بقلم الدكتور عبد الله صدقي
جماعة الدعوة والتبليغ ـــــ جماعة الشبيبة الإسلامية ـــــ جماعة العدل والإحسان
لم تكنْ الجماعات الدينية الكثيرة، التي ظهرت في هذه الحقبة من تاريخ المغرب سوى شَكْلٍ من أشكال المؤسسات التاريخية، انْبَثَقت أغلبها من الزَّوايا، التي أدت دَوْرُها التاريخي الكبير بَعْدَ انْتِهاءِ الاستِعمارِ، وَظُهور مدارس وجامعات وطنيَّةٍ للتعليم … نتناول أهم هذه الجماعات، من دون الدخول في التفاصيل:
- جماعة الدعوة والتبليغ
اتسعت مساحات جماعةُ “رجالِ التَّبليغ” أَوَّل المدارسِ الجديدةِ التي حاولتْ تَجديدَ أمْر هذا الدِّينِ، ونَفْضِ غُبارِ الْبِدْعَةِ والانحِرافِ الْعقدي، وهي مدرسة تَمْلِكُ امْتدادًا عالميًا واسعًا. تَعودُ لمؤسِّسِها السيد “محمد إلْياس الكاندهلوي” الهندي (1944–1885 )منذ زمن بعيد 1926م.
بذلك لَعِبَتْ جماعةُ التّبْليغِ دَوْرًا فريدًا في جَعلِ الْفرْدِ يَخُوضُ الْـمُصاحَبَةَ والسَّفَرَ، حتى يَتَمكَّنَ مِن اكْتِسابِ تَربيةٍ سُلُوكيةٍ، مُتواصِلةٍ عبر المصاحبة، والْعيشِ الاجتماعي اليومي، تَرْبِطُهُ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ، انْطِلاقًا مِنَ الْحِفاظِ على الصَّلاةِ في المسجدِ ومُـــــــــــــــمارسَةِ الأذْكارِ النَّبَويَّةِ بِحُرِّيَّةٍ تامَّةٍ، مما يُؤهِّلُ الفرد لكيْ يَصيرَ فَردًا اجْتماعيا صالحًا، يَحْمِلُ هَمَّ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ ونَشْرِها، ولو بحديثٍ واحِدٍ… وهذا لا يَعْنِي أَنَّ جَماعَةَ التَّبْليغَ لا تُؤمنُ بالسِّياسةِ، وإنَّما تَتْرُكُها لِحُرِّيَةِ الأفْرادِ في انْخراطِهِمْ ضِمنَ أَحزابٍ بِحُرِّيَتِهم الخاصّةِ، من دونَ إقْحَامِهَا في اهْتماماتِ الجماعةِ، مما جعلَ أعضاءَها الْـمُنْتَمينَ يَنْحَدِرون مِنْ كُلِّ طبقاتِ المُجْتَمعِ ومختلفِ مؤسساتِهِ…
- جماعة الشبيبة الإسلاميةُ
هناك أيضا ظهرت جماعة الشبيبة الإسلاميةُ، وهي مِنَ الْحركاتِ المُتميِّزةِ مِنَ الجمعياتِ الدِّينيةِ، أَسَّسَها عبدُ الكريم مُطيع أواخرَ الستينياتِ، ومطلعِ سّبعينيات القرن الماضي، بَعْد عَوْدَتِهِ مِنْ فَريضةِ الْحجِّ. أَذْكَتْ حركةُ الشَّبيبة الإسلاميةِ الْجديدة في المغربِ شُعْلَةَ انْطلاقِ الشَّبابِ نَحوَ الْتِزامٍ نَوْعِيٍّ للإسلامِ، بِوَعْيٍ جديدٍ على مُسْتَوى الرؤْيَةِ، ومُستوى الْعقيدةِ، والفكرِ والسُّلوكِ، وقَدْ عَرَفَتْ تَقَدُّمًا مَلْحُوظا، وتَمَيُّزًا رائعًا في إعادَةِ الثِّقَةِ لَدَى الشبابِ، أملا في أن يَروْا الإسلامَ دينًا للحياةِ بأسرها، وليسَ دينَ أَقْبِيَةٍ أو تطرفٍ وإقصاء.
