السنن الإلهية في معركة طوفان الأقصى.
وصفي عاشور أبو زيد*
تعتبر السنن الإلهية كلية من كليات الدين تنضاف لكليات أخرى مثل: كلية العقيدة، وكلية الأخلاق، وكلية المقاصد، وغيرها، وهذه السنن هي عادة الله تعالى مع خلقه بحيث يقع للثاني ما وقع للأول بناء على فعله.
ولقد قصر المسلمون كثيرا في الاهتمام بالسنن الإلهية، وهو مبحث بعيد الخطر عظيم الأثر إذا اهتم المسلمون به، فقد بنى الله تعالى الحياة والأحياء على هذه السنن، فمن أخذ بها تقدم وتصدر وظهر وانتصر حتى لو كان كافرا، ومن أهملها واتخذها وراءه ظهريا تخلف وانتكس وتقهقر وانهزم حتى لو كان وليًّا مؤمنا، على أن مقتضى الإيمان هو إعمال هذه السنن، والأقدار تقتص من المفرطين المقصرين كما تقتص من الظالمين المعتدين.
السنن الإلهية لا تتجلى إلا في ميدان الحياة، وبين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، هنا فقط تتجسد السنن الإلهية وآثارها ومقتضاها على الواقع العملي، وتشخص لكل ذي عينين
السنن الإلهية في القرآن الكريم
القرآن مليء بذكر “السنن الإلهية” سواء كانت في الكون، أو في الأفراد، أو في المجتمعات.
ومادة “سنن” في القرآن الكريم – كما يذكر د. محمد صالح المنجد في محاضرة له – وردت مفردة، ووردت جمعا، ووردت بالإضافة، ووردت بلا إضافة؛ فقد وردت ست عشرة مرة، في إحدى عشرة آية، في عشر سور؛ حيث جاءت بصيغة الجمع: مرتين:
إحداهما: مضافة، والأخرى غير مضافة، فقال تعالى: ﴿سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [النساء: 26] يعني: طرق هؤلاء في اتباع ما جاءت به الرسل ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني: كيف اتبعوا الرسل، كيف آمنوا، كيف صدقوا، كيف جاهدوا، كيف نصحوا، قاموا بالأمر: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من أنصار الرسل، من أعوان الرسل، يعلمكم كيف كان أنصار عيسى مثلاً، كيف كان المؤمنون بموسى، وهكذا.
والثاني: قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] يعني: وقائع لله -تعالى- أوقعها بالأمم.
أما صيغة الإفراد، وردت أربع عشرة مرة، كلها مضافة، أُضيفت تارة إلى الأولين، فقال: سُنَّةُ الأَوَّلِينِ أربع مرات.
وأُضيفت إلى لفظ الجلالة: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأحزاب: 38] في مرتين: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ [غافر: 85]. ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ [الفتح: 23].
ووردت مضافة إلى لفظ الجلالة بصيغة: “سنة الله” وتدل على خاصية من خواص: “السنن الإلهية” في صيغ أربع على التوالي: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].
ووردت مضافة إلى ضمير الجلالة، تدل على خاصية من خصائص السنن: ﴿وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 77].
إن ورود هذا الجذر اللغوي “سنن” في القرآن الكريم بهذا الحجم، وبهذا التنوع في الصيغ، ليشير إشارة واضحة إلى الأهمية الكبيرة التي يحتلها موضوع هذا الجذر، ومع هذا لم نجد المسلمين على مستوى هذه الأهمية، في الاهتمام بالسنن تأصيلا وتنزيلا.
من السنن الإلهية التي تجلت في مشهد طوفان الأقصى سنة التدافع؛ فلا يمكن أبدا أن يتجلى الحق ويبرز الباطل إلا بإعمال سنة التدافع، ولولا هذه السنة لاختلطت الأمور وفسدت الأرض
السنن الإلهية تتجلى في أرض الميدان
السنن الإلهية لا تتجلى إلا في ميدان الحياة، وبين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، هنا فقط تتجسد السنن الإلهية وآثارها ومقتضاها على الواقع العملي، وتشخص لكل ذي عينين: يراها، ويتتبع آثارها، ويلحظ مقتضاها يعمل على الأرض عمله، ويفعل فعله؛ بناء على كسب البشر وفعل البشر.
ولقد مثلت معركة طوفان الأقصى مسرحا كبيرا تجسدت على خشبته السنن الإلهية: الكبرى منها والصغرى، والكبرى مثل: التدافع، التغيير، الأخذ بالأسباب، الاستعمال، الاستبدال، النصر، التمكين، والصغرى هي القوانين المتفرعة على الكبرى، وهو ما يذكرنا بالقواعد الفقهية، منها قواعد كلية كبرى، ومنها قواعد صغرى وهي التي تتفرع على الكبرى وتندرج تحتها، وفي السطور الآتية نتحدث عن بعض السنن على سبيل المثال من خلال مشهد معركة طوفان الأقصى:
سنة التدافع
من هذه السنن الإلهية التي تجلت في مشهد طوفان الأقصى سنة التدافع؛ فلا يمكن أبدا أن يتجلى الحق ويبرز الباطل إلا بإعمال سنة التدافع، ولولا هذه السنة لاختلطت الأمور وفسدت الأرض، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد، كما عبر القرآن الكريم في موضعين، الأول: قوله تعالى: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [البقرة ٢٥١]. والثاني قوله عز من قائل: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰمِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰتࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾ [الحج ٤٠].
