هكذا قاوم أمل دنقل في عزلته،
هكذا قاوم أمل دنقل في عزلته،. د. سعيد بكور، دار الوطن، الرباط، ط1، 2023م.
مقدمة:
امتلك أمل دنقل عقيدة شعرية مغايرة لمعاصريه، أقام أساسها على معرفة بالتراث وانفتاح على الثقافات الأجنبية ووعي بالواقع، الأمر الذي شكّل تصوّره للشعر مفهوما ووظيفةً؛ فهو عنده مزيج من التعبير الفنيّ والإخلاص للواقع والذات في بعديها الشخصي والإنساني. وهذه العقيدة جعلته يبني إبداعه على فلسفة يتضافر فيها الجمالي والدلالي دون أن يطغى أحدهما على الآخر، مع مسايرة العصر والحفاظ على جماليات القصيدة القديمة وصوغها في تشكيل تعبيري ذي جِدّة.
لقد مثل أمل صوتا إبداعيا مختلفا، وشكل شعره تجربة فريدة في تاريخ الشعر العربي الحديث، إذ لم يُغْرِه سير البعض وراء سراب التجريد وفلسفة التجريب، بل ظل وفيا لجماليات الشعر العربي وذوق المتلقي، واستطاع بذلك أن يؤسس لمدرسة الالتزام التي لا تغفل الجانب الفني في تصورها للعملية الإبداعية.
لقد استطاع أمل دنقل أن يوفق بين التجديد الذي فرضته حركة الشعر الحديث وبين المحافظة على بعض تقاليد القصيدة القديمة، مما جعل أشعاره قريبة من المتلقي؛ ترددها الألسن، وتعلق بالوجدان قبل الذاكرة لتعبيرها عن الواقع والتزامها بالقضية.
جاء تعبير أمل دنقل عن تجربة الموت والحياة مختلفا عن الشعراء التموزيين الذين انقسموا بين مقتصر على التجربة الذاتية، ومنطلقٍ في سماوات التجريب المنفصل عن التجربة، وإن كان أمل قد عبّر عن تجربة المرض التي عاشها فإنه لم يقع في دائرة الشكوى وبثّ الآلام بل استعاض عن ذلك بما هو فكري فلسفي، مستعينا بمرجعيته الثقافية التي عضدها بتوظيف الأسطورة، والوعي بمقومات التعبير الشعري وجمالياته التي لا تقطع الصلة بالموروث.
في الغرفة (8) عاش أمل دنقل عزلته، وكتب أوراقه الأخيرة التي ضمّنها رؤياه للنهاية وفلسفته للحياة والموت، وفي هذه الأوراق تبدّت المقاومة بالشعر والاحتماء بالذاكرة، واندغم الصوفي والفلسفي بالشعري، ونُحتت أناشيد النهاية التي تسلّح بها في مقاومة القوة العاتية للمرض.
تشكل قصائد الديوان الأخير وحدة متلاحمة، تمكّن المتلقي من تكوين تصور عام عن تجربة الشاعر التي تتأرجح بين الثورة والمقاومة واليقين، وبين اليأس والاحتجاج والاستسلام، وقد صاغ هذه المواقف المتناقضة في قالب شعري ظل فيه وفيا لنهجه الشعري وعقيدته الجمالية، قالب تساوق فيه الفكر مع الشكل فأثمر تجربة شعرية فريدة تكمن أهميتها في قيامها على تيمة واحدة، صاغ من خلالها الشاعر رؤياه للنهاية وهو بين برزخ الحياة والموت.