الفيلم الفلسطيني «اصطياد أشباح».. وفنون المقاومة
الفيلم الفلسطيني «اصطياد أشباح».. وفنون المقاومة | شيرين ماهر.
عن مجلة قناص.
حصد فيلم «اصطياد أشباح» جائزة مهرجان برلين السينمائى الدولي كأفضل فيلم تسجيلى وثائقي بالدورة الـ 67
«فلسطين، قضية تأبى النسيان».. شعبها لا يٌباد، ويتقن فنون المقاومة. يمكنه ترويع العدو بقلم وفرشاة وعدسة وحجارة. يجيد الترميز وربط كل التفاصيل بقضيته الأزلية.. لا ييأس ولا يستسلم لقانون الزمن.. أطفاله ملائكة يمنحون الأرض مزيد من القدسية والصمود بدمائهم الطاهرة.. شبابه عَصي على التركيع والترهيب.. شيوخه يروون الأقصوصة العتيقة كـ “التكبيرات” في آذان الأجيال الناشئة حتى ترسخ القضية في الوجدان ولا يضيع مفتاح الدار المُعلَق بالأعناق حتى تحين ساعة الاسترداد.. وكذلك، فنانوه يُذهِلون العالم باستخدام رشيق لأدوات القوى الناعمة حتى أصبحت مدوية كطلقات الرصاص، لكنه رصاص من نوع خاص، يخدش الضمير وينبش الذكرى ويطعن العدو في عين لصوصيته.
يقول المخرج الفلسطيني رائد أنضوني: الفنون ليست رفاهية، بل أمل البشرية فى الإفلات من خِناق العنف والتجارب القاسية.. بهذه العبارة الرائعة شرح رؤيته الخاصة التى تبناها في فيلمه التسجيلي الوثائقى «اصطياد أشباح»، الذي تم عرضه الأول ضمن قسم البانوراما التسجيلية بالدورة الـ 67 لمهرجان برلين السينمائى الدولي (2017)، حيث استطاع الفيلم أن يحصد جائزة المهرجان كأفضل فيلم تسجيلى وثائقي، وهي المرة الأولى في تاريخ المهرجان التي تُمنَح فيها هذه الجائزة لفيلم فلسطيني، الأمر الذي كان له دلالته السياسية الهامة، التي تُعَد بمثابة إعتراف دولي بقيمة هذا الفيلم وما حمله من رسائل للعالم. يقول الكاتب الألماني René Wildangelعن الفيلم: تجارب مخيفة ونوبات ذعر وهلع، وصمت، وصوت صفع أبواب الزنازين وزمجرة الحراس وصراخهم. هكذا تبدأ القصة مع أشباح مخرج العمل. وأضاف: أن الفيلم بمثابة علاج للصدمة ويتيح الفرصة لمناقشة مشكلة مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين السابقين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. بيد أنه، قبل كل شيء، فيلم مثير للإعجاب حول أبسط مبادىء الحقوق الإنسانية.
لقد أثبت فيلم «اصطياد أشباح» بانتزاعه جائزة دولية بهذا الثِقل من أحد أكبر وأشهر المهرجانات السينمائية في العالم، أن الفنون هي الأجدر على توثيق تجارب البشرية التى يصعب الحديث عنها، بما لديها من قدرة على الإختراق الحسي وطرح الكثير من المعضلات، التى قد تعجز كافة وسائل التعبير الأخرى عن استعراضها. الفيلم من إنتاج فرنسى- سويسري مشترك وبتمويل من صندوق الثقافة العربية «أفاق». ويعد تجربة فريدة من نوعها في عالم السينما الوثائقية، حيث اعتمد على المزج بين الخط الروائى والوثائقي بصورة تحاكي الواقع لأقرب درجة ممكنة، كما استطاع خلق لغة سينمائية مبتكرة في طريقة التعاطي مع قضية المعتقلين داخل مراكز التحقيق الإسرائيلية، وتسليط الضوء على الوحشية غير المبررة التي تمارسها قوات الاحتلال دون مرعاة أبسط الحقوق الانسانية.
