ما لا تُخبرنا به المرآة
منقول.
مقال لأسعد طه
(1)
أَقضي طيلة اليوم في متابعة نشرة الأخبار، يُخبرني الرجل الواقف بين الحطام بالتفاصيل، أُدقق في الصور التي يعرضها، كأني أبحث في الوجوه عمَّن ما زال حيًّا من عائلتي، لا صلة قُربى لي في غزة، ولم تطأْها أقدامي، لكن أصبح كل سكانها عائلاتنا، وأهالينا.
أبيت ليلتي نكِدًا، وأول ما أفعله في الصباح أن أتأكد من أن الرجل الواقف بين الحطام ما زال حيًّا، لم يعد هو الآخر “مراسلاً” كما كان، وإنما أصبح -بفضل ما يقوم به، وبفضل شجاعته- واحدًا منَّا.
أتهيأ لمغادرة منزلي، أقف أمام المرآة، أهندم ملابسي، وأتأكد من تسريحة شعري، وأضع عطري، تخبرني المرآة بأن كل شيء على ما يرام، ورغم ذلك فإني أشعر أن لا شيء على ما يرام، تَخرج مني زفرة من قلبي، أغضب من المرآة التي لا تخبرني بحقيقتي، أو قل: لا تعكس الطوفان الهادر داخلي، الذي أطاح بكل شيء، وبعثر كل شيء.
(2)
أكثر من شهر وأنا مثل الآخرين، أتابع الأخبار، أكاد أجن، أقرِّر التوقف عن متابعة ما يجري، لا أستطيع، فأعاود المشاهدة والألم، وهكذا دائرة لا تنتهي.
حزين لما يجري، غاضب من عجزي، أقرِّر ألا أكبت مشاعري كلها، أفلت بعضها، أترك الحزن يفعل فعله بي، أبكي أحيانًا، ثم أتوقف، ثم أفرح مع مشهد الملثم.
ظننت أنها سحابة صيف وتمر، لكنها لا تمر، لا العدوان يتوقف، ولا مشاعري تستقر، لقد بعثرتنا غزة من داخلنا، وعلينا أن نلملم أنفسنا من جديد، نعيد تركيب شخصياتنا مثلما نفعل مع لوحة (البازل).
غزة أكبر من معركة، وأكثر من مصيبة، وأعظم من فرح، إنها أمور كثيرة مختلطة، والطوفان ليس فقط في فلسطين، الطوفان اندلع بداخلنا، اجتاح كل شيء، وها هو يعيد ترتيب كل شيء.
(3)
أحاول أن أفهم، أُنصت إلى تصريحات بعض الساسة في الغرب، إنهم يعلنون صراحة أننا لسنا سواسية، وأن أطفالنا ليسوا كأطفالهم، وأن لا حق لصاحب الأرض في المقاومة، وأننا أسأنا فهم الأمر؛ فالمقصود حقوق الإنسان الأبيض، والدفاع عن المرأة عندما تكون هناك حاجة لعذر يبرر تدخلهم في هذا البلد أو ذاك.
لقد خلعوا فجأة أزياءهم بآخر صيحاتها، ربطات العنق، وبدلاتهم، وفساتينهم، تخلصوا من كل شيء، وعادوا إلى ما كانوا عليه، رعاة بقر، وتجار عبيد، وغزاة يسرقون ثروات البلاد، يشنون الحروب، ويُسقطون القنابل النووية، ويقيمون في كل مكان معتقل أبو غريب.
لقد تخلوا بسهولة عن كل القيم التي عايرونا بها، بل صرحوا علانية أنها حرب دينية، ولم يبق منهم إلا بعض الساسة الشرفاء، وأحرار الشارع يتظاهرون معارضين حكوماتهم وينتصرون للضحايا.
لن أكرههم، ولن أرد الإساءة بإساءة، ولا العنف بعنف، لكني سعيد بأني أدركت الأمر على حقيقته بعد أن كنت أظنه ظنًّا.
تمامًا كما أدركت بصعوبة أن لعدونا رجاله بيننا، يرتدون مثل ملابسنا، جيراننا، وربما أقرباءنا، و “يصلُّون العشاء معنا” على قول المسيري يرحمه الله.
هؤلاء يقصفوننا بقنابل من نوع آخر، قنابل اليأس والإحباط، يرددون ليل نهار: أن لا جدوى من أي فعل تقوم به، ومن أي خطوة تقدم عليها، يبثون الشائعات، يسخرون من أي انتصارات للمقاومة، يشككون في كل شيء، وللأسف يسمع بعضنا لهم ويتأثر.
إنهم مخلصون جدًّا لمبادئهم الهدَّامة، مخلصون جدًّا لأسيادهم في تل أبيب، يحسنون الحديث، يزينون خطاباتهم، يكلموننا عن الحكمة والتعقُّل، يتجاهلون كل ما أورده التاريخ من حكايات ينتصر فيها الضعيف المظلوم على القوي الظالم، بل يتجاهلون الحقيقة القرآنية: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، لذلك وجبت مقاومتهم.
(4)
الطوفان الهادر في نفسي لا يهدأ، شأني شأن الآخرين، أسأل نفسي: ما العمل؟
أجيب السؤال بألف سؤال:
كيف أحوِّل غضبي وأحزاني إلى أمرٍ ذي جدوى؟
كيف لا أضيِّع طاقتي في الغضب والحزن؟
كيف أنتقل من مقاعد المشاهدين إلى مقاعد الفاعلين، المشاركين، حتى ولو في الصفوف الخلفية؟
لا يجيب الأسئلة إلا من يؤمن بنفسه، وبقدراته، وقدرته على إحداث تأثير مهما صغر.
أتذكر ما قاله دوستويفسكي، من أن العمل وحده يستطيع إنقاذي وتقوية صحتي وجسدي، في حين أن القلق النفسي الدائم والتوتر العصبي المستمر سيدمرني كليًّا.
(5)
ثم قلت لنفسي: في المعركة إما أن تكون بطلاً أو خائنًا، ما من حل وسط، إلا إذا اعتبرت أن المعركة هناك ليست معركتك، وهذا والله أسوأ وأضل سبيلاً.