مجتمعمجرد رأي

هل المغرب في حاجة إلى هذا “الجيش العرمرم” من “الدعاة” و”الشيوخ” ؟

منقول

هل المغرب في حاجة إلى هذا “الجيش
العرمرم” من “الدعاة” و”الشيوخ” الذي لا ينفك عن التوالد والتكاثر؟

بمعنى هل الوضع الديني والروحي بالبلد يعرف تقهقرا وتراجعا يبرر هذا الوضع أو هذه الحاجة؟

يخيل للملاحظ الأجنبي، وهو يرى هذا العدد المتصاعد ل “الدعاة” و”الشيوخ” وطبيعة خطابهم أن المغرب يعيش ارتدادا عن الدين، مما يستدعي هذا العدد الهائل من “المبشرين”.
يتصرف هؤلاء “الدعاة” ك “فاتحين” جدد لنشر الاسلام. حيث يصورون المجتمع والدولة كمارقين تخلوا عن الدين. لذلك لكي تستقيم “دعوتهم” تجدهم يستنكرون ما يصفونه ب “تعاظم المنكرات وانتشار الموبقات وتراجع الأخلاق وتخلي الناس عن القيم وابتعادهم عن “الاسلام الحقيقي””.
إن وجود أو مبرر وجود هؤلاء “الدعاة” هو ضرورة “تفسخ المجتمع وانتشار المعاصي وهيمنة العلمانيين”، عكس مبرر وجود الواعظ أو الفقيه.
هكذا لا يستقيم وجود أو ظهور “الدعاة” إلا ب “الاجتهاد” في تقديم وتنزيل تشخيص كارثي عن وضع الدين وحال التدين في البلد، وكلما كان هذا التشخيص مغرقا في السوداوية وادعاء انتشار المنكرات كلما كان مبرر الوجود والانتشار سريعا وناجحا في “سوق الدعوة” المنصوبة خيامها هذه.
لأنه لا يمكن تصور عمل “الدعاة” و”الشيوخ” بدون زعم وجود خطر داهم على الإسلام وتدين الناس.
لهذا السبب يتمنى (بالأحرى يختلق) “الدعاة” دائما صورة مغرب على شفا “الجاهلية” تغولت فيه العلمانية ومخططات الماسونية والنصارى وطغت فيه المرأة وضربته الزالزل والأمراض… إلخ، فلكي يعيش “الداعية” يجب أن يغرق المغرب في الرذيلة…
هل المغرب بهذه الصورة التي يقدمه بها إذن هؤلاء “الدعاة”؟ أكثر من ذلك هل نحن في حاجة إلى هذه “السوق” الجديدة؟. وهل نعيش فراغا هيكليا دينيا وخصاصا روحيا يستدعي “فتوحات” جديدة أو فاتحا جديد؟
حسم المغرب أمره من زمان عقديا ومؤسساتيا. حيث حصّن تدينه باختيار المذهب المالكي فقهيا، والأشعرية عقيدة، والتصوف على نهج الجنيد عبادات. مثلما ارتضى إمارة المؤمنين كجامع ولحمة لتدينه وضامن للإفتاء، بينما أرسى المجالس العلمية للتأطير الروحي.
على مستوى الاختيارات العقدية والتنظيم، المغرب لا يعرف فوضى مذهبية ولا دينية ولا طائفية، بالتالي ليست هناك حاجة للاعبين جدد مؤسساتيا، ولا لفاتحين دينيين جدد. بل ليست هناك حاجة لخلط أوراق الاختيارات الدينية واستيراد تدين جديد. الاختيار حسم منذ قرون وبتراكم وتدخل نخب علماء المغرب ومؤسساته، من داخل التجربة والتربة المغربية. المغرب لم يقتني تدينه من سوق التهريب ولا من “القطاعات الغير المهيكلة”.
مهنة “الداعية” تشبه مهنة المهرب، كلاهما “يشتغل” خارج السوق النظامية. وكلاهما يقدم السوق النظامية كمجال فاسد أو ناقص أو منعدم الجودة.. طبعا كلاهما يتسوق سلعه من خارج السوق النظامية..