لم تكمن مهمة رائد أنضوني في جمع الحقائق أو إثباتها. لكنه تناول هذا الموضوع بطريقة فنِّية سينمائية خاصة به. واهتم بالكشف عن الصدمات والمشاعر و«الأشباح»، التي تظل تطارد المعتقلين السابقين حتى يومنا هذا. كما اعتنى بتجربة الاعتقال الفلسطينية الجماعية، ولكن وفي المقام الأوَّل بتجربة الاعتقال الفردية الإنسانية، وتجربة العنف والإذلال المعايش هناك وعواقبها، إذ لم يكن «أنضوني» مجرد مخرج فلسطينى يوثق أحد أهم قضايا بلده فحسب، وإنما كان أحد مَن طالتهم هذه المعايشة القاسية، حيث خاض تجربة الاعتقال فى سن الثامنة عشر من عمره داخل سجن «المسكوبية»، وبعد أن أُطلِق سراحه، قرر كتابة يومياته داخل المعتقل بصورة روائية. لكن بعد أن إلتقى بمعتقلين سابقين، أدرك أنه بحاجة إلى تطوير محتوى الفيلم، حتى يرقى إلى مستوى الحقيقة، التي تطوي بين جنباتها تفاصيل أكثر عمقاً من التجارب الفردية. ومن هنا قرر الاستعانة بمعتقلين حقيقيين سواء في التمثيل أو في الإشراف على التفاصيل التي يقوم بها بعض الممثلين نيابةً عنهم، وذلك لتثمين الأداء وتطعيمه بالانفعالات الحقيقية المتولدة عنهم، والتي يصعب أن يجاريها أبرع الممثلين فى مدى صدقها وعمقها.. وكانت البداية عندما قرر أنضونى نشر إعلان بجريدة «رام الله»، يطلب فيه من سجناء سابقين (تعرضوا لتجربة الاعتقال) التمثيل في الفيلم، وقد لاقت فكرته تجاوبًا ملحوظاً من جانب المعتقلين.
دارت أحداث فيلم «اصطياد أشباح» حول تجربة الاعتقال بشكل عام، مع تسليط الضوء، تحديداً، على سجن المسكوبية الاسرائيلي بالقدس، نظراً للممارسات القاسية وأعمال التعذيب التى يتعرض لها سجناءه من جانب المحققين الإسرائيلين. والواقع عَمد أنضوني لخوض مقامرة نفسية قاسية، عندما طلب من المعتقلين الذين قرروا الاشتراك معه فى العمل، إعادة بناء جدران زنازينهم لتدور داخلها من جديد كواليس ما تعرضوا إليه من عمليات تعذيب وإهانة ونبش ذاكرتهم العميقة لملامسة أوجاعهم المخباة بقبو أرواحهم. ومما لا شك فيه شكلت مرحلة بناء السجن على أرض الواقع مسرحاً موجعاً تلاطمت بين أركانه أمواج البكاء ونوبات البوح، الأمر الذى استلزم وجود مجموعة من الأطباء النفسيين مع الممثلين خلال التصوير لاحتواء انفعالات شخصيات الفيلم والتعامل معها بصورة متوازنة، حيث انضم مدير برنامج الصحة النفسية بجمعية الهلال الأحمر فتحى فليفل إلى طاقم العمل، وذلك للتشاور حول كيفية إدارة هذه التجربة من الناحية النفسية، والتى اهتمت بها فيما بعد جمعية الهلال الأحمر واعتبرتها من التجارب البحثية وليست السينمائية فحسب، التي يمكن الاسترشاد بها فى سبل التعامل مع المعتقلين بخلفياتهم النفسية المتباينة.
