دفاعا عن دور مؤسسات الحزب بشأن واقعة التطبيع
بقلم: عبد العزيز عثماني
كالزلزال فتحنا أعيننا على صور توقيع الأخ الفاضل العزيز د. سعد الدين العثماني الأمين العام ورئيس الحكومة لإعلان مشترك إلى جانب مستشار الرئيس الأمريكي وممثل هيئة للأمن القومي في أكثر حكومات الكيان الصهيوني عنصرية وتوسعية وتقويضا للسلام.
وبينما ظل أغلبُنا عالقا طيلة الليلة المعلومة بين أنقاض ذلك الزلزال المرعب ينتظر إغاثة فرق الإنقاذ، إذا بإناء كبير وبارد من الماء تطوع الأستاذ الفاضل عبد الإله بن كيران بإلقائه على الجميع. فذهب الناس على إثر ذلك مذاهبَ ثلاثة: فمِن مُرْتَوٍ منه أغاثه من العطش بعد ليلة ويوم طويلين وأزال عنه اللوم، ومِن حائر تتنازعه المشاعر بين الرفض والقبول فأغاثه بشربة باردة استساغ بها العلقم ورجع إلى أهله مرتاح الضمير؛ ومنهم فريق ثالث لم ينله من الإناء إلا البرودة وأوجاعها، تراكمت على ما خلفه الزلزال.
قد تكون الصورة أعلاه قريبة إلى حد ما في توصيف الوضع الذي عاشه أبناء العدالة والتنمية مؤخرا. لذلك كان هذا الحزب في حاجة للتداعي إلى مؤسساته وفي طليعتها برلمانه للنظر في هذه النازلة المهولة وإنتاج جواب جماعي إزاء ما وقع وما يتعين القيام به لمعالجة مستقبل الوضع. إلا أن بعض الإخوة الأفاضل أقدموا عمليا على فتح الموضوع ودبجوا مقالات اختارت في العموم استباق النقاش الداخلي وانبرت لتبرير ما وقع وأوجه المصلحة الراجحة في نظرهم. إلا أن وجه الخطورة في التصدي لموضوع بحجم مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني ومشاركة الحزب من موقع رئاسة الحكومة فيه يرتبط بثلاثة عوامل كبيرة : الأول له علاقة بالخيار المذهبي الثابت للحزب والمسطر في أدبياته وراسخ في أعرافه ويمثل جزء لا يتجزأ من هويته، ولذلك نصّت ورقته المذهبية على: “اعتبار قضية فلسطين أم القضايا العربية والاسلامية، وتفعيل دور الشعوب في مساندة الشعب الفلسطيني، حتى ينال حريته، ويسترجع كافة حقوقه، والعمل على إيقاف كل أشكال التطبيع السري والعلني…”. والثاني تنظيمي، حيث يتعين التحفظ في الدفاع أو التبرير بخلاف ما نصت عليه مرجعيات الحزب القانونية والمذهبية والفكرية ونصت عليه صراحة نصوصه المعتمدة التي لا يحق لأحد مخالفتها قبل تعديلها في الهيئات المختصة، وأهمها المؤتمر الوطني. والثالث اعتبار أخلاقي يفرض الاحتياط والتواضع في مقاربة أمر كبير يلزم الخائضَ فيه عُدة علمية راسخة تستطيع التمحيص في وقائع تنتمي لعالم السياسة المتغير بمقومات العلم الشرعي وثوابت الدين الإسلامي التي تمثل جوهر المرجعية التي يقوم عليها كيان الحزب.
ومما تذكرته بهذه المناسبة المحزنة جدا هو مقولة “كاسحة الألغام” في مقال نشره الأخ محمد يتيم قبل ثلاث سنوات، والذي انتقد فيه وجوها يسارية (حسن طارق – البوحسيني- بلكبير) وأنهم لن يجدوا في حزب العدالة والتنمية ذلك الحزب اليساري الذي لم يتمكن من استكمال طريقه بعد استشهاد المهدي بنبركة، إلا أنني لم أتخيل يوما (وأنا الذي رددت حينها على مقال الأخ يتيم) أن كاسحة الألغام إياه سيوكل لها أبعد مهمة عن الحُسبان والخيال، وهي التوقيع على إعلان التطبيع مع الصهاينة المغتصبين .