غير أَنَّ هناك من كان أخذ يفتري عليها، وينسبها إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، اعتمادا على المراجع والكتب التي تعتمدها وتنهل منها، وهي كتب تركها كتاب الإخوان المسلمين، من أمثال كتب سيد قطب وحسن البنا وغيره، وكانت من نتائج ذلك أن سعتْ أَيادِي خَفِيَةً داخِلَ الْحُكومةِ في منتصف السَّبعينات، اسْتَطاعَتْ بِنُفوذِها الْقَوِيِّ أَنْ تُوقِعَ بيْنَ حركةِ الشبيبةِ الإسلاميةِ وحِزْبِ الاتحادِ الاشْتراكي… مَهَّدَتْ لِتَصْفِيَّةِ الْحِسابِ مَع أَحَدِ رُوّادِ النِّقابَةِ وحِزبِ الاتحادِ الاشتراكي الشَّهيد والزعيم السياسي عُمَر بن جلون أوَّلًا، وحَلّ حَرَكَةِ الشَّبيبَةِ الإسْلاميةِ ثانِيا، وهُوَ خَطأٌ تِكْتِيكِيٌّ ارتكبه المؤسس عبد الكريم مطيع، ولَمْ يَضْرِبْ لَهُ حِسابًا ضمن تَقْديراتِهِ.
قدْ نَرُدُّ السبَبَ في ذلك إلى قِلَّةِ تَجْرِبَةِ هذا الرَّجُل في مَجالِ تَسْييرِ الجماعةِ الدَّعوية الإسْلاميةِ، وتأَثُّرِه الماضِي بِنَعَراتِ النِّقابَةِ التي كان عُضْوًا سابِقًا مِنْ أَعضائِها في المغربِ، الأمرُ الذي جَعَلَهُ يَخْلِطُ بين الْعَمَلِ الدَّعَوي، وبين الْعملِ السيّاسي الْحِزْبي الذي كانَ يُؤْمِنُ آنَذاكَ بِالتَّصْفِيةِ الْجَسَدِيةِ لِلْمُعارضِينَ والْـمُناوِئِينَ.
بَعد ذلك سَيُواصِلُ بَعْضُ أَفْرادِ الْجماعَةِ عَمَلَهُمْ الْحَرَكيَّ الدَّعَوِيَّ تحتَ لِواءِ جَمْعِياتٍ صَغيرةٍ… لِتَظْهَرَ جماعَةُ “ِالإصلاحِ والتَّجْديد”، ثم الوحدة الاندماجية بين كل من حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، لتؤسس أخيـرًا جماعة حركة التوحيد والإصلاح، التي اسْتفادَتْ مِنَ الأخْطاءِ الماضِيةِ إلى حَدٍّ بَعيدٍ، وبَرَزَتْ على شَكْلِ تيارٍ، أَو مَدْرسَةٍ تَتَّسِمُ بالْــمُرُونَةِ والحيطة، وتَرْبِطُ بينَ الْعِباداتِ، والاهتمامِ الضِّمْنِي بالْحياةِ السِّياسية والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ الْيَوميةِ، قَصْدَ الانخراط والْـمُساهمَة في تَطويرِ المجتمعِ المغربيِّ، انْطلاقًا مِنَ المرجعيةِ الأصيلةِ، والاِنْفتاحِ على المستجدَّاتِ المجتمعية الْعِلْمِية والمعرفيةِ والثقافيةِ، مُتَفادِيةً السقوط في أَيِّ فخٍّ قَدْ يَعْصِفُ بِرِيحِها.
ورغبة في أن تُبعد الجماعة عن نفسها أي اتهام مغلوط، يهدف بعض المغرضِين إلى إلحاقه بها، وإيمانًا بمكانة العمل السياسي وأهميته، سمحت لكل من كانت لديه رغبةٌ في مزاولة العمل السياسي الوطني، بأَنْ يلتحق بحزب الْـمُقاوِم الدكتور الخطيب، حتـى يفصل الناس بين المجال الدعوي والمجال السياسي، ويحترم كل عضو المجال الذي يشتغل فيه، بعيدا عن الخلط بين العملين، سواء كان ينتمي إلى الجماعة، أو إلى الحزب، أو إليهما معًا. فالجماعة لها استقلاليتها الخاصة وطريقتها وأسلوبها الخاص بها، كذلك الحزب له توجهاته الخاصة وأسلوبه الخاص.
