وادي زم : الدشر.. حائط حمو : همسات دافئة لأماكن منسية.
محمد صمري أبو ريحانة*
الدشر (حايط حمو) يتبرج بظلال مذعورة ،يستقرئ ماضيه الحزين وبركاته الفارغة يراقب همس الغسق، ويدثر وجهه في رداء الصمت بعد أن سقط ملاطه الطيني ، هو موئل راحة وصدرحنان يبادل المدينة صمتها العاري المتعب والراعف في تجاويف التاريخ ،وانجراحاتها المستباحة وينتهكه بنحيب مهادن ،يتحدث بحنين دافق عن ماض حزين يتسرب من أصابع قدميه وقلبه ويهدهد آساها وألمها، له جاذبية سرية تقننعت باللبلاب والفطر الأخضر والقواقع ، هنا عرشت و أزهرت وصوحت قبائل في زنازن القتل السفه،
ُرُصعت جنباته وأعتابه بقطع من قراعي (الروج) وقنينات الكحول والكؤوس المكسرة…حائط متهرئ يجاور ظله السجي الصموت ،يلهج بكلمات عذاب مغموسة في محابر التاريخ،
حائط يعتصر الدموع والغيوم، حافل بالرغاب ،يرقب
همس الزمان ،طاهر كالباتول، يفتح في الذاكرة
مداخن الجرح ويقيم صلاة الغائب على أرواح
ماتت في العراء لم يهل أحد عليهم التراب ،
فاستباحت ولائما للكواسر والكلاب،حائط يلثم
جراح المسافات الناشفة من نسغ التاريخ،
يخبئ دموعه في ترابه وماتبقى من حجارته، تحت قيض متوهج ؛
سكارى بوجوه ممتقعة يعتريهم غثيان لاذع يقلص تفاحة ادم في حناجرهم ويفقدها ريقها، يحاول بعضهم شد
الأرض عبثا،ينامون على عتبات هذا الحائط
المتداعي بعيدا عن كل اشتباكات المدينة ومحافل بؤسها في كل شوارعها وتوارعها،
يرقصون رقصات بدائية كأنها طقوس بعيون نصف نائمة عليها لزوجة ذبقة تكاد تطبقها فيقاومونها بفركها ،كل الايام هنا خريفية منزلقة مقفرة فاحمة،ناشزة، جريحة، قدور المجنون العاشق الصلب الذي لم ينس حبيبته المسروقة يردد اسمها بصوت وحشي منثنيا على ركبتيه.
على جدوع اشجار زيتون مجتثة امام خراب الحائط تحت أشعة فاترة، يسحل جسده محاذاة الحائط وقد تسرب إلى قلبه إيمان عجيب، تنثال دموعه ساخنة تغرق وجهه وتختلط بمخاطه الساخن،يضرب صدره بكفيه ويلطم صدغيه كثيرا ،يهدأ ويتأوه عميقا ثم يتمدد شاخصا بعينيه في الفراغ الواسع يواسيه سكارى بجفون يابسة لاتكاد تنطبق.
بعضهم يتقيأ ،آخرون يتغوطون لتتسع خرازيهم لعواء الريح، غير بعيد سكارى تندت عيونهم بالدمع مستندين إلى حائط حمو بوداعة حول قنينات ماء الحياة ،طعامهم مرق زنخ أو علب سردين رخيص وهريسة ومكسرات،غارقون في ثرثرة حامية، تتشتت ضحكاتهم في الفضاء الرحب ،شعاع شمس دافئ يلامس أرض المكان ، تطويه الظلال بحياء. بعضهم نائمون بقمصان مفتوحة وقد بلل العرق ملابسهم ، يتدثرون
بقطع عريضة من الكارطون ويفترشون قليلا من الأكياس البلاستيكية تحفهم رائحة البول و البراز الكثيفة.غير عابئين بالزواحف التي تزحف وئيدة ناحيتهم ،تنساب بميوعة برؤوس مطبطبة تتربص بالفراخ المتعثرة…..
قطعان من الماشيةانسربت من زرائبها وامتلكت زمام رعيها بنفسها طول النهار تحرسها عين الله،
أسراب من الطيور لاتطول وقفتها ،تلتقط فتات الطعام المتبعثر بسرعة وحذر خلفه السكارى وتطير أسرابا
في بهجة ثم تتفرق في السماء…رفيف أجنحتها يملأ المكان وقد راقت لهم صفحة السماء ..
فقهاء يتظللون تحت سقف عشة استمرؤوا شرب ماء الحياة في كؤوس قدت بعناية من اعناق “قراعي” البلاستيك، رائحة “الصنان” تفوح من اباطيهم ،وجوههم معتمة كلحاء الشجر يحلقون أذقانهم وعانتهم هناك. يعلو وجوههم وجوم ظاهر يصطادون اليمام ويركضون بين المقابر يكادون ينكفئون كلما لاحت لهم راغبة
في التلاوة على القبر ،يرتزقون من سورة ياسين وما جاورها منتعشين ولا مرتعشين من معانيها..
الدشر أيامه مطحونة،تحول إلى ذغل إسمنتي في قمة االفضاعة والقتامة قضبان متشابكة مع
الإسمنت ،وأسلاك متهدلة، وبقع من “المازوط” الأسود المتخثر يلون المكان، جيف متناثرة تنهشها الكلاب تعبق المكان بنثائتها ، أغبرة الردم والزلط،رعاة يبترون الاشواك بمناجلهم وينحون جدوعها،أعشاب ناحلة ومزغبة فقدت. نظارتها اشرأبت أعناقها في أشكال سوريالية الى السماء، نسمات خفيفة تمسح جبهة المكان وتلفح العابرين يستحليها أطفال نصف عراة بوجوه و أجسام كسيحة ينبشون القمامة بأحاسيس منكمشة بحثا عن متلاشيات الحديد و “الميكا” و “قراعي الروج والبيرة” و سقط القمامات، وهم يحاولون عبثا إذابة ما يتراكم
على قلوبهم من صقيع بضحكات وقهقهات عبثية تحت شمس مريضة تسربل أركان المكان وقت الهجيرة ليحتفل بنثانته … عجوز برأس شبه عار تتدحرج في منحدر بعقافة متوسلة بعصاها في الحفاظ على توازنها وراء قطيع نحيل مشعث لايسمع له ثغاء ولا يمرح تحدث نفسها بلثغة غير مفهومة ..
المكان كالح لا دفء فيه ولا حنين كسوق أسبوعي عند المساء تهز رحباته عجاج دُوّار بين حين وآخر .
محمد صمري أبو ريحانة*