الموقف المغربي من حرب غزة
علي أنوزلا يكتب:
بعيداً عن دعاية الإعلام الرسمي المغربي، وبعض البيانات الرسمية التي تساوي بين الضحية والجلاد، فإن الموقف المغربي الرسمي من حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة مخجل ومحزن في الآن نفسه. أما وسائل الإعلام الرسمية المغربية فلم تعُد تورد أخبار غزّة إلا عند الحديث عن البيانات الرسمية المغربية ذات الصلة بالموضوع، ولا أثر لأخبار المجازر والقصف والتجويع، بما في ذلك حتى أخبار القتل اليومي الذي يحصُد عشرات الشهداء كل يوم من الأبرياء والجوعى أغلبهم من الأطفال والنساء. بينما نجد وسائل الإعلام نفسها تتحدّث عن مقتل مواطنين من شدّة البرد في إحدى القرى المنسية في جبال أفغانستان!
لم يدعم المغرب شكاية جنوب أفريقيا إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ولم يطلب الكلمة أمام هذه المحكمة مثل نحو 50 دولة أخرى للمرافعة عن عدم شرعية الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية، واكتفى بمذكّرة مكتوبة يعود تاريخ كتابتها إلى 23 يوليوز الماضي، ليس فيها أي حديثٍ عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزّة منذ 150 يوما. أما مفهوم “الإبادة الجماعية” الذي يعتبر الوصف القانوني لما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم تقتيل جماعي في غزّة، فلا أثر له في تصريحات المغرب أو بياناته الرسمية.
الموقف الرسمي المغربي من الحرب على غزّة خذل المغاربة قبل أن يخذل الغزّيين، موقف لا يرقى إلى مستوى بشاعة مأساة العصر، ولا يشرّف مواقف المغرب التاريخية في نصرة الشعب الفلسطيني ودعمه والدفاع عن قضيته، ولا يواكب مواقف الشعب المغربي الذي يخرُج باستمرار، منذ 7 أكتوبر، في مظاهراتٍ شعبية وتلقائية كبيرة في المدن والقرى النائية على امتداد خريطة المغرب للتنديد بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يوميا ضد الفلسطينيين الأبرياء.
كل ما قدّمه المغرب على المستوى الرسمي لأهل غزّة هو إصدار بلاغات (بيانات) خجولة، وأحيانا جبانة خالية من أي تنديد أو شحب أو استنكار لجرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال يوميا في غزّة. بيانات مُراوغة تساوي بين الضحية والجلاد، تصف حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين بـ”الأعمال العسكرية” وأحيانا بـ”الأعمال العدوانية”، و”أعمال العنف”، نعم هكذا، من دون الإشارة إلى من يرتكبها، وتُبدي أسفها لـ”الأوضاع الإنسانية في قطاع غزّة”، كما لو أن الأمر يتعلق بكارثة طبيعية حلّت بالأرض هناك، وخلفت أوضاعا إنسانية مأساوية تثير شفقتنا وتنتظر تعاطفنا!
أما في جوهرها فأغلبها بيانات بلا معنى مكتوبة بلغة خشبية عن “الحل السياسي” و”حل الدولتين” وعن “السلام”، في الوقت الذي قتلت فيه إسرائيل وأصابت أكثر من مائة وعشرة آلاف فلسطيني أغلبهم من الأطفال والنساء، وهجّرت أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني من بيوتهم، ودمّرت أحياءهم ومدنهم ومخيّماتهم، وجوّعتهم حتى حد الموت الزؤام. فعن أي سلامٍ تتحدّث بيانات الخارجية المغربية، اللهم إلا إذا كان الأمر يتعلق بالسلام على الطريقة الإسرائيلية الذي يعني القضاء على القضية الفلسطينية وتجريد الشعب الفلسطيني من أرضه وحقوقه، حتى لو تطلب ذلك إبادته كما يجري اليوم في غزّة!
ليس مطلوباً من المغرب أن يقدّم السلاح إلى الفلسطينيين، وأبعد من ذلك أن يرسل الجنود والمتطوعين ليحاربوا في غزّة. ولكن كان وما زال بإمكانه أن يقوم بالكثير، وأهم ما كان يمكنه القيام به إنهاء تطبيعه مع الكيان الصهيوني، وإلغاء كل الاتفاقات المبرمة مع هذا الكيان المجرم، ومنع كل حملة الجواز الصهيوني من الدخول إلى المغرب، بمن فيهم الصهاينة من أصول مغربية، لأن ولاء هؤلاء كلهم الأول والأخير للدولة العبرية، وأغلبهم ينتمون إلى صفوف الأحزاب الصهيونية اليمينية المتطرّفة التي تدعم الاستيطان، ومن بينهم اليوم من يحملون السلاح، مثل المرتزقة الصهاينة مزدوجي الجنسية، يقتلون الأبرياء من النساء والأطفال في غزّة.
