فن اختراع الفظائع: طوفان الأخبار الإسرائيلية الكاذبة
بقلم: ليال حداد
عن موقع : العربي الجديد.
يكاد يكون اللحاق بسيل الأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي شبه مستحيل. منذ يوم السبت، ومع بدء عملية طوفان الأقصى، أغرقت الأخبار المضللة الشبكة، وبدأت حدتها بالتصاعد تدريجياً، مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة.
لكن هذه المرة بدا مسار هذه الأخبار واضحاً. مساران في الحقيقة: الأول يهدف إلى استخدام اسقاطات سياسية، بهدف خلق أجواء غربية شعبية داعمة للمجزرة الإسرائيلية في غزة، وذلك من خلال تشبيه “طوفان الأفصى” بهجمات 11 سبتمبر 2001، وبالتالي تشبيه حركة حماس بتنظيم القاعدة، أو من خلال تشبيه العملية بالهولوكوست، وبالتالي تشبيه المقاومين الفلسطينيين بالنازيين. وهو ما ظهر واضحاً وفجاً في خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن مساء الثلاثاء، حين كرّر أكثر من مرة، “استهداف اليهود”.
أما المسار الثاني فهو نشر أخبار كاذبة عن فظائع ارتكبها مقاتلو المقاومة، وبثّها في وسائل الإعلام، في ترجمة بسيطة لما يعرف ببروباغندا الفظائع، أو الفظائع الدعائية، التي استخدمت في الحربين العالميتين الأولى ثم الثانية، كما استخدمت في الحرب اليوغوسلافية، واجتياح العراق عام 2003. وهو ما يعطي “شرعية” للمجازر المرتكبة في قطاع غزة.
في ما يلي سنتتبع خط انتشار خبَرَين استخدمهما داعمو الاحتلال، لتبرير قصف المدنيين في غزة، والتهليل له: ادعاء اغتصاب شابة إسرائيلية قادمة من ألمانيا وقتلها، وادعاء قطع المقاومين لرأس 40 طفلاً إسرائيلياً.
ادعاء الاغتصاب
مع انتصاف يوم السبت الماضي، انتشر فيديو للمقاومين وهم على متن آلية، يحملون أسلحتهم، وينقلون شابة بما يشبه الملابس الداخلية، وهي فاقدة للوعي. ومن دون أي معلومات إضافية باستثناء هذا الفيديو، تبنى الآلاف (بمن فيهم مغردون عرب، ونسويات عربيات) خبر تعرية الشابة الإسرائيلية ــ الألمانية وتدعى شاني لوك، ثم اغتصابها جماعياً، ثم قتلها من قبل المقاومة.
ما هو مصدر الخبر؟ لا مصدر له، مجرد اجتهادات على مواقع التواصل. حتى أن مؤسسات إعلامية كبرى نقلت الخبر، وتبنّته، لتعود وتبدأ تراجعها التدريجي في اليومين الماضيين. صحيفة لوس أنجليس تايمز الأميركية على سبيل المثال، نشرت في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، مقال رأي بعنوان “من هو المسؤول عن هجوم حماس على إسرائيل؟ هذا النقاش بدأ يخرج عن السيطرة”. في النسخة الأساسية من المقال يتحدّث الكاتب الأميركي جوناه غولدبرغ عن جرائم الاغتصاب التي ارتكبتها مقاومة حركة حماس. لكن في مساء اليوم نفسه، حذفت الصحيفة الإشارة إلى الاغتصاب، ونشرت تنويهاً جانبياً جاء فيه “نسخة سابقة من هذا المقال أشارت إلى حدوث جرائم اغتصاب في الهجمات، ولكن لم يتم تأكيد مثل هذه التقارير”.
حتى إعلام دول الاحتلال، وعلى رأسها “تايمز أوف إسرائيل” التي نقل عنها أغلب الإعلام الغربي خبر الجرائم الجنسية ذكرت أن هناك “مخاوف من حصول جرائم عنف جنسي” من دون نقل أي شهادة أو تأكيد. مجرد كلام في الهواء، نقلته مؤسسات أخرى، ورددته ونسجت الأساطير والأخبار المضللة حوله.
نعود إلى شاني لوك، التي نعاها عشرات آلاف مستخدمي مواقع التواصل، والصحافيون، والناشطون الحقوقيون حول العالم، ليتبيّن مساء الاثنين، أنها لا تزال على قيد الحياة، وفق تصريحات والدتها لوسائل إعلام ألمانية، مؤكدة أن مصدراً فلسطينياً أبلغها أن ابنتها تتلقى العلاج في أحد مستشفيات غزة، من دون أي إشارة إلى أي عنف جنسي تعرضت له ابنتها.
قطع رأس 40 طفلاً
قد يكون نشر خبر العثور على جثة 40 طفلاً إسرائيلياً مقطوعي الرؤوس، مثالاً نموذجياً لـ”بروباغندا الفظائع”. مثل سيبقى حاضراً لوقت طويل في كل مرة نستعيد فيها استخدام الأخبار الكاذبة للتحريض على القتل وارتكاب المجازر.
هنا، نعرف من كان مصدر الخبر الأول. إذ ادّعت قناة i24 نيوز (الإسرائيلية) بنسختها الإنكليزية (ثم الفرنسية) الثلاثاء، أنّ مقاتلي حركة حماس قتلوا 40 رضيعًا إسرائيليًّا، وقطعوا رؤوس أغلبهم في مستوطنة كفار عزّة، الواقع على الحدود مع قطاع غزة، في الهجوم الذي شنه مقاومو كتائب القسام يوم السبت. وقالت مراسلة القناة نيكول زيديك (مشاهدات الفيديو تخطات 11 مليون مشاهدة على منصة إكس وحدها)، في تقرير أعدّته من كفار عزّة إنّها تحدثت إلى جنود الجيش الإسرائيلي الذين أشاروا إلى رؤيتهم لأطفال ورضّعا برؤوس مقطوعة. نقلت المراسلة عن جيش الاحتلال، فبدأ الجميع بنقل الخبر بشكل هستيري حتى بات “حقيقة مطلقة” وعلا خطاب التحريض لـ”إبادة قطاع غزة”.
وسائل إعلام غربية بالعشرات نقلت هذا الادعاء. مراسلة صحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية، والخبيرة بتغطية شوؤن المنطقة بيل ترو، نشرت بداية على حسابها على “إكس” تغريدة جاء فيها “كان الجنود يستخرجون جثثاً من المنازل في كفار عزة اليوم بالقرب من السياج الحدودي مع غزة. قال لي أحد الضباط الرئيسيين إنهم وجدوا جثث نساء وأطفال مقطوعي الرؤوس (للتوضيح، لم نرَ تلك الجثث. لا يمكنني التحقق من ذلك بشكل مستقل). بدأ إطلاق النار عند دخولنا”. وبعد سيل الانتقادات لنشرها خبراً عن جريمة بهذا الحجم من دون أن تتأكد منها، حذفت ترو التغريدة.
لكن صباح الأربعاء، صدر عدد “ذي إندبندنت” بغلاف امتد على الصفحة الأولى كاملةً مع العنوان التالي “(قطعوا رؤوس النساء والأطفال، رأينا أطفالاً مقتولين) يدعي ضابط إسرائيلي… الجثث كانت مخبأة لذا لا يمكننا تأكيد ذلك، لكن رائحة الموت كانت تفوح من القرية”. الصحيفة التي لم تتأكد من المعلومة، اختارت إبرازها على الصفحة الأولى.
وأمام طوفان هذا الخبر الكاذب في قسم كبير من وسائل الإعلام الغربية توجهت وكالة الأناضول التركية بسؤال إلى الجيش الإسرائيلي عن حقيقة جثث الأطفال، لينفي المتحدث علمه بالحادثة، مؤكدًا عدم امتلاكه معلومات حولها. وهو ما نفاه كذلك الأربعاء الصحافي الإسرائيلي أورن زيف، الذي كان متواجداً في المستوطنة، فأكد أن الصحافيين لم يروا أي جثث، وأن جيش الاحتلال نفى علمه بورود تقرير حول جريمة شبيهة.
