بيان جماعة العدل والإحسان حول تعديل مدونة الأسرة
يأتي الحديث الجديد عن تعديل مدونة الأسرة في سياق الكلام هنا وهناك عن اختلالات في بنية منظومتها القانونية دون تقديم أي تشخيص دقيق ونزيه، ينشر للعموم، ويظهر بالأرقام حجم هذه الاختلالات وتصنيفها حسب المجالات والأهمية.
ومقابل الخوض في هذه الاختلالات بهذا الشكل المقطوع عن المعطيات الضرورية في بناء أي اقتراح، يتم تغييب النقاش عن الأعطاب الكبرى التي تعيق التطبيق السليم لأي قانون صالح ومناسب. ومن هذه الأعطاب الكبرى غياب نظام ديمقراطي يعتمد الشراكة والشورى الحقيقية مع مختلف القوى المجتمعية. نظام يربط المسؤولية بالمحاسبة ويعتمد على الكفاءات الوطنية لا على الولاءات، ولا يعشش فيه الفساد الإداري، ولا تستأثر فيه فئة معينة بثروات الوطن، وتعيش ملايين الأسر المغربية الحرمان والهشاشة الاجتماعية التي تؤثر في أوضاع هذه الأسر ماديا واجتماعيا، وعلى تدريس أبنائها وعلى استفادتهم من مختلف الخدمات الصحية والإدارية والتكافلية.
ومن الأعطاب الكبرى اختزال أحوال المرأة والأسرة والطفل في الصيغة القانونية للمدونة وتجاهل مسؤولية الدولة عن الصعوبات الكبيرة التي تعيشها هذه الفئات، الأمر الذي يؤدي إلى إشكالات عويصة داخل الأسر.
ومن الأعطاب الكبرى غياب نظام تربوي تعليمي يغرس في المتعلمين والمتعلمات الأخلاق والقيم التي تؤهلهم لبناء أسر يسودها التراحم والتواد والتياسر، ونبذ العنف والنرجسية والتنافر.
ومن الأعطاب كذلك التطبيق غير العادل لأحكام المدونة سواء بصيغتها الحالية أو بأي صيغة أخرى. وذلك بسبب الاختلالات الفظيعة التي لايزال يعانيها القضاء عموما.
إن السعي “لإصلاح” مدونة الأسرة ينبغي أن لاينفك عن إصلاح تلك الأعطاب وغيرها. وما الأسرة على قداستها إلا حلقة في سلسلة سياسية اجتماعية اقتصادية تربوية ثقافية.
والذي زاد الأمر قتامة أن بعض الأطراف التي أسند إليها الإشراف على “الإصلاح” الحالي معروفة بعدم حيادها وبنشوز مواقفها الإيديولوجية، وذلك على حساب العلماء الأتقياء الصادقين الذين ينبغي أن تكون لهم الكلمة العليا والحاسمة في الموضوع.
نتحدث عن دور رئيسي للعلماء لأننا نعتبر الاعتصام بالمرجعية الإسلامية منطلقا من شأنه أن يكسبنا وضوح الرؤية، وثبات الخطى، وسلامة التقدير، وأن هذه المرجعية ليست مجرد منطلق للتقارب والتفاهم بين المسلمين من أبناء الوطن الواحد فحسب، بل تمثل القاسم المشترك، والمنطلق المؤسِّس، والمسلَّمة التي لا نتصور نجاح أي نقاش عمومي حول تعديل المدونة خارج دائرتها؛ فالمرجعية الإسلامية تعد الثابت الذي تدور عليه كل المتغيرات، والمعيار الذي تحتكم إلى مقاصده كل الآراء على اختلافها. فالإسلام دين هذا الشعب الكريم عانقته فطرته، وسمت به روحه، واختلطت به تاريخيا حضارته وثقافته، وتحقق به مجده، وحافظ به على هويته ووحدته في إطار تنوع يشهد له التاريخ ولم يكن يوما مصدر تنازع وفرقة وتشرذم.