أمام كل هذا يحتاج “الداعية” دائما إلى استيراد خطابه من خارج “التدين الرسمي”، ويقدم هذا الأخير كناقص أو متقاعس أو متواطئ. التهريب هو البوابة والمدخل.
ابتداء من الروض ومرورا بالتعليم الابتدائي تم الإعدادي يتعلم الطفل المغربي، إضافة إلى دور الأسرة أساسيات الإسلام المغربي. فالأسرة ثم المدرسة هي مواطن التنشئة الروحية الأولى.
حتى عندما كانت تغيب إمكانيات الدولة في البوادي، ابتدع المغاربة نظاما فريدا خاصا بهم: “المشارطة” مع الفقيه لتعليم الأطفال، إضافة إلى تقاليد المغاربة في الاحتفال بصيام الطفل وختم القرآن.
يتوفر المغرب على 12 مجلسا علميا محليا و12 مندوبية لوزارة الأوقاف تغطي كافة الجهات، يشرفان على مختلف أشكال التأطير الروحي والديني. فيما يبلغ عدد القيمين الدينيين بالمغرب 50 ألف قيم (مؤذنون وأئمة وخطباء) يشرفون على أزيد من 42 ألف مسجد. ويتولى “معهد محمد السادس لتكوين الأئمة” تخريج 150 إماما مرشدا و100 مرشدة كل سنة، بلغ عددهم 4075 مند إحداث المعهد سنة 2015.
ولسد الحاجة للراغبين في التعمق أكثر في الجوانب الدينية يحتضن 11 مسجدا، موزعين على كافة الجهات، كراسي علمية، تقدم دروسا في أصول الفقه والعقيدة والدين والتفسير والحديث والتجويد واللغة العربية. يضاف إلى كل هذا قناة إذاعية وقناة تلفزيونية مخصصتان للشأن الديني..
هذا هو المجهود والإطار البشري الذي تقدمه مؤسسات البلد للنهوض بالتأطير الروحي والديني. لا يمكن أن يجادل أحد في كفاية هذه الترسانة من المؤسسات والموارد البشرية لسد الحاجة في التأطير الروحي.
أمام هذا العرض الديني للبلد، ما هو العرض الذي يقترحه هؤلاء “الدعاة”؟ وهل تتوفر فيهم الكفاءة والتكوين والعلم؟
هل يجوز أن تكون الدعوة في بلد مسلم ووسط مجتمع مسلم؟ هذا يسمى “تبشيرا جديدا”. ويحق التساؤل هل يقدم “الدعاة” عرضا دينيا جديدا؟ أم هل هي دعوة لمذهب آخر؟
كيف يهدف “الدعاة” إلى وعظ الناس وهم لا يمتلكون علم الفقهاء ولا تكوين الوعاظ والمرشدين، ولا يملكون سماحة وآداب وعفة لسان الوعاظ والمرشدين الدينيين. ذلك أن طريقة عمل وخطاب الوعاظ والمرشدين شيء وخطاب وأسلوب “الدعاة” شيء آخر.
إن الواعظ والمرشد يشرح ويعلم ويُفقِّهُ الناس، يُجوِّدُ معلوماتهم. بينما “الداعية” يهاجم ويخاصم ويستعدي الناس ضد بعضهم أو طائفة وجنس منهم. الواعظ مصلح و”الداعية” انقلابي. الواعظ متفقه وعارف بالدين، “الداعية” كلامجي. الواعظ يهدئ القلوب و “الداعية” يهيج التفوس..”الداعية” يشوش على الواعظ ويزرع الخلط والشك.. يثير الفتنة في الدين..
لا تخرج أسباب انتشار “الدعاة” عن أمرين اثنين لا ثالث لهما، كما بينت ذلك تجارب التاريخ القريب والبعيد. فهم إما طلاب سلطة أو طلاب جاه.
هم طلاب سلطة لأن “الدعوة السياسية” تبدأ أولا بنفي التشبث والدفاع عن “الإسلام الحق” عن المجتمع أو السلطة القائمة. ولعل اللازمة الشهيرة من قبلهم هي:
“كثرت الذنوب والمعاصي وارتكبت الموبقات ألوانا وأشكالا، وغلب عليهم الجهل والضلالات والبدع وترك شعائر الاسلام وانصراف العلماء إلى الملذات وإرضاء الملوك..”.
