لبنان وتطوراته….في المنعطفات الكبرى لا مكان للعواطف والغرائز
ياسر سعد الدين
يتحدث الإسرائيليون وهم في نشوة كبرى ومن خلال انجازاتهم المتسارعة في لبنان في مرحلة ما بعد نكسات غزة وويلاتها عن تغيير خارطة الشرق الأوسط، والتغيير هنا يشمل الجميع. فدولة الاحتلال بقيادة نتنياهو وحكومته من المتطرفين والذين يتحدثون وبشكل علني عن رؤاهم التوراتية وعن نظرتهم الدونية لغيرهم من اليهود، تمضي في صراع صفري إما إلى الاستعلاء والتحكم بالمنطقة وشعوبها وإما إلى انحدار وهبوط لكيانهم القائم على الظلم والاحتلال والقتل والتدمير.
لا شك أن ما حدث ويحدث في لبنان، أعاد لدولة الاحتلال الكثير من معنوياتها التي زلزلتها مقاومة غزة الأسطورية، وستؤدي لرفع شعبية نتنياهو ومقاربته الدموية في لبنان وغزة والضفة وربما أبعد من ذلك. أحداث لبنان لها ما بعدها، ولن يطول الزمان على الذين يحتفلون بها من العرب ليكتووا بنارها ويصليهم سعيرها، سواء كانت فرحتهم لإنهم في معسكر المطبعين أو كانوا ممن أكتوى بنار حزب الله وحلفائه من الميلشيات الطائفية إن كان في سوريا أو العراق أو لبنان أو في اليمن.
بالنسبة لبعض المراقبين، فإن اختراقات الإسرائيلية لحزب الله والتي أدت إلى هزيمته المدوية، مرحليا على الأقل ليست عملا استخباراتيا إسرائيليا بشكل منفرد، بل هي جهود دول يرجح أن منها دولة طعنت حزب الله في الظهر وفي الصميم وذلك ضمن ترتيبات في المنطقة تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد والتي يراد لبدايتها أن تكون في تهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة، والتي كانت من إشاراتها الواضحة عرض نتنياهو خريطة “لإسرائيل” تشمل الضفة وغزة في الأمم المتحدة قبيل طوفان الأقصى في سبتمبر 3023 وأعاد ذلك في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة.
إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط مصطلح تردد كثيرا منذ سنوات وعقود، وحين سقطت بغداد في ربيع 2003 بيد الجيش الأمريكي، صرحت كونداليزا رايس مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها أن خريطة شرق أوسط جديد بدأت في التشكل والتشكيل. كانت الطائفية أداة تمزيق للمنطقة وإعادة تشكيلها ضمن مقاربة مارستها واشنطن بوضوح وجلاء قبل احتلالها للعراق وبعده. قسمت واشنطن العراق إلى ثلاث مناطق بحسب التوزيع الطائفي والعرقي والمذهبي، وقام بعدها بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق المحتل بدور بارز في التحريض الطائفي خصوصا بحق السنة مما أدى إلى تهميشهم وإيقاع مجازر بهم وتجاوزات عليهم وممارسات في التهجير الطائفي بحقهم.
تعاظم الدور الإيراني في المنطقة من خلال ترتيبات أمريكية إيرانية واضحة، ثم سمح لطهران بممارسة دور رئيسيا في سوريا من حلال دعم النظام السوري في مواجهة ثورة شعبية طالبت في البدء بإصلاحات متواضعة فقوبلت بالحديد والقتل والنار فانقلبت لثورة مسلحة. ودخل حزب الله بقوة وعنف في دعم نظام الأسد وفي ممارسة حرب تطهير بحق مدن استقبلت أنصاره في عام 2006 في بيوتها وفتحت لهم صدورها وقلوبها. كان الجرح السوري عميقا وغائرا وترك آثارا مدمرة تحتاج إلى عقود وربما أكثر لمعالجتها والتغلب على آثارها وتبعاتها.
عاشت المنطقة في أجواء مشحونة طائفيا ومذهبيا وتعرض السنة لمظالم عظيمة بحجة الثأر من مظالم تاريخية بروايات أحادية ومن غير أن يكون لهم فيها ناقة ولا جمل. تماما كالهولوكوست اليهودي والذي على الفلسطينيين والعرب أن يسددوا ثمن روايات أحادية لإحداث لم يشاركوا فيها لا هم ولا أجدادهم.
جاء طوفان الأقصى والذي أرادت فيه ومن خلاله غزة المحاصرة أن تدفع وتدافع عن الأقصى أمام تقاعس وتخاذل وأحيانا تواطؤ عربي وإسلامي رسمي وعجز وهوان شعبي، فقلب الطوفان الصورة وغير أبعاد المشهد وكان آثره كالزلزال في ضمائر الشعوب إسلاميا وعربيا ودوليا. تأخر حزب الله في دعم غزة ووقف واجفا حائرا، ومن الواضح أن طهران أعطته ضوء برتقاليا خافتا في بدايات الأحداث. غير أن صمود المقاومة في غزة دفع ما يسمى بمحور المقاومة لمساندة غزة بشكل أكثر عمليا وإن كان من خلال صور وأشكال مختلفة.