ورَغمَ الْـمُعارضةِ الشَّرسَةِ التي أَبْدَتْها أغلبُ الأحزابُ الْـمغربيةُ ضِدَّ هذا الحزبِ الجديد، لِكَوْنِ جُلِّ أعضائِهِ قدِمُوا مِنْ جماعةٍ دعويةٍ دينيةٍ، حتى يُمارسوا حقهم في العَمل السياسي إلى جانب الأحزاب، فقد نال هذا الحزب حظوة لدى ملك المغرب محمد السادس، وذلك لأسباب عدَّة، منها أن الأعضاء انضووا تحت حزب الدكتور الخطيب، الذي كان رئيسا لجيش التحرير، ثم أنَّ هذا الحزب ليسَ سوى وَليدٍ شَرْعِيٍّ، كَكلِّ الأحزابِ الوطنيةِ الْــمَغربيةِ، أَنْجَبَتْهُ الساحةُ السياسيةُ والْحزْبِيةُ بِشكلٍ مِنَ الأشكالِ، إذْ أَغْلَبُ آباءِ أعضائِهِ كانُوا وَطنِيِّينَ ومُقاومينَ، بلْ مُنْتمينَ إمَّا إلى حِزبِ الاسْتقلالِ، أو إلى حزبِ الاتحاد الاشْتراكي، فإنْ كان ضَعيفًا، فهو وَجْهٌ مِنْ وجوهِنا الحزبيةِ نحن المغاربة، وإنْ كانت فيهِ قيمةٌ مضافةٌ مَا، فهي أَيْضا إحْدَى صورِنا في المرآةِ.
فهو إذن واحدٌ منَ الأحزاب المغربية، التي لا يُمثِّل سوى فكْرِ مجموعةٍ اجتماعيةٍ بالمفهوم السّوسْيُولوجي، ولا يُمكنُ إلْغاؤُهُ ما دامَ لا يُمَثِّلُ سوى رؤيةِ هذه الطبقة الاجتماعية، داخل النسيجِ السياسي المغربي. فالحزب وبِكُلّ حيادٍ مَوْضوعي، لَمْ يَسْقُطْ مِنَ السّماءِ، وإنَّمَا تَرَعْرَعَ أَفرادُهُ بينَ أَظْهُرِ السّياسةِ المغربية، واستمدَّ فِعْلُهُ السياسي مِنَ القاموس السياسي، والحزبي المغربي طَوالَ هذه الْعُقودِ… وتَقاطعتْ (إيديولوجيته) مع (إيديولوجيةِ) الأحزاب السّابِقة.
أَمَّا أنْ نُحاربَهُ ونَبْخَسَ سَعْيَهُ، لِكونِهِ عَمِلَ على تَطْويعِ بعضِ المفاهيمِ الدِّينيةِ في فِعْلهِ السّياسي، وخِطابِه (الإيديولوجي)، وتوظيفها عند الانتخابات، في الْوقت الذي لَمْ تُجاوزْ هذه المفاهيم الدينيةُ لَدَيْهِمْ في الواقِعِ نَمطَ التَّفاعلِ مع الأخلاقيات الدِّينيةِ، ورَبْطِها بسلوكِ الْفردِ الْحِزبي فقط، ولَمْ تَتَعَدَّها إلى بَلْورةِ الفـــــــــــــــعلِ السيـــــــــــــــــاسي والسَّــــــــعيِ النَّهضوي بالْـمَشــــــــــروع الحضــــــــــــاري الْـمُسْتقبلي، الذي ظَلَّ غائبًا صَعْبَ الْـمَنال في العقلِ المغربي عموما. وذلك انطلاقًا من المردوديةِ الحكوميةِ التي لمْ ترقَ أَبدًا إلى الاستجابةِ الحقيقية إلى طموحات الشعبِ وانتظاراتهم… فهو أَمرٌ نَراهُ يَتنافى والدُّستورَ الذي جعلَ الدينَ الإسلاميَّ دينًا رسْميًّا للدولة المغربيةِ.
إضافة إلى أَنَّ جميعَ الأحزابِ المغربيةِ من دونَ استِثْناءٍ، تغترف من هذه المرجعية الدينية، يسارها ويَمينها، وذلكَ حتى لا تكونَ خارج الدّستورِ الْـمَغربيِّ، الذي شُكِّلَتْ كثير من بنودِهِ وأحكامه من النصوص الدينيةِ، خاصة الأحوال الشخصية منها وغيرها، فالاختلافُ والتنوع بين هذه الأحزاب إذنْ، لا يُوجدُ إلَّا في الطَّريقةِ التي تَمَّ بِها تَطْويعُ أَيِّ حِزبٍ للـمَفاهيمِ والأحْكامِ الدينية في المجال السياسي فقط، وقد نَجْزِمُ أنَّ هذا التباعد في استخدام الدين بين هذه الأحزاب لا يمثلُ تباعدًا شاسعًا أو متناقضًا…إضافة إلى أن جل أعضاء هذا الحزب هم أعضاء ذات مستوى تعلمي عالٍ، منهم الدكاترة والمهندسون والأطر العليا… أليس هؤلاء الشباب الأطر الجدد أبناء المغاربة.
إنّنَا لا نَرى نَصْبَ بَعضِ الأحزابِ الْعداء لهذا الْحزْب سوى تناقضٍ صارخٍ، يَمُسُّ بِمِصْداقيةِ العملِ السِّياسِيِّ والْحِزبيِّ في هذا الْـوطن العزيز، وقَدْ يَعِصِفُ بِكُلِّ المُكْتَسَباتِ السِّياسِيَةِ التي عَمِلَتْ عليها كُلُّ الْقُوى الدِّيمقراطيةِ المغربيةِ، مِنْ أَحْزابٍ ونِقاباتٍ وجَمْعياتٍ وجماعاتٍ وغيرِها.
نَعَمْ لِلْمُنافَسَةِ الشَّرِيفَةِ الْبَنَّاءَةِ بَيْنَ كُلِّ الرُّمُوزِ الْحِزْبِيةِ الوطنية، نَعَمْ لِلتَّفاعُلِ بين الْفاعِلينِ السِّياسِيِينَ الذين يَحتَرِمُونَ الاِخْتِلافَ ويُثَمِّنُونَ الإنْجازاتِ، ويُعارضُون الْـمُعارَضَةَ الْحَقيقية مِنْ غَيْرِ مُزايَدَاتٍ، لِأَنَّ هذه الطُّفَيْلِياتِ في الْعَملِ السِّياسي لَنْ تُحَقِّقَ إلَّا الزَّجَّ بعَقْلِ الفاعل السِّياسي المغربيِّ في خنادقِ الصِّراعِ الْوَهْمِيِّ، والتَّقَوْقُع داخلَ دائرةِ التَّخلُّفِ والْجُمودِ.
يبقَى الْعامِلُ الْـمُغِيثُ لحالِنا نحن المغاربة “تَقبُّل الآخَر” واحترام (أيديولوجيته)، وإعطاؤه فُرصةً… حتى نَرى ماذا يُمْكِنُ أَنْ يُقدِّمَهُ لهذا الْوطَنِ الْعزيزِ، ولهذا الشعب المسكين الذي طال انتظاره عقودًا بعد عقودٍ. فتاريخُنا نحن المغاربة ما يزال يُسَجلُ كُلَّ أَشكالِ التَّهَوُّرِ والانْفِعالاتِ التي ارْتَكبَها السِّياسيون لإقصاءِ بَعْضِ الأحْزابِ أو الأعضاء من الخريطة السياسية الحزبية، وتصفية بعضهم اغتيالا قديما أو تهميشًا حديثا بلا جَدْوى…
- جَماعَةُ الْعَدْلِ والإحْسانِ
كَذلك ظَهَرَتْ جَماعَةُ الْعَدْلِ والإحْسانِ بِثَوْبٍ جَديدٍ ومُخالِفٍ. أَسَّسَها صاحبُها الشَّيخُ عبد السلام ياسين، المنحدر من الزاوية البودشيشية معتمدا على بَعْضِ ما تَبَقَّى مِنْ أفرادِ جماعةِ الشَّبِيبَة الإسْلامِيةِ، الذين لمْ يلْتَحِقوا بالجماعاتِ الأخرى.