ظلت تتردد هذه اللازمة لقرون بين صفوف كل “دعوة دينية” تستهدف “سلطة سياسية” طيلة التاريخ الإسلامي. وهذه اللازمة لم تتغير إلى اليوم، حيث ظلت هي البرنامج الانتخابي لكافة “الدعاة” الباحثين عن سلطة أو المكلفين بمهام المناولة sous-traitance لصالح الطامحين للسلطة، وفي بعض الأحيان حاشدين للدعم لصالح “تدين خارجي”.
هم طلاب جاه لأن النماذج والتجارب علمتنا أن الكثير من “المشتغلين” بالدعوة أصبحوا أثرياء، وأن عائدات مهنة “الداعية” لا يمكن تخيلها. فهي تجلب الحضوة والمال وهي “معفاة” من الضريبة والرسوم ولا تتطلب مصاريف ولا أعباء.
فرخ “بزنس الدعوة” عدة نجوم، ثرواتهم سارت بذكرها الركبان. ولا يخفى على أحد أن مهنة “الداعية” و”الراقي” أصبحت تستقطب كل من لا مهنة له. أضحت وسيلة للتكسب والترقي الطبقي ونيل الحظوة الاجتماعية.
لذلك طور “الدعاة” من أساليب عملهم، مثلما استأنسوا بالتكنولوجيا واقتحموا مجالات ومواضيع جديدة..
يمكن إجراء مقارنةً بسيطة بين مستوى عيش القيمين الدينيين لوزارة الأوقاف ومستوى عيش “الدعاة” فالفرق شاسع بين البروليتاريا ورجال الأعمال. لذلك يبتعد “الدعاة” عن الانخراط في مجهود وزارة الأوقاف لأن سوق “التهريب الديني” مربحة جدا..
رأسمال “الداعية” لا يتطلب معرفة ولا مصاريف، فقط “قفطان” أو لباس على الطريقة الأفغانية (جاكيط فوق فوقية وحذاء رياضي) والكثير من سلاطة اللسان و”الجبهة” ثم ترديد ال “كاسيط” المعروفة: العلمانيين، الموسيقى حرام، القناة الثانية والميوعة، المرأة والطلاق، المرأة الموظفة، الماسونية، كثرة المعاصي، الحريات، هل ترضى ذلك لأمك وأختك، ثم المرأة والمرأة، مخطط إبعاد الناس عن الاسلام، أصبح النصارى يدخلون في الاسلام والمغاربة يخرجون منه.. وعليك ألا تفلت أي واقعة أو حدث لتحويله إلى مؤشر ل “الخطر الذي يتهدد الإسلام بالمغرب” من قبيل: مباراة المنتخب النسوي، أفلام القناة الثانية، زيارة فينسيوس لمراكش، صديقة أشرف حكيمي، 8 مارس، أعياد الميلاد، عيد المولد النبوي ويجب أن يكون إسم أحمد عصيد حاضرا باستمرار.. ويجب أن تصرخ باستمرار وتبكي أحيانا..
سيطرح السؤال التالي: لماذا هناك اقبال عليهم؟ الجواب هو أن سلع التهريب تكون دائما محط إعجاب وإقبال، وهناك دائما زبائن للسلع الصينية..
خلال العشر سنوات الأخيرة هل غادر المغاربة دينهم أو ارتدوا عليه؟ هل تفسخ المجتمع وانحل وعمت الرذيلة وعم البلاء، كما بشرنا بذلك هؤلاء “الدعاة”، هل أصبحنا ماسونيين؟ هل فرطنا في أسرنا؟ هل أصبحنا أبناء شوارع؟
لا شيء وقع من ذلك، مازلنا مغاربة ومسلمين.. فقط تنامت ثروات “الدعاة” وازداد فقر المغاربة واستمر نهب المال العام، وهي مواضيع لا يجرؤ “الدعاة” على الخوض فيها ولا يقربونها أبدا. لأنهم لا يريدون أن يسقطوا في فخ “غرارين عايشة” بل يتقنون معرفة من أين تؤكل “كتف الدين”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى