلوه من غير أخلاق.
الدين ومقصده الإنساني هو عندما رأى علي طلحة في واد ملقى، بعد معركة الجمل، ونزل عن دابته فمسح التراب عن وجهه وأجلسه، ومسح الغبار عن لحيته. وقال: عزيز علي أبا محمد بأن أراك مجدلا في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجري وبجري. ويشكو سرائره وأحزانه التي تموج في جوفه.
أمّا التاريخ فهو أن يقول أحدهم عن موت الحسن بن علي إنه جمرة أطفأها الله. وذلك حين وَفَد المقدام بن معدي كرب وعمرو بن الأسود، ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان. فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي، فرجع المقدام. فقال له رجل: أتراها مصيبة؟ قال له: ولم لا أراها مصيبة، وقد وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجره. فقال: هذا مني، وحسين من علي. فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله عز وجل. فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره.
قبول التحكيم
الدين هو قبول التحكيم لإصلاح ما بين الفريقين، ووقف القتال وحفظ الدماء والأموال والأعراض. فكان ذلك هو الأقرب إلى جوهر الدين ومقاصده الإنسانية.
أمّا التاريخ بنسبيته، فهو استثمار نتائج التحكيم، لقلب موازين القوى. بعد أن رفض الخوارج فكرة التحكيم، وشقّوا صفوف الخليفة. الدين كان في المكان الذي قُتل فيه عمّار بن ياسر، فهنالك عُرف مكان البغاة. والتاريخ كان في الجانب الآخر.
الدين هو حين قال رجل لعلي يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين، ينالان من عائشة. فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة. الدين هو عندما سألت عائشة عمن قُتل معها من المسلمين، ومن قُتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذُكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودَعَت له.
الدين هو حين بلغ عليًّا أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يشتمان معاوية، ويلعنان أهل الشام، فأرسل إليهما أن كُفَّا عمّا يبلغني عنكما. فأتياه، فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى ورب الكعبة المسدّنة. قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم. واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله. أمّا التاريخ فكان في الأماكن التي كان يُسب ويُشتم فيها علي وأهل البيت على المنابر ويُنال منهم.
الدين في موقف الحسن بن علي كان هو الصلح، الذي حرص على تحقيقه وإتمامه بين المسلمين، حماية لوحدة الجماعة. تلك كانت صورة جوهر الدين ورسالته، التي ينبغي اعتبارها نقطة مرجعية يقاس عليها.
أما التاريخ النسبي الذي لا يشكل مرجعية قيمية في تلك الواقعة، فهو عدم مضي الطرف الآخر بذلك الصلح إلى منتهاه، بتحقيق نتائج الوحدة الاجتماعية والسياسية، والعودة إلى شورى نظام الحكم.
الدين هو صورة التضحية الفردية واستشهاد الحسين بن علي، من أجل قضية رأى أن صلاح الأمة بها، فلم يستمع في تضحيته لكل الناصحين. أمّا التاريخ فهو الطريقة التي قُتل بها، التي لا تمت للأخلاق بصلة، ولا لقيم تقدير بيت النبوّة. وذلك بعدم السماح للحسين بأي مخرج سياسي، يحفظ لآل بيت النبوة مقامهم الشريف في الأمة، رغم أنه سألهم الرحيل، مع إصرارهم على كل تلك الإهانة. إن وعينا ملزم فقط بالدفاع عن الدين، لا بالدفاع عن التاريخ، بكل وجوهه وصوره.
* كاتب مغربي