بنخلدون يحكي عن مشاهداته في جنازة الشهيد أبو العبد:
دخلت رفقة الأخ عبد الإله ابن كيران الامين العام لحزب العدالة والتنمية، وأخينا فريد، إلى مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب بالدوحة لتأدية صلاة الجمعة وحضور صلاة الجنازة على روح الشهيد إسماعيل هنية، دخلت وأنا أرى تلك الجموع الغفيرة التي تنتظر وصول نعش الشهيد وضاقت بها رحاب المسجد والشوارع المحيطة به، والتي تشرئب أعناقها لرؤية قادة حماس، والألم باديا على الوجوه..
أخذنا مكاننا بالصف السادس أو السابع بعد أن قام مرافقنا القطري بحمل كرسي ليستعمله الأستاذ ابن كيران أثناء الصلاة.
بدأت الوفود الرسمية تدخل بهو المسجد تباعا، فرأيت وزير خارجية تركيا مع وفد كبير، ثم كبار المسؤولين الإيرانيين الذين سيصلون صلاة الجنازة مع إخوانهم السنة، وقد وحدهم اغتيال الشهيد أبو العبد، ثم حضر وفد كبير من حركة طالبان، وعلماء وسياسيون ومفكرون من مختلف أقطار العالم الإسلامي.. من عصام البشير السوداني إلى ولد دودو الموريتاني وغيرهم.. وما هي إلا لحظات حتى دخل الأمير القطري الوالد حماد بن خليفة، وهو على كرسي متحرك، حيث كان في علاج بخارج قطر لكنه أصر أن يحضر الجنازة ليعود بعد الجنازة للسفر لإتمام العلاج..
بعد دخول الأمير الوالد، توجه صوبنا شخص قطري لعله من بروتوكول الديوان الأميري، فطلب من عبد الإله ابن كيران أن يتقدم ليجلس خلف الأمير الوالد، وهو يناديه السيد رئيس الحكومة.. تحركنا لنأخذ مكاننا الجديد أمام المحراب..
دقائق بعد ذلك، دخل أمير قطر الشيخ تميم بن حماد وعلامات الحزن بادية على وجهه.. ولم يضع العقال على رأسه.. قيل لنا أن تلك عادة عند القطريين وتعني أن الأمير كأنه هو نفسه من أهل الميت…
وبعد أن استوت الصفوف، دخل نعش الشهيد إسماعيل هنية محمولا على أكتاف أعضاء من قيادة حماس على رأسهم خالد مشعل تحت تكبيرات اهتزت لها جنبات المسجد، في أجواء مؤثرة. أخذ الكلمة خالد مشعل بعد فراغنا من صلاة الجمعة ليطلب من الشيخ علي قارة داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يلقي كلمة تأبين، وبعده كلمة لنجل إسماعيل هنية، عبد السلام هنية، قبل أن يطلب من الدكتور خليل الحيا أن يؤم الناس في صلاة الجنازة على الشهيد.
كانت آخر الكلمات، كلمة لخالد مشعل.. كلمة قوية برسائل كثيرة حول ثبات حركة حماس و إعلانه أن الحركة ستسير على نهج الشهيد، كما كانت الكلمة فرصة لشكر قطر و أمير قطر..
طلب منا البروتوكول بعد ذلك أن نتوجه لسيارات خاصة ستنقلنا إلى المقبرة حيث سيدفن الشهيد، وقد علمنا أنه سيدفن بالمقبرة المخصصة للعائلة الأميرية الحاكمة، وفي ذلك إشارة من حكومة قطر للتقدير الخاص الذي كان يحظى به الشهيد هنية.
بدأت في ملاحظة طبيعة السلك الدبلوماسي الحاضر من خلال السيارات الدبلوماسية.. رأيت حضور سلطنة عمان والكويت وتركيا وإيران والجزائر.. بحثت لعلني أجد أعلاما لبعض الدول العربية، لكنني لم أستطع أن أراها.. ربما يكون بعض السفراء قد حضروا.. وربما يكون البعض الآخر قد تلقى أوامر ألا يحضر لجنازة هذا الشهيد الكبير.. وذلك موضوع آخر..
بالمقبرة، اصطف قادة حماس ونجل الشهيد عبد السلام ورئيس حركة الجهاد الإسلامي لتلقي العزاء.. سلمنا على خليل الحيا الذي شكر حضور المغرب في شخص الأستاذ ابن كيران..