يُعْتَبـرُ الشيخ عبد السلام ياسين مِنْ الْـمُوَجِّهينَ التَّرْبَوِيِّين البارزين في تاريخِ الْحركةِ الإسلاميةِ في المغربِ، اسْتطاعَ بفضل سعة صَدره، وصــبره، وتجربته الطويلة، وحنكته المتميـزة، ووعيه، وعلمه الغزير، وأخلاقه العالية، أن يرتاد بقيادة الشباب، نحو نمذجة دعوية مغايرة، رحمةُ اللهِ عليه…
لقد وضَعَ بذلك خُطاطَةً، مِنْ خِلالَ ما دَعاهُ بالْـمِنهاجِ والصُّحبةِ الرَّاشِدةِ، التي تُعَدُّ في نَظرِنا أَوَّلَ استراتيجية مُتَمَيّزَةٍ للعمل الدَّعَوِي في المغرب، عَبْرَ إصْداراتِهِ التي تَحْمِلُ تَصَوُّرَهُ ورؤيته، سواء بالعربية أو الفرنسية، شكلت كلها مقاربَة لِطريقة، تُمَكِّنُ تلاميذَه مِنْ مُمارسةِ وتطبيقِ الأحاديث النَّبويةِ، ومُزاولةِ الْعبادةِ الإسلاميةِ، التي اكْتَنَفَها ضَبابُ المدنيةِ الغربيةِ الْـــمُتَوَحِّشَةِ مثلما يرى الشيخ.
استطاع بذلك أَتباعُهُ أَنْ يَجِدُوا ضالَّتَهمْ، لِلتَّقرُّبِ مِنْ مَنْبَعِ الدِّينِ الحنيفِ، وَيَغترفوا مِنْهُ أَحْكامَ الدِّينِ، وتَوْجيهاتِ الرَّسولِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ. إذ لا يَسْتَطيعُ أَحدٌ أنْ يَتَجاهَلَ مَدَى النّجاحِ الْعظيمِ الذي توّج المُستَوى التربوي والأخلاقي في المعاملةِ لَدَى كُلِّ أتْباعِهِ، وهي مَزِيّةٌ تُحْسَبُ لهذه الْجماعةِ.
لقد ساق الشيخ الجليل بعضَ كتاباتِهِ، يُناوِشُ فيها بَعْضَ الأفكار السياسةِ، أَوْ بعضَ صُورِ الْفكرِ الْعَصري، منْ خلالِ تَصوُّرِهِ وانْتِقاداتِهِ اللَّاذِعَةِ، حَيثُ كَتَبَ كُتُبًا على شاكِلَةِ كتابِهِ “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين” يُحاوِرُ فيهِ رجَالَ السياسةِ، مُنْتَقِدًا تَصوراتٍ يراها أَخْطأَتْ فَهْمَ الدِّيمُقْراطيةِ… ويبقى الشيخُ عبدُ السَّلام ياسين مِنْ أَكبرِ المُنَظِّرين للحركة الإسلاميةِ، الذين قَلَّ نَظيرُهُمْ في تاريخ الْحركاتِ الإسلاميةِ العالميةِ.
كما يَظَلُّ رحمةُ الله عليه داعيةً، ومُوَجِّها تَربَوِيا ومُرشدًا بامتياز، دَخلَ سجل التاريخ المغربي من أوسع أبوابه، رغم تَعرُّضِهِ للْمُضايقاتِ بسبب أفكارِهِ، وصَراحتِهِ ووضوحِهِ وجُرْأَتِهِ التي قلَّ مثيلُها. فكان أن أدَّى على ذلك ثمنَا غاليًا، إذ جَعلتْهُ مواقِفُهُ هذه يَزورُ السِّجنَ مَراتٍ ومراتٍ… وتُفْرَضُ عَلَيْه الإقامةُ الْجَبْريةِ في مَنْزِلِهِ غيْر ما مرَّةٍ.
