مجرد رأي

أين الأُمَّة؟!

الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن والَاه، أمّا بعد:
فقد استُبيحَت الأُمّةُ في أكثرِ مِن مَوقِعٍ وأُهِينَت في أكثرِ مِن مكانٍ وأُذِلَّت في أكثرِ مِن سَاحةٍ وهُزِمَت في أكثرِ مِن مَيدَان: قُتِّلَ رِجالُها واغتُصِبَ نِساؤها وذُبِّحَ أطفالُها وجُوِّعَ شُيوخُها، هُدِّمَت المَنازِلُ ودُمِّرَت المَساجِدُ ومُزِّقَ القُرآنُ ودُنِّسَت المُقدَّسَات… كلُّ ذلك على مَرأَى ومَسمَعِ الأُمّة التي خَنعَ أكثرُها لِطَواغِيت تلاعَبُوا بالقُرآنِ وغَيَّبُوا شَريعَةَ الرَّحمَن ووالُوا الكُفَّارَ وعَطَّلُوا الجِهادَ وحَارَبُوا الدُّعَاةَ والعُلمَاءَ وسَمَحُوا لِلغَزو الفِكْريِّ أنْ يَنخرَ في عقولِ الأجيال ونَشرُوا الفِسقَ والمُجونَ في المُجتمعاتِ الإسلامِية التي ضَاعَت عِزَّتُها وأُهدِرَت كَرامَتُها وسُرِقَت ثَرواتُها وغَابَ تَأثيرُها فعاشَت التِّيه والضَّياع لِدرجةِ أنَّ أكثرَ أفرادها استمْرَأوا الذُلَّ ولم يَبقَ لهم في الحياةِ غاية إلَّا إشباع رغباتِهم وشَهواتِهم مع الإغراقِ في التَّفاهاتِ بل وأبْغضُوا كلَّ سَببٍ ومُتسَبِّبٍ في ضياعِها أو إنقاصِها حتى لو كان في سبيلِ إقامةِأين الأُمَّة؟! الدِّين الذي لم يرفعوا به رأسًا ولم يرَوا في ضياعِه بأسًا..
ورغم ذلك لا تخلُو الأُمّة مِن الخيرِ في كلِّ زمانٍ ومكان، فأهلُ الصّدقِ والغَيرَة-على قِلَّتِهم-بذلُوا وسعَهم في العِلاجِ وفْق اجتهادِهم: فمَن رأى أنَّ مشكلةَ الأُمّة الأكبر هي الجَهل ركَّز على جانبِ العِلم تعلُّمًا وتعلِيمًا وحشدَ النُّصوصَ الشَّرعيّةَ التي تتحدثُ عن فضلِ ما يقومُ به، ومَن رأى أنَّ المُشكلةَ في المَعاصِي والمُنكرات كان تركيزُه على الدعوةِ إلى الخيرِ مع الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكَر وحشدَ النُّصوصَ الشَّرعيّةَ التي تتحدثُ عن فضلِ ما يقومُ به، ومَن رأى أنَّ مُشكلةَ الأُمّة في تغييبِ حُكم الشَّريعَة كان تركيزُه على هذه القضية وحشدَ النُّصوصَ الشَّرعيّةَ التي تتحدثُ عن خطورتِها وأهميتِها، ومَن رأى أنَّ المُشكلةَ في تركِ الجِهاد ركّزَ عليه وحشدَ النُّصوصَ الشَّرعيّةَ التي تتحدثُ عن فضلِه وأهميتِه، ومِن المُجتهدينَ في إصلاحِ الأُمَّةِ مَن رأى أنَّ البِدايةَ تكونُ مِن إصلاحِ النّاس والمُجتمَع ومِنهم مَن رأى أنَّها تبدأُ مِن الرأسِ والسُّلطَة وكلٌّ له أدلتُه والكُلُّ عندَه مِن الصِّدقِ ما عندَه، ولو أنَّهم تَعاونُوا وتَناصحُوا وتَحابُّوا واعتبرُوا خِلافَهم خِلافَ تَنوّع لا تضَاد لَتغيَّرَ الحال وربمَا تحقَّقَ الهدف، إلَّا أنَّ كثيرًا مِنهم حبسَ نفسَه في الجانبِ الذي أوصلَه إليه اجتهادُه، بل هناك مَن حبسَ نفسَه في الجانبِ الإغاثِي بِناءً على نَظْرةٍ رآها، ولمَّا تعصَّبَ كُلُّ فَريقٍ لِرأيه ولم يَقبلْ الآخَر وُجِدَت الحِزبيَّةُ المَقِيتَةُ التي فَرَّقَت الأُمّة على تَفرُّقِها وشَتَّتَت شَملَها على تَشَتُّتِها فازدَادَت ضَعفًا على ضَعف، والخُلاصَةُ: أنَّه لن يقومَ بهذا الأمر إلَّا مَن أحاطَه مِن جميعِ جَوانِبِه…