المرجعية الإسلامية إذن ليست محصورة في القوانين؛ بل هي مشروع نهوض وبناء، وحقوق وتكريم للإنسان والشعب والأمة، للمرأة والرجل على حد سواء، بلا تفريق في الحقوق والواجبات، إلا ما خص الله به أحدهما من أحكام ومسائل تتناسب وطبيعة التكليف وأغراضه ومقاصده.
ولذا فإننا نؤكد على سمو المرجعية الإسلامية في أرضها وبلادها وبين ظهراني شعبها، ونرفض كل اقتراح يتناقض معها، وأن الاجتهاد المتخصص من داخلها فيه فسحة للإجابة عن كثير من الإشكالات والمعضلات، ولا مجال نهائيا للتنازل عن أي حكم قطعي جاءت به شريعة الإسلام. ونقول بالاجتهاد المتخصص والمسؤول لأنه من السهل أن تأتي بالشاذ من كل مذهب لتجد نفسك في نهاية المطاف خارج إطار أي اجتهاد وأي التزام بأساسيات الدين. فمن الجنايات التاريخية على هذا الدين العظيم في كثير من الحالات اعتماد المنطق التبريري والتلفيقي الذي يشوه أحكام الدين، ويستجيب لما تستهويه الأنفس المريضة، ويفرز اختيارات لا هي بقيت في دائرة الشرع ولا هي قدمت إجابات وافية بالمطلوب.
وهي مناسبة لنتوجه إلى السادة العلماء بأن عليهم مسؤولية كبيرة وجسيمة، بأن يصدعوا بكلمة الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمحاولات العبث بأقدس ما بقي بين أيدينا ونحن من المستأمنين عليه، من شريعة سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إن الأعطيات والمناصب، معشر العلماء، لا تغني من الله شيئا إن كان مقابلها السكوت عن منكر فظيع يتهدد الدين في عقر داره، أو السكوت عن بيان حان أوانه، وينتظر قولا فصلا وموقفا خالدا يخدم هذا الدين الرحيم بالعباد.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا).
منطلق التعديل اليوم في المدونة ينبعث من إرادتين، إرادة تريد الإصلاح وتؤمن به وتدعمه الغالبية الساحقة من هذا الشعب، من أجل تجاوز أي خلل وإدخال كل تحسين على الموجود، وإبداع كل تجديد في إطار ثوابت الدين الإسلامي وخصوصيات المجتمع المغربي الحضارية والثقافية، وترى أن الإصلاح في هذا المجال ينبغي أن يكون عاما لكل أحوال الأسرة وبكل مكوناتها، المرأة والطفل والرجل وبكل مجالاتها المتداخلة من بيئة اجتماعية سليمة ومن رعاية كافية للمعوزين من أبناء الشعب، ومن إعلام هادف لمصلحة البناء الاجتماعي المتماسك، وتعليم ضامن لنقل الأخلاق والقيم البانية من جيل إلى جيل.
وإرادة ثانية فاسدة مفسدة لأقلية تستقوي بالسلطة وبالدعم الخارجي، وتريد أن تصبغ بفسادها كل المجتمع، معادية لكل خلق كريم ولكل حياء متأصل في هذا الشعب، وتريد أن تعلنها حربا ضروسا داخل الأسر المغربية من خلال محاولات رفع الجرم عن الفساد في علاقة الرجال بالنساء وجعل الأسر، والعياذ بالله، بين خيارين إما أن تكون أوكارا للفساد وشيوع الرذيلة وانتشار الفاحشة، أو ميدانا للاقتتال والحروب، ينتهي بالناس إلى المقابر والمستشفيات والسجون لا قدر الله. ويا ليت هذه الفئة اعتبرت بالمآلات الأسرية والمجتمعية المأساوية التي انتهت إليها غالبية عظمى من المجتمعات التي طبقت هذه الوصفات، وانتهى بها الأمر إلى التيه الأخلاقي والقيمي، وتفكك الأسرة وسيادة أجواء العنف والرعب داخلها. وننبه هنا إلى عدم خلط هذا الصنف مع فئة محترمة من نخبة المجتمع لها اقتناعاتها المخالفة لما عليه عموم الشعب لكنها لا تسعى لفرض وجهة نظرها على المجتمع، بل تبحث عن مساحة للتوافق على أسس ديمقراطية مشتركة مع الجميع.
