واجب الوقت نحو فلسطين.
د. يوسف فاوزي
من مقاصد الإسلام تحقيق الجماعة، وهي الجماعة التي تجاوزت حدود العبادات من اجتماع في الصلوات والحج والشورى وغيرها، إلى حد الوحدة الإيمانية الجامعة بين المؤمنين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، فالمسلم أخو المسلم ينصره لا يخذله، يتألم لألمه ويفرح لفرحه، ويهمه همه، ويسعى في تفريج كربته، وهذا المقصد النبيل أول مقصد زرعه المربي الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفئدة الصحابة رضوان الله عليهم، فألف بين قلوبهم بعد أن ملأتها عصبية الجاهلية حقدا وأنانية، جعلت من البشرية في زمانها حضارة همجية تقوم على أساس قانون الغاب المقدس للقوة، فيأكل القوي الضعيف دون رحمة أو شفقة، ولقد شهد القرآن الكريم بهذه الخصلة الحميدة فقال سبحانه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، وقرر هذا المقصد عليه الصلاة والسلام بقوله (المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم، ويردُّ عليهم أقصاهُم، وهم يدٌ على من سواهم، ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ)، فالآية والحديث وغيرهما من نصوص الشريعة المتواترة متضافرة مجمعة على أن الوحدة الدينية بين المسلمين توجب عليهم التناصر بينهم، وتقديم يد العون لضعيفهم، ورفع النائبة عن مصابهم.
ولقد كانت نكبة فلسطين -ولا زالت- أعظم نكبة في تاريخ هذه الأمة، وبحمد الله فالآصرة العقدية في هذه النكبة حاضرة لا يزيغ عنها إلا جاهل أو هالك، وهي القضية التي يتميز فيها الخبيث من الطيب، فيظهر المعدن الصافي للمؤمن، ويفتضح فيها الوجه الخبيث للمنافق، وهي محطة تاريخية لمراجعة أسباب الضعف والهوان في بيتنا الداخلي، ومعرفة سبل علاج هذا الضعف، بتجديد اليقينيات وتشجيع مواطن الشرف والعزة، وغيرها من واجبات الوقت نحو إخوتنا في فلسطين عامة وغزة العزة خاصة، ويمكننا إجمال هذا الواجب في النقاط التالية:
.1 دور العلماء والمصلحين في هذه الفترة الحرجة هام وخطير، فالعلماء ورثة الأنبياء يقومون مقامهم في مثل هذه النوائب، بصيانة عقيدة المسلمين في الله تعالى، فالنصر بيده سبحانه، لا يقاس بالتفوق العددي، ولا الترسانات العسكرية، بقدر ما يقاس باليقين في الله تعالى (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، مع عدم الغفلة عن العدة في مواجهة العدو (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، فإهمال الجانب العقدي في نفوس المسلمين يفسح المجال أمام الانهزام النفسي، وهو انهزام يقوم ببثه اليوم بعض شياطين الإنس عبر منابر مختلفة، بتخذيل المسلمين بتوهين قوتهم، وتضخيم قوة العدو، وإظهار أحقية هذا العدو في القضية، وكل هذا يجب على العلماء التصدي له بفضح عواره، وتقوية اليقين في الله تعالى عند عامة المسلمين لا سيما الشباب منهم.
.2 إحياء فريضة الجهاد، وهي الفريضة التي فتح الله بها على هذه الدنيا أنوار الرسالة المحمدية، وهي الفريضة التي جعلها الله سببا في تحرير بلدان المسلمين من نير الاستعمار الغربي الغاشم، واليوم الأمة بحاجة إلى إحياء هذه الفريضة بفتح الأبواب أمام المتطوعين لنصرة إخوانهم في أرض الإسراء والمعراج، في الوقت الذي نرى فيه أفواجا من أبناء العدو داخل فلسطين وخارجها يتطوعون لنصرة قومهم هناك، ولا نسمع كلمة واحدة من دعاة محاربة التطرف والإرهاب في إدانة تسليح شباب العدو، بدعوى أنه دفاع عن النفس، وما هذا إلا ضريبة أخرى من ضرائب الاستبداد الذي تورطت في مستنقعه أمتنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
.3 المقاطعة الاقتصادية، وهي أسهل الوسائل وأقربها لعامة المسلمين، بالتوقف عن شراء بضائع شركات العدو التي لم تجد أي حرج في جهرها بنصرة جيشها الإجرامي في حرب الإبادة بغزة، وهذه المقاطعة لاسيما في أسواق بلدان المسلمين ستسبب نقصا حادا في أرباح هذه الشركات، لتكون مجبرة على عدم نصرة هذا النظام الإرهابي، وكذا خلق أزمة اقتصادية للغرب سيضطر بسببها إلى التراجع عن حماية هذا الكيان الغاصب المحتل، وتوفير الغطاء الأمني والقانوني له، فالغرب أكثر ما يخيفه خسران الدرهم والدينار لا غير.