ورغمَ التَّشابُهِ الْكثيفِ الذي يَكْتَنِفُ مَرجعياتِ هذه الجماعاتِ، فَقدْ تَمَيَّزتْ كُلُّ واحدةٍ مِنها بِمَنْهجٍ مُخالِفٍ وبِقِيمةٍ مُضافَةٍ، مَثَّلتْ مَكْسَبًا للْمُجتَمعِ المغربي بِامْتِيازٍ في محاولةِ المساهمة في تأسيسِ رؤيةٍ للمشروع الإسلامي الحضاري، إلى جانب ما تقدمه المؤسسات الحكومية، انْطلاقًا منْ بِناء الذاتِ، وربْطِها بالمنبعِ الديني الإسلامي، على الرغم مما كان يَشُوبُ نشاط هذه الجماعات أحْيانًا، مِنَ الشطط في تَصَرُّفاتِ بَعْضِ أَفْرادِها، وَالاندفاع الْحَماسِي، والْعَصَبِيَّةِ الجماعيةِ، وآفة الْجَهلِ والأُمِّيةِ، أو ما كانَتْ تُواجَهُ بِهِ مِنْ سلوكِ وتَهَوُّرِ السُّلُطاتِ المغربيةِ، بسبب الْهاجسِ الأمْنِيِّ، ومُتابَعَةِ أَفْرادِ هذه الْجماعةِ، بالاتهام والْـمُضايَقاتِ الْـمُتَّسِمَةِ بِالْعُنْفِ، والْجَهلِ، واللامسوؤليةِ، بدلًا من الحوار والاسْتماعِ إلى كلِّ طَرَفٍ على حِدةٍ، واحتضانِهِم، والاقترابِ منهم عن طريق الأطرِ الْــمُتمكِّنة من الفقهاء، والعلماء، والْــمُفكرين، بالِّلين والتواصلِ، وكم هُمْ كُثر في وطننا العزيز، الذي يزخر برجالات العلم والفقه والعلوم الأخرى…
مَعَ كُلِّ ذلك تَبْقَى هذه الجمعيات أو المجموعات في نَظري تَوْجيهيةً وإرشادِيةً بِامْتيازٍ، تمكنتْ من أن تلعبَ دَوْرًا كبيرًا في تنوير الْخِطاب الدِّيني التربوي، وجَعْلِهِ لا يَنْفَكُّ عَنْ بِنْيَةِ الْخصوصياتِ الْـمُمَيِّزَةِ لِلْعَقْلِيَةِ المغربِيةِ…
وكَمْ هو جميل لو كان الْحوارُ والْحُبُّ الْحقيقيُّ وروحُ التَّعاونِ والتَّآزُرِ يسود بين كلِّ هذه الجماعاتِ والأحزاب، التي نعتبرها مدارسَ مرحليّة، من دون أن تَنْحى مَنحى تُصْبِح فيه كُلُّ جماعةٍ، أو حزب دَوْلَةً صغيرَةً داخل الدَّوْلَةِ المغربية، أو تَنْهَج نَهْج الانغلاق والعصبية، والاستِعلاءِ والغُرورِ وإقصاء الآخر… ذلك في انتظارِ أنْ يُؤمِنَ الفكرُ المغربي بوُجوبِ حُلولِ، وإزالة كلِّ أشكالِ الدُّوَيْلاتِ الصُّغرى الْـمُتَطَفِّلَةِ داخل الدولة الكبيرة، وبناء أحزابٍ داخل مؤسساتِ الديمقراطيةِ، تحتـرمُ العملَ السياسي، وتتحملُ مسؤولياتِ النَّهضَةِ عبـر بناءِ مشروع حداثي، يثق فيه أبناؤنا بجدوى مؤسساتِهِ…