عندما تمّ التوقيع على اتفاقيات الذلّ المسمّاة “اتفاقات أبراهام”، جرى تقديمها رسميا على أنها ستتيح للمغرب أن يلعب دور “المُيسّر” بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في أفق البحث عن تسوية قائمة على حلّ الدولتين. ومن أجل تسويق قرار التطبيع الذي لم يكن قرارا شعبيا، وإنما مفروضا من أعلى سلطة في المغرب، قال المطبّعون والمنافقون والمطبّلون إن “استئناف” علاقات المغرب مع الكيان الصهيوني سيجعله مؤثّراً في مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ونحن اليوم أمام أكبر اختبار أكّد أن لا أثر لهذا التأثير، فما الفائدة اليوم من هذه الاتفاقات إذا كانت عاجزةً حتى عن فتح ممرّ صغير لعبور عشرات المغاربة الذين ظلوا عالقين في غزّة يستغيثون بالسلطات المغربية لنجدتهم، حتى استشهدوا برصاص وقذائف وصواريخ جيش الكيان الصهيوني الذي أبرم معه المغرب تلك الاتفاقات المشؤومة؟!
أما تبرير مواصلة التطبيع بمراعاة “منطق الدولة” و”مصالح المغرب الاستراتيجية”، فهذه مجرّد بدعة وفرية كبرى، فقد أبانت هذه الحرب عن معدن هذا الكيان الذي ليس سوى قاعدة غربية متقدّمة للاستعمار الجديد الذي يعمل على إخضاع شعوب المنطقة واستغلال مقدّرات بلدانها. وإسرائيل كما سبق أن كتب صاحب هذه المقالة هنا في “العربي الجديد”، لا أصدقاء ولا حلفاء لها، بما في ذلك حتى أميركا حليفتها وحاميتها الأولى، وقد كشفت لنا هذه الأزمة طبيعة العلاقة بين إسرائيل الصغرى التي تحكم وتتحكّم في إسرائيل الكبرى (أميركا)، فإذا كان الكيان الصهيوني لا يقيم أي اعتبار للدول الغربية التي تحميه وتدعمه بالسلاح والمال والمرتزقة، فكيف سيخصّ بهذا الاعتبار دولة مثل المغرب، لا يرى فيها سوى امتدادٍ لأطماعه في الهيمنة على المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط؟
يجب أن نخجل، نحن المغاربة، من دولتنا ومن مسؤولينا الذين جعلوا المغرب، بكل تاريخ شعبه العريق الذي يعتبر القضية الفلسطينية قضيته الوطنية، يصطفّ خلف كيان عنصري ومجرم بصمتهم عن جرائمه ومواصلتهم فرض تطبيع علاقات المغرب معه ضد عشرات الآلاف من الأصوات التي تنزل أسبوعيا إلى شوارع المدن والقرى المغربية تطالب بوقف التطبيع معه وإلغاء كل الاتفاقات المبرمة معه.
سبق أن كتبتُ هنا أن قرار التطبيع فُرض على الشعب المغربي من فوق، ومن اتخذ هذا القرار هو الملك محمد السادس، وهو وحده القادر اليوم بقرارٍ منه على وقفه، لأن استمرار التطبيع يعني مشاركة المغرب في الجرائم التي يرتكبها كيان عنصري ومجرم وقاتل ضد إخواننا من الفلسطينيين. والإصرار على التشبث بالتطبيع يعني قبول التعامل مع مجرمي حرب، مثل بنيامين نتنياهو، ويوآف غالانت، وهرتسي هاليفي، وبني غانتس، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وإسحاق هرتسوغ، وغيرهم من القتلة الساديين، واعتبارهم شركاء، والاستعداد لفرش السجّاد الأحمر لاستقبالهم والجلوس لتوقيع الاتفاقات معهم والتقاط الصور التذكارية بجانبهم وهم الملطخّة أياديهم بدماء الأبرياء من إخواننا الفلسطينيين! التطبيع جريمة، وفي الوضع الحالي مشاركة صريحة في كل الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة، والاستمرار فيه، رغم كل ما يجري من تدمير ومحو للشعب الفلسطيني، إمعان في هذه المشاركة مع سبق الإصرار والترصّد، والتاريخ سيدين المجرمين وشركائهم من المطبّعين. وقد آن الأوان لنقول “ليس باسمنا”، وهذا أضعف الإيمان.