إن دور المجتمع ضروري إلى جانب علمائه ونخبه ودعاته المخلصين والمصلحين للوقوف سدا منيعا في وجه كل محاولات العبث بالمقومات الشرعية والأخلاقية والتكاملية والتكافلية لأسرنا المغربية. لذا فإننا ندعو إلى اليقظة الشعبية الدائمة والمستمرة، وإلى الوعي التام بكل المخاطر التي تهدد الأسرة والاستعداد من أجل الدفاع عن تماسكها وعن مركزيتها المجتمعية بكل السبل السلمية المشروعة.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).
إننا مع كل تواصل وتعاون عالمي على قاعدة العدل الدولي والتراحم الإنساني. وندعو إلى الاعتراف والالتزام بالمعاهدات والمواثيق الإقليمية والدولية الحافظة للفطرة الإنسانية والمقرة للسلم الاجتماعي، و التي نحضرها ونسهم في إنضاجها؛ شريطة ألا تتعارض مع سيادة الدولة، أو تتصادم مع أصول ديننا وقطعياته، ومع خصوصياتنا الحضارية والثقافية، لاسيما وأن قضايا الأسرة ترتبط بالهوية مباشرة، وبمدى استقلالية الدولة فعليا عن الخضوع لابتزازات الغير.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه لا ينبغي تجاهل الضغط الخارجي في سياق التعديل الحالي. هذا الضغط الذي لم يتوقف يوما في هذا المجال (منذ مصادقة المغرب سنة 1993 على اتفاقية سيداو مع تحفظات..) وفي كل مرة تستجيب السلطة المغربية لمجموعة توصيات يتم إخراج توصيات جديدة دون مراعاة لأي خصوصية وطنية، حتى تم سنة 2020 تقديم إملاءات تهم قضايا مصيرية في هويتنا كإلغاء نظام الإرث، وإلغاء تجريم علاقات الشذوذ والفساد، والترخيص للإجهاض بشكل شبه مطلق ودون قيود، ليتم سنة 2022 إمهال السلطة المغربية أجل سنتين من قبل سيداو (لجنة القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة) ينتهي في 2024.
إن هذا الضغط الخارجي كان دائما وفي الغالب من توصياته يطمح إلى إحداث تصدعات وخلخلة في بنية الأسرة المسلمة، بما يعلم من أنها الأساس لتماسك بنية المجتمع. لقد دخل العالم مع الأسف في حالة استقطاب حادة في مجال الأخلاق والقيم بين من يريد أن يعيش ضمن خصوصيته الدينية والثقافية ويحترم في نفس الوقت خصوصيات الآخرين، وبين من يريد فرض قيمه الفاسدة على الغير، وإلغاء الآخر تماما والعمل الحثيث على صبغه بصبغة هجينة غريبة عنه، تمجها الفطرة السليمة والعقول المنصفة.
إن الأمة المجيدة والدولة ذات السيادة التي تقودها العزة والحكمة والعقل لا تقبل المساومة على مقومات هويتها المتمثلة في دينها وخصوصياتها الأخلاقية والقيمية والثقافية.
وختاما نقول:
إننا مع إصلاح وطني توافقي لمدونة الأسرة، غير متناقض مع الثوابت الدينية في شرعنا الإسلامي الحنيف، ويدار بشكل ديمقراطي ويخضع لنقاش مجتمعي وعمومي شفاف ومسؤول، بإشراك العلماء إلى جانب باقي المتخصصين، ويرتكز على إعلام في خدمة الأخلاق والقيم. وغير غافل عن تكامل المجالات التربوية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كل إصلاح. ومستفيد من كل حكمة بشرية نافعة، وغير خاضع لإملاءات أجنبية.
الرباط – المغرب || 18 ربيع الأول 1445/ 04 أكتوبر 2023