وفي معركة طوفان الأقصى تتجلى هذه السنة، فهذا العدو المحتل لن يرحل بالسلم ولا بالمفاوضات ولا بمجلس الأمن ولا بهيئة الأمم، وإنما بالانسلاك في التدافع الذي يقتضي المقاومة الجهادية بالسلاح الرادع لهذا العدو، والمضعف له، والدافع نحو إجلائه، وإلا فإن الأرض لا تتحرر بالسلام والوئام وتقسيم الأرض، وإنما بالجهاد، والجهاد وحده، فلا عز إلا بالجهاد، وما ترك المسلمون الجهاد إلا ضرب الله عليهم الذل حتى يرجعوا إلى دينهم.
سنة الأخذ بالأسباب
من السنن المهمة سنة الأخذ بالأسباب، ولو تأملنا سير الأنبياء لوجدنا ذلك متجسدا في تاريخ دعوتهم لأقوامهم، ولا نجد أفضل من سيرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فكل سيرته أخذ بالأسباب المادية والمعنوية، وحسبنا فقط التأمل في الحدث الذي غير مجرى التاريخ وهو الهجرة النبوية، فإن كل ما فيها أخذ شامل بالأسباب المادية والمعنوية بما يقوم نموذجا يحتذى وبه يقتدى.
وإن مقاومة المحتل لابد لها من الأخذ بالأسباب، وذلك يكون بإعداد القوة اللازمة لمقاومة هذا المحتل وتحرير الأرض والمقدسات، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال ٦٠].
قال العلامة جمال الدين القاسمي: “دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، اتقاء بأس العدو وهجومه، ولما عمل الأمراء بمقتضي هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزا عظيما، أبي الضيم، قوي القنا، جليل الجاه، وفير السنا؛ إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الإفطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم، وقادة مشعوب، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض؛ ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية، ولا ترى فيها معامل للأسلحة، وذخائر الحرب، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو؟ أما آن لها أن تتنبه من غفلتها، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله، فيقضي – والعياذ بالله – على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار، وبالله الهداية”. محاسن التأويل: 5/ 316.
وننبه هنا إلى أن الأخذ بالأسباب يكون شاملا، أسباب محسوسة مادية، وأسباب معنوية إيمانية، وهذا ما لا يتوفر لأمة غير أمة الإسلام، فالأمم الأخرى تؤمن بالأسباب المادية، وترى بها أنها قادرة على كل شيء، لكن أسباب الإيمان واليقين ليست لأمة سوى أمة الإسلام، ولا يتحقق النصر إلا بتعانق الأسباب المادية والمعنوية معا.
نحن نرى بإذن الله تعالى أن معركة طوفان الأقصى قد تحقق فيها النصر للمسلمين بالفعل وذلك منذ يوم السابع من أكتوبر 2023م، وهم بهذه المعركة في طريق التحرير الذي بدأت تلوح بشائره في الأفق.
سنتا النصر والتمكين
لا يتحقق النصر إلا بالتدافع، ولا يكون التدافع إلا بالأخذ بالأسباب، وهذا يقتضي التغيير في القناعات والواقع، وتغيير ما بالأنفس، كما أنه يعني الاستعمال وليس الاستبدال، ومن هنا فإن السنن الإلهية منظومة متكاملة يتحرك بعضها مع بعض، ويرتبط بعضها ببعض.
والله تعالى قد بين معالم النصر في القرآن الكريم، فقرر أن النصر من عند الله: “﴿وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ العزِيز الحكيم﴾ [آل عمران ١٢٦]، وبين أن الله لا ينصر قوما إلا إذا نصروه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ [محمد ٧]. ونصر الله يتجلى في طاعته والقيام بمقتضى منهجه ومتطلبات شرعه.
وقد يتحقق النصر لكن لا يتحقق التمكين، فسنة التمكين لها قوانينها ومعالمها، وبناء على ذلك فإن كل تمكين يعد نصرا؛ لأنه لا يكون إلا به أو بعده، وليس كل نصر تمكينا، فكم حدثت انتصارات شكلية، لكن لم يترتب عليها تمكين، ولا يتحقق التمكين إلا بعد النصر.
ونحن نرى بإذن الله تعالى أن معركة طوفان الأقصى قد تحقق فيها النصر للمسلمين بالفعل وذلك منذ يوم السابع من أكتوبر 2023م، وهم بهذه المعركة في طريق التحرير الذي بدأت تلوح بشائره في الأفق، فقد كنا نستبعد التحرير أو اقترابه، لكن معركة طوفان الأقصى جعلت النصر ممكنا، والتحرير في الأفق باديا.
وهكذا فإن التأمل في مشهد طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهية أمر بالغ الأهمية والخطر، وهو ما يجعل المسلمين يعيدون النظر في واقعهم، وفي تصورهم، وفي ثقافتهم، ويجعلوا للسنن الإلهية منها مكانا عليا؛ فلا أمل في نهضة ولا نصر ولا رفع راية للإسلام، أو صناعة مشروع لنهضة المسلمين إلا والسنن الإلهية في القلب منه، تلك السنن التي أقام الله عليها الحياة والأحياء، والكون جميعا.
* وصفي عاشور أبو زيد
أكاديمي مصري، وأستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، وعضو عدد من المؤسسات العلمية العالمية.
المزيد من المدونات.