أناشيد الثورة الفلسطينية: المقاومة في سيرة من الأغاني.
.
محمد السيد الطناوي
موقع: العربي الجديد
“هذا صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية يحييكم ويلتقي بكم، مؤكداً عهده معكم على مواصلة مسيرة النضال بالكلمة الأمينة، المعبرة عن الطلقة الشجاعة، من أجل تحرير كامل الوطن المحتل، بالجماهير العربية، معبأة ومنظمة ومسلحة، وبالحرب الثورية الطويلة الأمد أسلوباً، وبالكفاح المسلح وسيلة، حتى تحرير فلسطين… كل فلسطين”.
بهذه الكلمات كانت الإذاعة الفلسطينية تفتتح برامجها. يتخلل العبارات النشيد الوطني الفلسطيني “فدائي”، لتتابع الإذاعة بعدها بث الأغاني الثورية التي أفردت لها مساحة واسعة في نفوس مستمعيها، ربما لم تعد حاضرة اليوم كما كانت بالأمس.
لا يعود غياب هذه الأعمال الغنائية القديمة إلى حلول أخرى حديثة محلها، بقدر ما حاصر القديم والحديث إرهابٌ ودمارٌ غير مسبوقين، أذهل مستمعي اليوم عما كان يبث الحماسة ويلهب مشاعر مستمعي الأمس في كل موقعة، وفي محاولة لكسر هذا الحصار. نستعيد نماذج من الأناشيد القديمة والحكايات التي نظمتها، لتقود تلك الأناشيد الكفاح الفلسطيني المسلح زمناً طويلاً.
“جفرا وهيا الربع/ جفرا يا هالربع نزلت على العين/ جرتها فضة وذهب نزلت على العين/ جفرا يا هالربع ريتك تقبريني/ وتدعسي على قبري يطلع بير مية”. تقول الحكاية إن شاعراً من الكويكات، يدعى أحمد عبد العزيز الحسن، أحب ابنة عمه وتزوجها، لكنها تغادر بعد أيام إلى منزل أسرتها غاضبة وطالبة الطلاق. وفشلت كل محاولاته ليقنعها بالعودة، ليرضخ في النهاية ويطلقها. تتزوج بعدها ابن خالتها، لكن هذا لم يمنع شاعرنا من أن يظل على حبه، لينظم هذه القصيدة لدى رؤيته لها مرة، وهي تحمل جرة ماء في طريقها لملئها من العين، إلا أنه استبدل اسم حبيبته رفيقة بجفرا، مراعاة للتقاليد.
تناقل أهل البلدة القصيدة، وتسللت إلى أعراسهم ومناسباتهم المختلفة أغنية، ثم انتشرت بعدها في عموم فلسطين لتمسي أقرب إلى أن تكون قالباً غنائياً، إذ تتبعت أثرها عشرات الأغنيات التي سميت أو بدأت بالكلمة نفسها؛ جفرا.
هناك أيضاً “سجن عكا” التي تقول: “فوج الثورة الأول هم/ ثلاث رجال وثلاث زنازين/ والتهمة حب فلسطين/ والحكم الصادر إعدام/ يا عطا الزير/ يا فؤاد حجازي/ يا جمجوم/ يا ثلاث نجوم/ فوق أرض بلادي بتحوم/ وطلعت من عكا جنازة لثلاث طيور/ تتدلى من قلب العتمة وتفرش/ وطني بحزمة نور”.
هذه من أشهر الأناشيد الفلسطينية التي تسرد حكاية الأبطال الثلاثة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، الذين تصدوا ومعهم العشرات لمظاهرة صهيونية ضخمة، انطلقت في شوارع القدس في مناسبة ذكرى تدمير هيكل سليمان، في 14 أغسطس/آب 1929.
استهدف المتظاهرون بلوغ حائط البراق، ليتصدى لهم الفلسطينيون. نتيجة لذلك، ألقت قوات الاحتلال البريطاني القبض على أبطالنا و23 فلسطينياً، حكمت عليهم بالإعدام جميعاً، إلا أنه جرى تخفيف الحكم لاحقاً إلى السجن المؤبد، عدا جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، لينالوا الشهادة.
نستعيد، كذلك، نشيد “باسم الله باسم الفتح/ باسم الله باسم الفتح/ باسم الثورة الشعبية/ باسم الدم باسم الجرح/ اللي بينزف حرية/ باسمك باسمك يا فلسطين/ أعلناها للملايين/ عاصفة عاصفة عاصفة”. هذا النشيد كتبه الشاعر الفلسطيني صلاح الدين الحسيني (أبو الصادق)، ولحنه الملحن المصري عبد العظيم محمد. كان نشيداً لـ”العاصفة” الجناح العسكري لحركة فتح، وجرى اعتماده شارة خاصة بالإذاعة الفلسطينية التي سميت بالاسم نفسه “صوت العاصفة”.
ويحكي الإعلامي الفلسطيني فؤاد ياسين (أبو صخر) أنهم جاؤوا بالحسيني وعزلوه عن العالم الخارجي في إحدى غرف الإذاعة، وطالبوه بأن يكتب نشيداً يعبّر فيه عن الموقف الفلسطيني من القضية، لتكون النتيجة هذا النشيد الذي كانت “صوت العاصفة” تفتتح به برامجها وتختم به إرسالها.