والعجيب أن بعض الإخوة سامحهم الله انبروا لتبرير ما جرى بشكل جازم وحازم يرى في واقعة التوقيع مصلحة وطنية عليا، فاستبقوا المؤسسات وحاولوا تثبيت فرض الأمر الواقع من خلال البت بشكل واثق بأن ما تم هو عين العقل والوطنية. وبحكم تواتر عمليات التبرير والتسويغ التي صاحبت عددا من قرارات ومواقف الحزب في السنوات الأخيرة فإنه يُخيل لي أحيانا أن هناك هيئة افتراضية في الحزب يمكن تسميتها بـ “الهيئة المركزية للتبرير وتشخيص مصلحة الحزب”. والواقع، في نظري والله أعلم، أن الموقف الذي وجدنا فيه أنفسنا اليوم بشأن آفة التطبيع يعود في جانب منه إلى حالة التهدئة والتنويم الذي ظل يقوم بها بانتظام، وبحسن نية طبعا، عدد من إخواننا في هذه الهيئة المفترضة.
والغريب كذلك أن هناك من ذهب بسرعة وحماسة زائدة يهوّن من أثر التطبيع مقارنة مع المكاسب المقابلة فيما يتعلق بالقضية الوطنية. كما تمت الاستعانة في ذلك ببعض المقارنات العجيبة بين تطبيع المغرب وتطبيع تركيا وقطر، وهلُم خلطاً. بل ذهب “الحس الوطني” للبعض إلى حد التهجم على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” (وهي كغيرها غير منزهة عن النقد) لمجرد تعبيرها عن اعتراضها ورفضها لخطوة التطبيع. وهذا يبين المدى الذي يمكن أن تصل به معضلة التبرير بأصحابها، وذلك حين يبلغون، بحذاقتهم المعتقَدة، إلى حد يستكثرون فيه على من يشعر بالطعنة في الظهر حتى التعبير عن الشعور بالألم.
إن ما يجب أن ننتبه إليه ونضعه نصب أعيننا هو أننا حزب سياسي يشتغل ضمن نسق سياسي نعلم جيدا محدداته وتحدياته وموقعنا فيه، ولذلك كان يفترض أن تكون لدينا رؤية واضحة تؤطر مواقفنا وسلوكنا في مختلف الحالات والسيناريوهات الممكنة. وغياب هذه الرؤية كلية أو عدم كفايتها لتستغرق كافة الحالات الممكنة الحدوث في الواقع لا يبرر لنا الدفاع النظري عما تم القيام به عمليا وتبريره وتسويغه قبل أن تبت في ذلك المؤسسات المختصة داخل الحزب.
فثمة فرق هائل كالذي بين السماء والأرض بين أن تؤسس نظريا وبشكل مسبق لموقف جديد تجاه قضية مذهبية ومبدئية راسخة ويكون اختيارك عن وعي وتقدير ذاتي مفكر فيه للمصلحة، من جهة، وبين أن تجد نفسك في حكم المُكره المضطر اضطرارا للانصياع لضغوط الواقع السياسي الذي تتحرك فيه، فتجترح ما كنت تعتقد قبلُ بأنه مخالف لمبادئك ومرجعيتك، ثم تقوم لاحقا بالبحث عن المسوغات من الواقع و”المرجعيات” ونصوص التراث للاستدلال على “الصواب” فيما قمت به بفعل الاضطرار لا بمحض الاختيار.