سيل الأخبار الكاذبة
يقول مدير تحرير موقع مسبار، أحمد بعلوشة، في حديث لـ”العربي الجديد” “انتشرت عدة ادعاءات مرتبطة بعملية طوفان الأقصى. وعمدت وسائل إعلام عالمية إلى تضليل الجمهور بأكثر من صورة، من خلال نشر ادعاءات غير مستندة إلى دلائل: كتلك التي قالت إن المهاجمين اغتصبوا الفتيات في المستوطنات، وآخر تحدث عن قتل 40 طفل، فيما نُشر فيديو مضلل على أنه لأطفال إسرائيليين محتجزين في قفص في غزة. جميع هذه الادعاءات مضللة وغير صحيحة ووصلت إلى ملايين البشر، وشكلت تبييضًا وغطاءً لما تقوم به اسرائيل الآن من مجازر بحق الفلسطينيين. إذ ينشغل العالم كله بما حدث للاسرائيليين، تاركًا الآلاف في غزة يتعرضون للقصف والتهجير، مع سقوط مستمر للضحايا والجرحى”. ويرى بعلوشة أن “الأمر يتعدى التضليل في هذه المرحلة، فهو تضليل ممزوج بالدماء وزهق الأرواح، هناك أناس يفقدون حياتهم بفعل تضليل شاسع تمارسه وسائل الإعلام”.
ويعطي بعلوشة مثالاً على التضليل المرافق للتغطية الصحافية “هناك فيديو شهير لمذيع سي إن إن في إحدى المستوطنات، ينبطح على الأرض وكأنه في ساحة حرب، ليوحي للمشاهد أن إسرائيل تتعرض حالياً لهجوم كبير، فيما يظهر الجنود خلفه واقفين ويتصرفون بصورة طبيعية، فلماذا تتصرف وسيلة إعلامية بهذا الحجم هكذا؟ صناعة الكذب الآن تمارسه وسائل الإعلام التي بالأساس وظيفتها حفظ الحقيقة وتبيانها، وللأسف هذه المعركة أظهرت انحيازات غير مسبوقة”.
في السياق نفسه، يشرح الأستاذ المشارك في دراسات الشرق الأوسط بجامعة حمد بن خليفة في الدوحة، مارك أوين جونز لـ”العربي الجديد” أن هناك سببين لهذا التدفق الجنوني للأخبار الكاذبة “هناك دائمًا أشخاص لديهم أجندات – سواء كانت سياسية أو مالية – يشاركون في نشر المعلومات الكاذبة، للحصول على النقرات والمشاركة (المال)، أو لنشر الدعاية”. ويشرح أنه في ظروف كالتي تعيشها فلسطين حالياً، يكون هناك مزيج من المشاعر الملتهبة، والطلب الكبير على المعلومات، إلى جانب تغير الأحداث السريع، وهو ما يؤدي إلى تفسير خاطئ للمعلومات ونشرها.
انتقال الأخبار الكاذبة من مواقع التواصل إلى صفحات وتقرير مؤسسات إعلامية كبرى يشرحه جونز معدداً 3 احتمالات “قد تكون هذه المؤسسات تسارع للحصول على خبر حصري ونقرات على موقعها، وقد يكون السبب خللا في عمليات فحص الحقائق لديها، وقد تكون بعض الأخبار التي يشاركونها تتناسب مع معتقداتهم الفكرية… في بعض الأحيان عند إعداد تقارير حية خلال الحروب والنزاعات، قد ينقل المراسلون خبراً من دون التحقق منه أو بالاستناد إلى مصدر واحد، كما حصل مع خبر قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين”.
ويشير إلى بعض الحسابات التي تساهم بنشر الأخبار الكاذبة بشكل كبير، بينها حسابات عبر تطبيق تليغرام، وحسابات هندية على مواقع التواصل، تنشر محتوى إسلاموفوبيا في الأساس “بعض الأشخاص الذين يكرهون المسلمين مستعدون لمشاركة المعلومات المروعة من دون التحقق من صحتها”.