ومن الأغاني الشعبية الشهيرة، “يا ظريف الطول”: “يا ظريف الطول يا ابن خالاتي/ أنا لاكتب المكتوب وألفو بشالاتي/ في ظريف الطول مضاني حالنا/ يا ظريف الطول والله إنك ظريف/ عذبت قلبي يابو الخد النظيف/ يا مين يحب الله ويعطيني رغيف/ من خبز المحبوب يكفيني سنة”.
تعود حكاية هذا النشيد إلى أيام الانتداب البريطاني في فلسطين، أما بطلها فشاب تميز بين أهالي بلدته بطوله الفارع، وكان يعمل نجاراً. في أحد الأيام، هاجمت القرية إحدى العصابات الصهيونية، واستشهد جراء ذلك ثلاثة رجال. استنفر هذا مشاعر النجار ليشتري بكل ما امتلكه من مال سلاحاً، وزعه على شباب القرية. وحين عاود الصهاينة هجومهم، تصدى لهم الأهالي، فسقط من الجانبين عدد كبير، بينما استبسل “ظريف الطول” في المعركة وأظهر شجاعة كبيرة، إلا أنه اختفى بعدها ولم يعثر أهل القرية على أي أثر له، انتظروه طويلاً بعدها لكنه لم يعد، لتمسي حكايته أغنية خلّدت بطولته.
من الأناشيد المؤسسة “يا ليل خلي الأسير”: “يا ليل خلي الأسير تيكمل نواحه/ رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحه/ تيمرجح المشنوق من هبة رياحه/ وعيون بالزنازين بالسر ما باحوا”.
يعود هذا النشيد إلى أيام ثورة البراق 1929، أما صاحبه فهو عوض النابلسي، أحد أبطال الحراك الفلسطيني؛ إذ شارك في عمليات استهدفت رجال الاحتلال البريطاني، كذلك المتعاونين مع العصابات الصهيونية، ليقع في أيدي الإنكليز الذين أصدروا بحقه حكماً بالإعدام، وفي ليلته الأخيرة حفر هذه الكلمات على جدران زنزانته في سجن عكا.
في السبعينيات، أصدر ياسر عرفات قراراً بمنع أي أغان أو أناشيد تحمل اسم فتح، بعد إقرار الوحدة الوطنية، وتوحيد العمل النضالي. عندها، اجتمع شاعر الثورة صلاح الدين الحسيني، والملحن مهدي سردانة في استديو إذاعة “صوت فلسطين”، وعزما على كتابة نشيد جديد يلتزم بما أقرته القيادة، وخلال خمس ساعات أصبح النشيد جاهزاً ليسجلاه في الإذاعة في الجلسة نفسها: “طل سلاحي من جراحي/ يا ثورتنا طل سلاحي/ ولا يمكن قوة في الدنيا/ تنزع من إيدي سلاحي”.
في السبعينيات أيضاً، حاصر الاحتلال بلدة دورا في الخليل لأشهر عدة، بسبب خلية فدائية ترأسها باجس أبو عطوان وعلي مليحة، ونشطت الخلية بشكل كبير في تلك الفترة، إذ قامت بعمليات عدة تسببت في خسائر للاحتلال. إلى جانب ذلك، دأب أبو عطوان على الاتصال بالحاكم العسكري، ليخبره متحدياً أنه يتصل من مكتب بريد البلدة، وينتظر ما الذي يقدر على فعله، لتأتي على الفور قوات جيش الاحتلال بحثاً عنه وعن زملائه من الفدائيين، لكن من دون جدوى.
عن هذه الواقعة، كتب محمد حسيب القاضي نشيداً، ولحنه مهدي سردانة: “طوق يا عدو طوق/ مدينتنا وقريتنا وشارعنا وحارتنا/ وَسجّن أهلنا وشنَّق/ يمين الله يمين الله/ عن الثورة ما نتخلى/ ولا بنحيد يمين الله/ طوق يا عدو وانسف منازلنا/ في قلبي بنيت لثورتي بيت/ وعطشنا وجَوّعنا وقتَّلنا ما بنهاجر/ عن تراب الوطن والدار/ ما بنهاجر”.
هذه نماذج لأناشيد وأغان برزت بقوة بعد انطلاق الثورة الفلسطينية 1965، وإن كان بعضها تاريخه أسبق، فكثير منها ينتمي إلى التراث الشعبي، مع ذلك التزمت جميعها بالتعبير عن مأساة الشعب الفلسطيني بصيغة متفائلة تدعو للمقاومة وتحرض على الصمود، وتبث الأمل وتحتفي بالمحبة. وتمييزاً لها، يشار إليها دائماً بالأناشيد القديمة.
أما الأناشيد الحديثة، فقد مالت أكثر إلى الاحتفاء بالرموز الوطنية، في حين تراجع اهتمامها بالجانب الموسيقي، وإن كان هذا لا يمنع أن الحديث مثل القديم وجهتهما واحدة؛ فلسطين المحتلة.