.4 مقاطعة منظمات حقوق الإنسان، وفضحها أمام العالم، وهذه مسؤولية المثقفين من الكتاب والأكاديميين والإعلاميين، فهذه المنظمات التي أوجعت رؤوسنا بقيم كرامة الإنسان والطفل والمرأة، بله الحيوان والحشرات، فضحت نفسها بنفسها، لما سكتت عن جرائم الإبادة بغزة، ولم تؤلمها صور الأطفال الرضع وهم يحرقون على الهواء مباشرة، واصطفت إلى جانب إخوة القردة والخنازير في همجيتهم الوحشية تجاه الأبرياء، فما قيمة هذه المنظمات إذن؟؟ إن هذه المنظمات تبين لدى كل عاقل لبيب أنها مجرد مؤسسات عميلة تهدف إلى غرس قناعة زائفة في عقول المسلمين بتلميع صورة الغرب المنافق، وإلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، ولقد جعل الله أحداث غزة مناسبة عظيمة في كشف حقيقة هذه المنظمات الكاذبة، ومن أراد الوقوف على حقيقة حقوق الإنسان فلينظر إلى التعامل الراقي لأبناء غزة مع الأسرى اليهود، ليتبين له الفجر الصادق من الكاذب.
.5 توفير الإعلام البديل، وهذا تحقق منه ولله الحمد نسبة مهمة في هذه الأحداث، بعد شيوع وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة النشر والوصول إلى المعلومة، فلم تعد حكرا على الإعلام الغربي المتستر على جرائم اليهود، غير أنه يجب التصدي لمحاولات التضليل والتشويه للقضية، بقلب الحقائق، فالعدو يتقن تمثيل دور الضحية، ومن هنا وجب نشر الحقيقة بكل لغات العالم لفضح جرائم هذه العصابة المجرمة.
.6 إعادة النظر في مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني، فهذه الأحداث أكدت لدى الجميع أن هذا الكيان لا عهد ولا أمانه له، ولا ثقة فيه، وهو كيان عاجز عن حماية نفسه فأنى له أن يحمي غيره؟؟، وهو كيان ضعيف عجز عن حسم المعركة لحد الساعة، مع تدهور اقتصاده وازدياد عزلته إقليميا ودوليا، فكيف سيأتي لنا الخير من وراء التطبيع معه؟؟ والشعوب الآن لها قناعة قوية أن التطبيع مه هذا الكيان المجرم أمر غير مقبول، فآن الاستجابة لرغبة الشعوب.
.7 الكشف عن حقيقة الصهاينة العرب، وهم عبيد العدو وعُرابه في بلدان المسلمين، وهم المنافقون بيننا الذين يسعون إلى إثارة الفتن بين المسلمين لتفريق كلمتهم، وإضعاف صفهم، وتوهين شوكتهم، فبقاء منابرهم بيننا خطر عظيم، وجب التصدي له، بفضحهم وفضح منابرهم وأجندتهم، ليكون المسلمون على حذر من سمومهم، فكلنا فلسطين.
.8 السعي إلى جمع كلمة المسلمين، وتجاوز نقاط الخلاف، وعدم السماح للمنافقين داخل بلدان المسلمين بنشر الفتن المفرقة، وذلك ببث خطاب التأليف بين القلوب والشعوب، حتى تتحقق معنى الأخوة الإيمانية، وهذه مهمة جليلة القدر يتضلع بها علماء المسلمين في كل قطر، وتعاون معهم فيها طلبة العلم والدعاة والوعاظ والخطباء، ورجال التربية والعليم، فضلا عن رجال الإعلام والصحافة.
.9 تأطير النشء حول قضية فلسطين، فالناظر في الواقع ليلحظ بُعد هذا الجيل عن النظرة الصحيحة في القضية، فهو ضحية الإعلام العالمي الدجال، وكهنة الاستبداد من المنافقين، فوجب بيان العقيدة الإسلامية تجاه هذه القضية لشبابنا، وغيرها من واجبات الوقت، وبالله التوفيق.