يقول أنضوني: لا بدَّ للمعتقل أن يقضي على الأشياء التي ترهقه وتُثقِل عاتقه، وإلاَّ فإنَّها سوف تقضي عليه. ومع ذلك كان يشعر أنضوني بما يشبه تأنيب الضمير، لأنَّه أدخَل هؤلاء الأشخاص في هذه العملية. لكنه حرص على تركهم على راحتهم، حيث كان بإمكانهم الذهاب في أي وقت أو المضي قُدماً دون قيود زمنية. وقد عمل رائد أنضوني على سيناريو «اصطياد أشباح» لقرابة سنتين، فيما جرى تصميم المشاهد في مكان التصوير بشكل ارتجالي، حيث تلاشت في هذا العمل جميع الحدود ما بين الفيلم الوثائقي والروائي، وبين التجربة الاجتماعية والعلاج الجماعي، وبين الواقع والخيال.
ومن بين أبرز النصائح النفسية التى ارتكز عليها كواليس العمل هي «إطلاق سراح الوجع من داخل السجناء وإعطائهم فرصة للتصريح، دون إيقاعهم تحت الضغط النفسي الزائد وترك مساحة من الحرية تسمح لهم بالانسحاب أو الاستمرار حسب طاقاتهم الاحتمالية».. وهذا بالفعل ما جرى، فهناك مَن تأذى وانسحب، وهناك من حطم حواجزه النفسية وآثر الاسترجاع والاستمرار. لقد حاول أنضوني من خلال فيلم «اصطياد أشباح» تقديم معالجة وجدانية جماعية لأولئك المعتقلين، خاصة وانه ينتمى لهم، فأراد أن يهزم أشباح تجربته الشخصية بصناعة فيلم يجسد فيه شخصيته الحقيقية كمخرج، وأيضًا تجربته كـ «مُعتقَل» من خلال استعراض حاضر أبطاله فى ظل محاكاة مستمرة تفرضها عليهم ذكريات الاعتقال التى جعلتهم يحملون السجون بداخلهم رغم كونهم أصبحوا خارجها.
كذلك كشف فيلم «اصطياد أشباح» عن آلام المعتقلين التي لا تزال حية، وتشبه ناراً تحت الرماد، فإذا ما قابلها بعض الإزاحة، توهجت واشتعلت من جديد، فأغلب السجناء يحملون تشوهات نفسية مُركَبة، يحاول بعضهم هزيمتها بإعادة معايشتها والحديث عنها ولطمها مئات المرات حتى تتضاءل وتذوي بلا توحش يطارد حاضرهم، بينما يعجز البعض الآخر عن هجر إرثه من الألم والتنكيل.. وفي ظل هذا الصراع النفسي الشائك حرص أنضوني على إبراز مواهب بعض شخصيات العمل التي تنوعت ما بين الشعر والرسم، خاصة وأن فترات الاعتقال وفقدان السيطرة على النفس والجسد تجعل من المخيّلة الملاذ الوحيد، بل والمُتنفَس الأمثَل لمواجهة أشباح التجربة، وتصيُدها عندما تقترب من الطفو بفعل المواجهة المستمرة.
ومن هنا اتضحت العلاقة الوثيقة بين عنوان فيلم «اصطياد أشباح» ومضمونه.. فما كان صيد الأشباح سوى تعبيراُ مجازياً يخلق اقتراناً بين أشباح الذاكرة وأشباح الواقع، فى محاولة لإطلاق سراح كليهما وتحرير ما تبقى من حطام تلك النفوس المثابرة التي لم ينجح كل هذا الشقاء في تركيعها، فكثيراً ما هزموا البكاء بضحكاتهم الهيستيرية، كي يُنكلوا بهذا الألم المُبرِح الذي طعن بداخلهم بشارات المستقبل.. لكن الصوت الجهور بالحق حتماً يصل، وهذا ما استشعره طاقم العمل بعد اقتناص هذه الجائزة الدولية بجدارة تليق كثيراً بتجربتهم السينمائية المُلهِمة، التى يراها الكثيرون من صُناع السينما تجربة جديرة بالتأمل والمحاكاة، نظراً لنجاحها في حياكة مثل هذه المزاوجة الدقيقة ما بين الواقع والفن على طاولة التجارب الحقيقية.. ويبقى الفن آداة مذهلة لتوثيق التاريخ وعدم إسقاط الحقوق بالتقادم.