وفي مقابل التبريرات التي اعتمدها البعض لإعطاء الانطباع غير الصحيح بأن الحزب بت في الأمر وأقره، فأنا هنا أطرح مجرد أسئلة، ليس من أجل التقييم والحكم على واقعة التوقيع، فهذا موكول لمؤسسات الحزب المختصة، ولكن – فقط – من أجل بيان أن الأمر ليس بالبداهة التي يحاول أعضاء الهيئة المفترضة القيام به. فإذا كان عامل الوطنية وتقديم المصلحة العليا للبلد هو المقياس في تبرير ما جرى، فدعونا نطرح الأسئلة التالية :
هل كان مثلا الراحل عبد الرحيم بوعبيد يفتقد حس الوطنية والمصلحة العليا للوطن عندما اعترض على قرار الاستفتاء في الصحراء الذي اتخذه الحسن الثاني رحمه الله – والحال أن المغرب كان في وضع أصعب بكثير منه اليوم بالنسبة لقضيتنا الوطنية – مع العلم أن الموقف النهائي للمغرب كان في الأخير هو الموقف الذي تبناه بوعيد. لماذا لم يفكر هذا اليساري الوطني كما فكرنا نحن الإسلاميون المعتدلون جدا، فيعتبر ذلك خذلانا للدولة. الجواب ربما يكمن في كوننا نتوفر على منسوب فائض جدا من الحكمة. وما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
هل كانت قامة وطنية من حجم عبد الله إبراهيم رحمه الله قليل الوطنية، حين اتخذ ما اتخذ من مواقف في واقعة استقالة حكومته ؟
هل كان الأستاذ امحمد بوستة رحمه الله قليل الوطنية حين اعترض على تشكيل حكومة التناوب بداية التسعينيات بسبب رفض مشاركة وزير الداخلية الأسبق ادريس البصري ؟
ولنأتي الآن لمؤسس حزب العدالة والتنمية الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي نعلق صوره في بعض مقراتنا ونشيد بروحه الوطنية العالية. ألم يكن أكبر وأصعب قرار اتخذه هو الاعتراض على إعلان حالة الاستثناء التي أقرها الحسن الثاني رحمه الله، فغامر بمستقبله السياسي وبمستقبل حزبه من أجل ما بدا له مصلحة الوطن، ومن أجل الفكرة الإصلاحية التي يؤمن بها. ولأنه كان مقتنعا بأنه مستأمن على صيانة تلك الفكرة الإصلاحية وبثها في قلوب الشباب وأنها ليست رهينة بوجوده شخصيا أو بوجود حزبه كأداة، فإنه لم يلتفت إلى ما سيعرفه هو وحزبه من تحجيم ومضايقات. وسبحان الله، ظل حزبه الصغير بفكرته الإصلاحية الكبيرة كامنا لعقود إلى أن جاءه الله بنا. ولم يأخذه الله إلى جواره إلا وحزبه قد أصبح عمليا الحزب الأول أو الثاني في البلاد.
ومن المستمسكات المفترضة التي شكلت أحد الدفوعات الرئيسية في واقعة التطبيع هو تصوير الأمر بشكل ينطوي على قدر من التهويل بأن القبول بالتوقيع ينطلق من هدف تجنب خذلان دولتنا. فعلاوة على غبش مفاهيمي في تصور مفهوم الدولة في هذا السياق، فإن الواقع والتاريخ يؤكدان لنا أن دولتنا والحمد لله قوية ومستقرة ومتماسكة، وهي أولى من الحزب ولم تنتظر ظهور العدالة والتنمية لتصبح كذلك؛ وإذا كانت دولتنا “واقفة” على العدالة والتنمية فهذا علاوة على أنه هراء، فإنها معضلة حقيقية.
ومن أبرز أحداث التاريخ والسيرة النبوية الذي تحمّل الحجم الأكبر من مصادر تبرير إخواننا هو صلح الحديبية، وأضاف إليه البعض مؤخرا عنصرا جديدا اسمه عبد الصمد بلكبير. ألا يتعين الوقوف لوهلة ونحن نستشهد – بتعسف أحيانا- بهذه الوقائع الدالة لنتساءل مثلا: ها نحن في كل مرة نسلمهم أبا جندل بن سهيل بن عمرو بن العاص وأصحابه، فأين هو الفتح في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان ؟
وها نحن طبقنا بنود الحديبية بكل وفاء ووطنية عالية، فأين هو دخول الناس في الديمقراطية أفواجا، أم إننا لا نرى إلا مزيدا من التضييق والنكوص وألاعيب القاسم الانتخابي وأخواته.
الخلاصة أننا في حزب العدالة والتنمية، وهو يضم ثلة من خيرة أبناء هذا الوطن العزيز، نحتاج فعلا إلى وقفة ليست كسابق الوقفات نقوم فيها، بكل تؤدة وروية ونقاش صريح، داخل المؤسسات بتقييم حصيلة منهجنا وتقويمه على ضوء معطيات الواقع المتغير، ثم كيفية الحفاظ على الفكرة الإصلاحية للحزب وتقويتها، وإلى أي حد استوعبنا حق الاستيعاب أدوارنا في النسق السياسي المغربي، وفي الواقع الحالي الذي نشغل فيه حاليا دور رئاسة مؤسسة دستورية لها مكانتها وموقعها وكلمتها في الدستور المغربي، وهي مؤسسة رئاسة الحكومة.
إلى ذلك الحين أفضل الاحتفاظ بتفصيل الرأي في الموضوع وأدعو إخواني لذلك.