كان بجانبنا أثناء مراسيم الدفن الأستاذ مصطفى البرغوثي رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية الذي اكتشفنا في لقاء آخر لنا معه أنه يعرف المغرب جيدا، كما كان بجانبنا رئيس مجلس النواب التركي الذي سبق أن استدعيناه للقيام بزيارة للمغرب حين كان نائبا لأردوغان، سلم علينا بحرارة وهو يحكي عن زيارته للمغرب وشكره لحزب العدالة والتنمية.. سلمنا على باقي الضيوف..
بعد دفن الشهيد، أراد خالد مشعل أن يتوجه صوب الضيوف فإذا بجمهور كبير يتحلق حوله بما فيهم بعض وسائل الإعلام القطرية الرسمية.. كنت بين الجمهور، فإذا بالأستاذ خالد لما رآني بجلبابي الأبيض المتميز، قصدني مباشرة ليعانقني.. لا أخفي أنني لم أستطع إمساك دموعي.. كان العناق صادقا و قويا.. كنا نعي أن الخسارة كبيرة، لقد فقدت الأمة أحد رجالاتها الكبار.. ولكن عزاءنا في أنه قضى شهيدا كما كان يتمنى..
لاحظ الأستاذ ابن كيران أن هناك خيمة مخصصة للنساء، فأخبرته أنهم عائلة الشهيد، فقرر ابن كيران أن يتوجه إليها لتقديم واجب العزاء.. حيث قمنا بتعزية زوجة الشهيد ونساء من عائلته، حيث قالت لنا إحداهن كلمة مؤثرة “والله أنتم يا مغاربة ما قصرتم..”، حاول ابن كيران إمساك دموعه ولم يستطع.. فانصرفنا بعدها ورجعنا لمكان إقامتنا.
حفل العزاء الذي نظمته حركة حماس كان بعد صلاة المغرب، وذلك بخيمة كبيرة حيث اصطفت قيادة حماس لتلقي العزاء.. أعداد غفيرة من المعزين من كل بقاع الأرض.. سلمنا على مشعل وأسامة حمدان وخليل الحيا ومحمد نزال وسامي أبو زهري وعزت الرشق والنونو وغيرهم…
هناك ببيت العزاء التقينا ببعض المغاربة المقيمين بقطر والتقينا بممثلين لحركات سياسية وإسلامية من موريتانيا والجزائر والأردن والعراق ولبنان وافغانستان وغيرها..
هناك طلب من الأستاذ ابن كيران أن يلقي كلمة في ذلك المجمع الذي حضره كذلك ممثل السلطة الفلسطينية جبريل رجوب ورئيس حركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة ومصطفى البرغوثي وغيرهم من القادة الفلسطينيين… ذكر الأستاذ ابن كيران في هذه الكلمة بزيارة الشهيد ابو العبد للمغرب ودعا للشهيد وللمقاومة..
ثم تناول الكلمة بعده مجموعة من العلماء والدعاة والشخصيات الحاضرة.
انتهت مراسيم التشييع.. وحفل العزاء…عدنا للفندق حيث التقيت هناك بالمحلل اللواء محمد الدويري.. ثم ذهبنا لنزور الصحفي المتميز وائل الدحدوح الذي استقبلنا بحفاوة ببيته، وذكرته بترتيبات زيارته المرتقبة للمغرب. ببيت الدحدوح قرأ الأستاذ ابن كيران قصيدة شعرية باللغة الفرنسية كتبتها حفيدة بنكيران، (عمرها 11 سنة) تحت عنوان “معلهش” تتحدث فيها عن الدحدوح وصبره وجلده وتحمله في سبيل فلسطين.. كان ابن كيران يقرأ ثم يترجم بالعربية.. وكانت المفاجأة أن اتصل فريد بحفيدة ابن كيران ليتكلم معها الدحدوح مباشرة في مكالمة فيديو لطيفة ومؤثرة..
نعم انتهت مراسيم الجنازة وعدنا و نحن نقول إن الشهيد صدق عنما قال في آخر زيارة له لطهران “كلما غاب سيد ينهض سيد” وإذا غاب هنية قام السنوار، لتستمر المقاومة و يأخذ المشعل جيل بعد جيل.. حتى يأتي جيل النصر ويتحقق وعد الله بإذنه.