أَرَفَضَ الغزالي الفلسفة في كلّيتها، أم رفض منها مباحث معيّنة؟
بقلم : الدكتور الطيب بو عزة
ولماذا عنون كتابه النقدي بـ(تهافت الفلاسفة)، ولم يعنونه بـ «تهافت الفلسفة»؟
وإذا كان عنوان متن الغزالي، أقصد لفظ «التهافت»، يرمي إلى الكشف عن لا انسجام الفكر الفلسفي؛ أي يقدّم نفسه كقراءة داخلية تكشف عن اختلالات ثاوية في البنية النظرية للوغوس، كما تشكّل في المتنين الأرسطي والأفلاطوني، وكما تمّ فهمه في السياق الثقافي الإسلامي، فإنّ ثمّة سؤالاً يقتضي إمعان الفكر فيه، وهو: أكانت الأدوات التي استعملها الغزالي منسجمة ومبرّأة من الاختلال، أم أنّها هي ذاتها انزلقت الى التناقض والاختلال؟ أي هل يصحّ أن يُقال فيه ما قاله ابن العربي: «شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيّأهم، فما استطاع»؟
في محاولة لبلورة جواب عن بعض هذه الاستفهامات، أقدّم، في هذا المقال، أوّلاً: توصيفاً لمشروع الغزالي، وبيان كيفية تلقيه من قبل الناظرين إلى تاريخ الفكر:
يُعدُّ النقد، الذي أنتجه الغزالي، في كتابه (تهافت الفلاسفة)، حسب كثير من المؤرّخين، من العوامل التي أوقفت دفق الفكر الفلسفي في شرق العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري وما تلاه، وهذا ما يُشير إليه المستشرق دي بور بقوله: «كثيراً ما يُقال إنّ الغزالي قضى على الفلسفة في الشرق قضاءً مبرماً، لم تقم لها بعده قائمة»[1].
صحيح أنّنا لا نرى هذا الرأي، حيث نعتقد أنّه مهما كانت قوّة مفكّر، فإنّه ليس بإمكانه أن يكون عاملاً حاسماً في إنهاء وجود حقل معرفي داخل سياق ثقافي ما؛ بل إن ميلادَ فكر ما، وأفولَه، يرتبطان بشروط ثقافية ومجتمعية أوسع من أن تختزل في مقدرة فرد واحد؛ مهما كانت قيمة وقوة مشروعه النظري.
وفي هذا نوافق دي بور في قوله، ردّاً على ذلك الزعم بأنّ الغزالي قضى على الفلسفة في المشرق: إنّ «هذا زعم خاطئ لا يدلّ على علم بالتاريخ، ولا على فهم حقائق الأمور؛ فقد بلغ عدد أساتذة الفلسفة وطلّابها في المشرق، بعد عصر الغزالي، مئاتٍ؛ بل ألوفاً…»[2].
هذا مع أنّ دي بور يضيف، معترفاً بأنّ الفلسفة، على الرغم من عدد المهتمين بها بعد الغزالي، لم تعد بالحظوة ذاتها التي كانت لها من قبل.
وإذا كان ليس من الصائب، وفق قوانين تطوّر الأفكار والمعارف، أَنْ ترجع نهاية حقل معرفي إلى شخص بعينه، فإن ضعف العطاء الفلسفي في المشرق الإسلامي، بُعَيْدَ حقبة الغزالي، ينبغي أن تُدرس أسبابه الثقافية والمجتمعية، على نحو لا يقتصر على بيان الدور النقدي الذي مارسه أبو حامد في كتابه (التهافت).
بيد أنّ هذا، أيضاً، لا يعني أن المشروع النقدي، الذي قدّمه الغزالي، لم يكن له أثر في مدافعة نفوذ الفكر الإغريقي؛ بل لقد كان متن (التهافت) لحظة معرفية متفرّدة، تناتجت بعدها نقود عديدة قلّدت منحاه في التفكير؛ إذ ظهر العديد من المتون النقدية التي وُسِمَت بالعنوان ذاته، حيث كتب قطب الدين الراوندي (ت 573هـ) كتابه (تهافت الفلاسفة)، كما استمرّ هذا التقليد النقدي إلى القرن التاسع الهجري، حيث كتب خـواجـه زاده (ت893هـ) كتاباً بالوسم ذاته، الذي عنون به الغزالي نصه؛ أي (تهافت الفلاسفة) استجابةً لأمر السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي أمره وعلاء الدين علي الطوسي بتقييم مشروعي الغزالي وابن رشد…
وعليه، يتبيّن أنّ متن الغزالي كان له وقع خاص في سياق الجدل الفكري، دفع عدداً من المفكرين إلى الكتابة على نسجه، ما يؤكد اشتهار ذلك المتن وشيوعه.
والحقّ أن أبا حامد أبان، في متنه ذاك، عن مقدرة منهجية تحليلية، وحس نقدي جريء، في مقاربته للفكر الفلسفي اليوناني كما تمثّله الفلاسفة المسلمون في عصره (ولاسيّما الفارابي وابن سينا)؛ حيث تتبدّى قدرته التحليلية في تصنيف الفلاسفة «على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبـهم… إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون»[3]، كما تظهر، في نظره، في مختلف الأبحاث الفلسفية المتداولة في زمنه، واستخلاصه المسائل التي رأى فيها مخالفة للرؤية الإسلامية للوجود، حيث أوجزها في عشرين مسألة، عَدَّهَا مدار الخلاف بين المعتقد بدين الإسلام، وبين المتمذهب بفلسفات الإغريق.