تصاعدت الأمور بين حزب الله وحكومة الاحتلال والتي كانت وما تزال على ما يبدو تملك الكثير من الأوراق في مواجهة حزب الله مما يجعل لها اليد العليا، وكانت مجزرة البياجر وما تلاها واستهداف قيادات الحزب بشكل متواصل وصولا إلى اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله. أحداث متلاحقة وتطورات متسارعة فجرت خلافات حادة عربيا تجاوزت المواقف الرسمية إلى المواقف الشعبية. ربما هذه هي الفترة الزمنية الوحيدة والتي يهلل قطاع عريض من جموع عربية شعبية فرحا وجذلا باعتداءات وانتهاكات وتجاوزات صهيونية.
من المفهوم جدا والمنطقي أن يشعر من قُتل أولاده واُعتدي على عرضه وأخرج من داره ودياره بالفرح والشماتة وهو يرى من اقترف ذلك بحقه، في موقف من يتلقى الضربات والصفعات والنكسات. ولكن من غير المقبول ولا المفهوم أن يتخذ من يعتبر من النخبة ومن المفكرين المواقف استنادا إلى مشاعر وعواطف وإن كانت صادقة مخلصة من غير أن يتدبر ويتأمل ويتفكر في المآلات والعواقب: ماذا بعد، وإلى أين تسير المنطقة وما هو مستقبلنا ومستقبل بلادنا وأولادنا؟
إن ما يجري الآن يؤجج استعار الفتن الطائفية والتي كان وما يزال السنة ضحاياها في المقام الأول، غير أن القيم الأخلاقية والقيمية تختبر في أوقات الشدة ويجب المحافظ عليها إذا كنا نريد أن نكون الأمة لا طائفة وأن نكون في القيادة الراشدة والرشيدة.
كان ينبغي على رموز الثورة في سوريا ومن غير تفريط بدماء الضحايا ولا بحقوقهم، أن يسألوا حزب الله و جماهيره وحاضنته الشعبية: أين موقف النظام السوري مما يحدث في غزة وفلسطين ولبنان؟ أهذا النظام والذي في دعمه ودعم دوره المزعوم في مقاومة الاحتلال سفكتم الدماء وانتهكتم الحرمات ومارستم القتل والتطهير؟ إن فرحة البعض وتأييده للجرائم الإسرائيلية وبشكل علني سيدفع بعض أنصار حزب الله لاتهام السوريين من المحسوبين على الثورة بأنهم يؤيدون الإسرائيليين في مجازرهم وغاراتهم الإجرامية وقتلهم المدنيين، وبالتالي يبرروا لأنفسهم ما اقترفوه بحق السوريين الأبرياء.
وهكذا تبقى المنطقة في حالة من الصراع العدمي والذي ينفع الصهاينة ويعزز مكانتهم. نعم لقد وقع على السوريين مظالم كثيرة وتعرضوا للطعن في الظهر، ولكن من حق السوريين بل من واجبهم (النخبة والمفكرون) أن يتساءلوا عن وضعهم في الترتيبات الجديدة؟ من واجبهم أن يرفعوا أصواتهم في وجه النظام والذي دمر سورية بحجة مواجهة المؤامرة الكونية وها هو اليوم جزء منها.
أن تختلف مع حزب الله وأن تعاديه وتواجهه فهذا حقك بل واجبك دفاعا عن وطنك وأهلك وعرضك، ولكن أن تؤيد جرائم الصهاينة وتجاوزاتهم فهذا لا يصح ولا يليق. حين نقر للإسرائيليين في حقهم في الإبادة والتدمير والاستعلاء في المنطقة، فإننا نقر واقعا نحن جزء فيه وسيقع علينا من مظالمه ما سيقع. السوريون يعرفون تماما أن من منع سقوط نظام الأسد وما حماه غربيا ودوليا هو تمسك الصهاينة به، وأن الصهاينة هم من أعطى الضوء الأخضر لإيران وأدواتها بالتدخل في سوريا بأشكال غير مباشرة. وبالتالي فإن معاناة السوريين ومن عقود سببها ويقف وراءها بشكل أساسي ورئيسي الصهاينة.
المطلوب من المفكرين وأصحاب الرأي أن يتساءلوا ماذا بعد؟ بلادنا ومنطقتنا إلى أين؟ وما هو مكاننا في التسويات القادمة وفي زمن العربدة الصهيونية والاستعلاء الإسرائيلي؟ أما أن نطلق العنان لغرائزنا وعواطفنا ومشاعرنا بعيدا عن التفكير الاستراتيجي وعوض أن نكون جزء من الفعل والحل والمبادأة والمبادرة فهذا برأيي خلل كبير سيعمق جراحاتنا ومعاناة شعبنا وأهلنا.