معركة الطوفان وترتيب العداوات.
إبراهيم الدويري
غالبا ما تترك بعض المحن والأحداث التي تفوق طاقة البشر في التحمل، في نفوس أصحابها ندوبا عميقة تؤثر على وعيهم وتصوراتهم، بل إنها تذهل المسلمين تارة عن بعض الأبجديات في التصور الإسلامي الذي يحتم العودة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في كل أمر لا سيما عند الاختلاف، ومن ذلك ما يتداوله الناس في المقارنة بين خطورة المشروع الصهيوني وما يسمونه المشروع الصفوي، وهو سجال متأثر بواقع مؤلم وتاريخ مؤسف فيهما ظلم بواح ودماء مسفوحة، وسوء سياسة أدت لمآلات صفرية أصمت عما هو أشد وقعا وخطرا على بيضة الإسلام بعد عام من معركة طوفان الأقصى.
تابعت مداخلات عديدة لبعض الدعاة والعلماء المصلحين يقارنون فيها بين المشروع الصهيوني والبعبع الإيراني، وهي مداخلات متأثرة بالواقع المذكور أعلاه، وهو ما جعل مقارناتهم غارقة في التحليل السياسي بدل الانطلاق من الوحي تأسيسا ثم البناء عليه بما تسعف به التجارب والمآلات، علما أن أغلبهم رجح ما يقتضيه الشرع والعقل من خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة لكنه ترجيح خجول لأسباب معلومة.
هذا الواقع المرير عقب طوفان الأقصى وتواتر الخذلان الإسلامي لأهل غزة إلا ما كان من أمر حزب الله وأنصاره يقتضي بصرا في ترتيب العداوات، وهو مصطلح كان يستعمله الشيخ الموفق سفر الحوالي فك الله أسره، وهو مصطلح قريب عنده من “خير الخيرين وشر الشرين, أو بيان واجب الوقت المتعين في الوقت اللحظة وإن كان غيره يجب لكن في وقت آخر”.
وممن أفاض في هذا الباب من علمائنا شيخ الإسلام ابن تيمية وسيد قطب؛ فعند ابن تيمية نصوص معتبرة حول النهي عن تفضيل اليهود والنصارى على بعض أهل البدع مهما كانوا، وهو المعروف بمقارعة مبتدعة زمانه، من تلك النصوص أنه سئل صراحة عن “رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟ فأجاب: الحمد لله، كلُّ من كان مؤمنًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خيرٌ من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، -سواء كانت بدعة الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، أو غيرهم-؛ فإن اليهود والنصارى كفار، كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام. والمبتدعُ إذا كان يحسب أنه موافقٌ للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالفٌ له لم يكن كافرًا به، ولو قُدّرَ أنه يكفر فليس كفرُه مثلَ كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم”. (مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج 35، ص 201).
وفي موضع آخر من نفس الجزء يقول: “فإذا تعذر إقامة الواجبات، من العلم والجهاد وغير ذلك، إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب، مع مفسدة مرجوحة معه: خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل”. (مجموع الفتاوى: 28/212).
أما الشهيد سيد قطب صاحب ظلال القرآن فقد أفاض في هذا الموضوع إفاضة متبصرة في تفسيره لقول الله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا..}، فهذه الآية عنده أصل في المواقف من الناس كلهم، ونبه في تفسيرها على مركزية القرآن لدى المسلمين في صياغة تصوراتهم وآرائهم.
يقول: “لقد كانت هذه الأمة تتلقى هذا القرآن لتقرر- وفق توجيهاته وتقريراته- خطتها وحركتها، ولتتخذ- وفق هذه التوجيهات والتقريرات- مواقفها من الناس جميعاً. فهذا الكتاب كان هو موجهها ومحركها ورائدها ومرشدها.. ومن ثم كانت تَغلب ولا تُغلب، لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربانية المباشرة مذ كان نبيها يقودها وفق الإرشادات الربانية العلوية”.
ويضيف أن “الإرشادات الربانية ما تزال والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب الكريم ما تزال. والذين يحملون دعوة الاسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقوا هذه التقريرات وتلك الإرشادات كأنهم يخاطبون بها اللحظة ليقرروا على ضوئها مواقفهم من شتى طوائف الناس ومن شتى المذاهب والمعتقدات والآراء، ومن شتى الأوضاع والأنظمة وشتى القيم والموازين.. اليوم وغداً وإلى آخر الزمان”.
وينطلق سيد قطب من ظاهر الآية مبينا أنه لا يمكن أن يكون هناك من هو أشد عداوة للمؤمنين من اليهود، “وحتى على تقدير أن الواو العاطفة للذين أشركوا ليست للتعقيب ولا الترتيب فإن تقديم اليهود مؤذن بتقدمهم في العداوة، وهو ما يستأنس له بالواقع “التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمداً من عداء الذين أشركوا”.
ويستعرض سيد قطب كثيرا من محطات تاريخ عداء اليهود للإسلام والمسلمين ومكرهم لهم بالليل والنهار من لدن البعثة ومحاولات قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلى التاريخ المعاصر في إقامة الكيان وقتل الفلسطينيين وتهجيرهم من قراهم وبلداتهم، وهذا التاريخ الذي يذكر به سيد قطب في تفسيره هو ما جعل الذهنية الإسلامية نابذة لليهود وأخلاق خداعهم وخبثهم وجشعهم.
إن دعوة المصلحين إلى تركيز الجهود على مواجهة الغزاة اليهود ليس تهوينا من آلام أي شعب ولا حرمانا لأي مظلوم من ممارسة مشاعره في الفرح والحزن، وإنما هي دعوة واعية لمواجهة عدو أخطر، وكثيرا ما كانت مواجهة المخاطر الماحقة سببا للتوحد، والوحدة من الله يمن بها على عباده، ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية المتجلية لا تنال بأي سبب من أسباب الدنيا.
ومن تدبر آية الأمر بالجهاد في خواتيم سورة الحج، -وقد رجح ابن عاشور أنها “أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأن السورة بعضها مكي وبعضها مدني”- يلاحظ أن القيام بالجهاد مقرون بالاجتباء فما تنفع فيه الدعاوى ولا تزكية النفس ولا النهج، كما قرن بالرحمة بنفي الحرج عن المسلمين، فلا يناسب زمانه الشحناء والبغضاء، وربط المسلمون فيه بملة إبراهيم الرحبة، وبالإسلام المتعالي عن المواضعات المحدثة؛ فالمجاهد مسلم ليس بسني ولا شيعي، وحقوق المسلم على أخيه في النصرة لا تسقطها المسميات والتنابز؛ فلنترق للطوفان وتضحيات مطلقيه وسادته