وعلى مستوى الوسم النقدي، استخلص الغزالي ثلاثة من تلك المسائل العشرين عَدَّهَا موجبة للكفر، وهي: القول بقدم العالم، والقول بأنّ الله لا يعلم إلا الكلّيّات، ولا يعلم الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد. أمّا البقيّة؛ أي المسائل السبعة عشرة، فعدّها موجبة للتبديع لا للتكفير.
وبصرف النظر عن الحكم العقدي، الذي قدّمه الغزالي ضداً للفلاسفة، فإنّنا نرى أن المسائل العشرين، التي أحصاها، تدلُّ على أنّه لا يرفض من الفلسفة إلّا أجزاء محدودة معدودة؛ إذ في زمنه كانت الجغرافيا الفلسفية تضمُّ «ستة أقسام: رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية»[4]. وعند تقويمه لهذه الأقسام الستّة، صرّح بأنه لا يرى في الرياضة والمنطق أي مأخذ، كما عدّ أغلب المعطيات المعرفية للعلوم الطبيعية مقبولة شرعاً، حيث يقول في متن (التهافت): «فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه، من جملة علومهم الإلهية والطبيعية. وأمّا الرياضيات، فلا معنى لإنكارها، ولا للمخالفة فيها، فإنّها ترجع إلى الحساب والهندسة. وأما المنطقيات، فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة»[5]. كما لم يرَ في الأبحاث الفلسفية السياسية والخلقية ما يُجَوِّزُ نفيها، وعدم الاستفادة منها؛ بل يقول في (المنقذ)، في ما يخص المسألة السياسية، إنّ: «جميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية (والإيالة) السلطانية»؛ بل يذهب إلى حدّ القول إنّ مرجع الفلسفة السياسية والأخلاقية، وأصلها القديم، هو الدين «والحكم المأثورة عن سلف الأنبياء»[6].
كما أن البحث الفلسفي في المسألة الخلقية، بحث في النفس وأخلاقها وكيفية معالجتها، وهو، بذلك، بحث موصول بالتصوف حسب الغزالي.
وبهذا، يتبين أنّ صاحب (تهافت الفلاسفة) خصّص النقد في المبحث الإلهي، على وجه التحديد، حيث قال إنّ الفلاسفة: «يجمعون شروطاً يعلم أنّها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط؛ بل تساهلوا غاية التساهل»[7].
وكأنه يريد فصل المنهج عن الثمرة، حيث نبّه إلى أنّه لا ينبغي الانخداع بالفلاسفة؛ لأنّهم «يستدلّون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة عن البراهين، نقيّة عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية«[8].
وهذا الفصل بين الأداة المنهجية ومحصولها هو الذي يسوّغ للغزالي استدخال المنطق ضمن البنية الأصولية والكلامية.
وبلحظ الإحصاء، يتوجّب علينا التنويه إلى أنه بالنظر الى مقدار ما قبله الغزالي، مقارنةً بما رفضه من البنية الفلسفية، يصحُّ لنا أن نقول إنه لم يرفض من الفلسفة سوى مقدار قليل فقط. ولعلّ هذا هو ما جعله يعنون كتابه بـ(تهافت الفلاسفة) لا (تهافت الفلسفة).
بل حتى المنطق، الذي خصّص له كتابه (معيار العلم)، صرّح بأنّ هذا الكتاب هو القسم الأخير من متن التهافت؛ بمعنى أنّ التهافت لا يقصد منه المباحث الفلسفية جميعها؛ بل منها ما هو أوجب وأوكد لتنهيج الفكر وحفظه.
ولست، هنا، في معرض تقييم مشروع الغزالي؛ بل في معرض استخلاص دلالة الدرس النقدي الذي أنجزه. وفي هذا السياق، يجدر التنبيه إلى ثلاثة استنتاجات نستمدّها من حديثنا السابق:
أوّلها: أن كتاب (التهافت) لا يُقصد منه هدم الفكر الفلسفي في جملته.
وثانيهما: أن الغزالي لم يكتب (تهافت الفلاسفة) إلا بعد أن كتب نصّاً وصفياً لبنية الفكر الفلسفي عنونه بـ(مقاصد الفلاسفة)، وفي ذلك درس ينبغي أن نتنبّه إليه؛ حيث لا يجوز لمنتقد مذهب، أو فلسفة، أن يكون جاهلاً بها؛ بل لابدَّ من أن يدرك ابتداءً مقصدها ودلالتها دراية دقيقة؛ بل يذهب الغزالي إلى حدِّ القول إن ناقد فلسفةٍ لابدَّ من أن تكون معرفته بها أكبر من معرفة الفيلسوف، لا مساوية له فحسب(!)، وفي هذا يقول في متن (المنقذ): «… وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل [ذلك] العلم، ثمّ يزيد عليه، ويجاوز درجته، فيطّلع على ما لم يطّلع عليه صاحب العلم من غور وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقّاً»[9]. وفي هذا السياق، أيضاً، يحذّر من «أنّ ردّ المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنهه، رمي في عماية»[10].
[1] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده، مكتبة النهضة المصرية، ط1، ص 357
[2] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3] الغزالي، أبو حامد، المنقذ من الضلال، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة 3، 1962م، ص 140
[4] المصدر نفسه، ص 148
[5] الغزالي، تهافت الفلاسفة، تح سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة 4، (د.ت)، ص 87
[6] الغزالي، المنقذ، (م.س)، ص 158
[7] الغزالي، المنقذ من الضلال، (م.س)، ص 26
[8] الغزالي، تهافت الفلاسفة، (م.س)، ص 77
[9] الغزالي، المنقذ من الضلال، (م.س)، ص 138
[10] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.