وقد انْطلقَ جميعُ مَن ذَكَرنَا في تطبيقِ تصوراتِهم النَّظرِيَّة فاصطدَمُوا بالواقعِ وعقباتِه وواجهوا الصُّعوبَات والضُّغوطَات والمُحارَبَة مِن كُلِّ الأطرافِ والجِهات والمُواجَهَة بالإغراءِ والعَداء بالترغِيبِ والترهِيب بالجَزرةِ والعَصا فكانت الانْتِكَاسَات والمُراجَعَات والتَّغَيُّرَات حتى آثَرَ البعضُ منهجَ السَّلامَة على سلامَةِ المَنهج، ونَسِيَ البعضُ الهدفَ الذي انطلقَ مِن أجلِ تحقيقِه…
وإنْ سألتَ اليوم عن الأُمّةِ بأفرادِها وجماعاتِها فليسوا سَواء: كَمٌّ كبِيرٌ مِن المُنافِقِين، وأعدادٌ هائِلةٌ مِن الفَاسِقِين، وجُموعٌ غَفِيرةٌ مِن الذين استمرَأوا الذُّلَّ فلا تَعنيهِم قضَايا الأُمّة ولا يَعيشُونَ إلَّا لأنفسِهم وأهليهِم ودُنياهم وقد يكون بعضُهم صالِحًا في نفسِه، أمَّا القِلّة القَليلَة مِن الصَّادِقِينَ المُخلِصِينَ الغَيورِين المُصلِحِينَ المُجَاهِدِينَ العَامِلِينَ البَاذِلِينَ فقد دَفعُوا ضَريبَةَ كَرامَتِهم إذْ حُورِبُوا ولُوحِقُوا وأُوذُوا في سَبيلِ الله فمِنهم المَقتُول ومِنهم المَغدُور ومِنهم المَسجُون ومِنهم المُشرَّد ومِنهم ومِنهم ومِنهم….
وإنْ كانت الأُمّةُ لا تُنصَر إلَّا بالأُمّةِ فإنَّ الواجِبَ على كُلِّ واحِدٍ مِنّا أنْ يُصلِحَ نفسَه وأنْ يقومَ بدورِه فيمَا يُحسِن، ويَسعَى مع الصَّلاحِ إلى الإصلَاح، ولن نعجزَ أنْ نجِدَ مَكانًا فالثُّغورُ مُشرَعَة والأبوابُ على مِصرَاعَيهَا، وعلينا أنْ نعلمَ أنَّ واجِبَ الوقتِ هو جمعُ كلِمَة الأُمّة على كَلِمَةِ التوحِيد والاعتصَام بحبلِ اللهِ جميعًا ورصّ الصُّفوف كالبُنيان، وفي سَبيلِ ذلك نتخلَّى عن الأنانيةِ والحِزبيّةِ والمَصالِحِ الشَّخصِيّةِ والكِبرِ والعُجبِ والغُرورِ وأمراضِ القُلوب، ونُعالِج العُقَد النَّفسيَّة التي يَنبَنِي عليها انْشِغال أهل العِلم وطلبَته ببعضِهم البعض..
هذا المَيدانُ يا أهلَ الغَيرَة فأين رِجالُه؟!
أمَّا إذا بقيَ السؤالُ قائِمًا: أين الأُمّة؟! وبَقِيتْ الأُمّةُ تَنتَظِر الأُمّة فلنْ تَقومَ للأُمّةِ قَائِمَة، و{للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}.

مِن غزّةَ المُحاصَرَة المُرابِطَة المُجاهِدَة، أَخُوكُم: أبو البراء، ياسر
الأربعاء ٢٠/ربيع الآخر/١٤٤٦ه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى